محمد فكري : “رفيقي عبد الواحد بلكبير، نم قرير العين”

رفيقي عبد الواحد بلكبير، نم قرير العين ،،،
بالأمس ودعناك في محفل مهيب، وداعا يليق بمقامك، أنت المناضل الصلد الصامد، والقائد الطلابي الجماهيري الشجاع المقدام، والمناضل اليساري الذي أعطى للممارسة النضالية، الأولوية دون أن تهمل النظرية الثورية، بل كنت تمزج بينهما وتنزل الأفكار والمبادئ لأرض الواقع.
كنت بطلا بأكثر ما في الكلمة من معنى، ومن ينكر أو يحاول التشكيك، فليسأل مراكز التعذيب والمسالخ البشرية، من مسلخ أنفا والكوربيس مرورا درب مولاي الشريف، أو فليسأل السجون العديدة التي مررت منها.
عرفتك لأول مرة بمقر الاتحاد الوطني للقوات الشعبية بمراكش الشهير، والذي كان مقرا لمفتشية حزب الاستقلال في البداية، وأثناء تكوين الجامعات المتحدة لحزب الاستقلال، في 25 يناير 1958، أصبح بقوة السلاح، مقرا لهذه الأخيرة ثم بعد ذلك مقرا للاتحاد الوطني للقوات الشعبية.
وأنت لا زلت تلميذا يافعا، كنت مهموما بمشاكل الوطن، تشغلك أسئلة كبرى تبحث عن إجابات لها، في الوقت الذي كان من هم في سنك، يبحثون عن المتعة وملذات الحياة في حين كنت تعتبرها انشغالات تافهة والأولوية لبناء الوطن.
منذ صغرك وأنت تتميز بالشجاعة والإقدام، لم تكن تخاف الصعاب أو تهتم بحساب الربح والخسارة، بل تقتحم الصعاب غير آبه بالعواقب، لدرجة أن البعض منا كان يعتبرك مغامرا، عندما تقتنع بصحة موقف ما لا تتردد في تبنيه، بل تقوم بتنفيذه فورا.
خبرَت السجون وأنت تلميذ، لما اعتقلت مع مجموعة من رفاقك بعد انطلاق انتفاضة 23 مارس 1965 التي كنت من بين من أشعل شرارتها الأولى، من هؤلاء، عبد الصمد بلكبير، والمرحوم محمد صدقي أمدجر، مع حفظ الألقاب (أعتذر لأني لم أعد أستحضر بقية الأسماء الذين اعتقلوا في ذلك الوقت).
نعم، رفيقي وأخي، توطدت علاقتي بك، وأصبحت لا يهنأ لك بال، إلا إذا جئت لمقر الاتحال لتسأل عني، وتصر على أن تأخذني معك لمنزلكم الواقع بالقرب من المقر، وبالضبط، في درب عرصة أوزال، وعن طريقك تعرفت على الرفيق عبد الصمد بلكبير وعلى إخوانك المرحومان سي محمد، وعبد الحي وأخواتك مرية وأمينة ووالدتك ووالدك، رحمهما الله. كنت إنسانا تؤثر الآخرين على نفسك، ولو كانت بك خصاصة، ومنذ ذلك الوقت، وهذه الخصلة مترسخة فيك إلى آخر يوم في حياتك.
لم تكن تهتم بجاه أو مال أو الحصول على مكاسب، كنت تعشق الصفوف الأمامية في المعارك، وتتراجع للوراء حين تشتعل الكاميرات.
إلى جانب تميزك بالشجاعة والصرامة المبدئية وعدم التنازل عن الكرامة، تمتاز كذلك بروحك المرحة، وجانبك العاطفي، تتأثر بسرعة لرهافة أحاسيسك الإنسانية وصدق مشاعرك الرقيقة، وهذا ليس غريبا، فلو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك.
رفيقي العزيز، لم أصدق أنك لم تعد بيننا، لم أصدق أن الموت سيخطفك منا في يوم ما.
لا أنسى ولن أنس، حين خرجت من السجن المركزي بالقنيطرة أواسط الثمانينيات، أصررت أن أبقى ضيفا لديك لأكثر من أسبوع، قبل أن أذهب لمنزل عائلتي بزعير، التي علمت بخروجي من السجن عن طريق الدرك الذي جاء يسأل عني، وهدد والدي بالاعتقال إن لم أحضر لمركز الدرك بالخميسات لتسجيل حضوري. وبهذه المناسبة تعمقت معرفتي بالرفيقة لطيفة اجبابدي التي سمعت عنها وعن نضالاتها لما كنت بالسجن المركزي، وكذلك عن طريق الجريدة النسائية الرائدة 8 مارس، التي كانت رئيسة تحريرها وكنت أحرص على الحصول عليها وقراءتها وأنا بالسجن.
في بيتكما، أنت والرفيقة لطيفة، شعرت بالدفء الرفاقي والاهتمام العاطفي اللذان يحتاجها من خرج توا من عالم مغلق بين أربعة جدران، إلى فضاء واسع يجد نفسه فيه غريبا ومعزولا، فضاء قد لا يحسن حتى المشي فيه.
نعم رفيقي، غمرتموني، أنت والرفيقة العزيزة لطيفة، بما لم أكن أتوقعه، لم تجعلوني، في أية لحظة، أشعر أني غريب بينكما، بل كنت أحس أنني فرد من الأسرة أتصرف بحرية تامة في الخروج والدخول ولم تتركوني أشعر أنني ضيف لديكما، بل فردا من أفراد أسرتكما، إحساس بالدفء والعناية، لم أحس بمثلهما وسط عائلتي الفعلية.
رفيقي العزيز، أعجز عن تعداد خصالك التي تميزت بها في حياتك، وأختصرها في أنك كنت القائد الطلابي والوطني الصامد والصارم في صراحته وصدقه، لا يخاف ولا يتراجع أو يساوم ويقبل بأنصاف الحلول.
أستسمحك رفيقي، لا أستطيع الإسترسال في الكلام، تغلبني دموعي التي تسبقني في أية لحظة تذكرتك فيها، لقد فقدت الوعي لحظة سماعي عن رحيلك، لأنني أعلم أي رفيق أضعت، وأعلم قيمتك ومكانتك بيننا وحبك للوطن الذي فقد فيك بطلا من أبطاله.
رفيقي العزيز، في توديعك حضر طيف مختلف من الوطنيين من قادة أحزاب ونقابات سابقين ولاحقين، ورؤساء سابقين للاتحاد الوطني لطلبة المغرب وقدماء مسؤوليه، أذكر منهم الاستاذ فتح الله والعلو والاستاذ عبد اللطيف المنوني الرئيسان السابقان لأطم والأستاذ محمد عياد وآخرين أعتذر إن لم أتذكر أسماءهم. كما كان في توديعك رئيس المجلس الاستشاري السابق لحقوق الإنسان الأستاذ أحمد حرزني، وأمينه العام السابق الاستاذ أحمد الهيبة، والرئيس السابق للمجلس الوطني لحقوق الإنسان، الأستاذ إدريس اليزمي، وأمينه العام السابق، الأستاذ محمد الصبار، والرئيسة الحالية للمجلس، الأستاذة أمينة بوعياش وعدد من مسؤوليه.
وشوقي بنيوب المندوب الوزاري المكلف بحقوق الإنسان ورفيقك لثلاث سنوات في السجن المدني بمكناس..
إلى جانب هذا جاء لتوديعك العديد من رفاقك ورفيقاتك ومن قدماء المعتقلين السياسيين والمناضلين الحقوقيين وقادة وأطر 23مارس وإلى الأمام ولنخدم الشعب.. وقادة الاتحاد الاشتراكي والتقدم والاشتراكية
بخلاصة، رفيقي العزيز، كانت جنازتك جنازة وطنية كبرى، تجلى فيها الاجماع الوطني بمكانتك وقيمتك، والاعتراف بما قدمته للوطن من تضحيات جسام.
فنم قرير العين، وسلام عليك يوم ولدت ويوم ناضلت وضحيت وعرفت المعتقلات والسجون، وسلام عليك يوم رحلت ونلت هذا الاجماع الوطني والاعتراف بما قدمته للوطن.
تحية لروحك الطاهرة.
*نقلا عن تدوينة الرفيق محمد فكري.

**الصورة : محمد فكري مع الراحل عبد الواحد بلكبير ومحد احداف وحسن السوسي


اكتشاف المزيد من azulpress.ma

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

التعليقات مغلقة.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. الموافقة قرائة المزيد

اكتشاف المزيد من azulpress.ma

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading