لاشك ان عودة الامازيغ نساء ورجالا الى كتابة لغتهم وتدوين كتبهم بها، وتسمية مواليدهم بأسماء مقتبسة منها، والعودة الى حضارتهم القديمة ستكون أسبابا طبيعية للرجوع الى التذكير بمراسيم الدفن (les rites funéraires ) المعروفة ببلادهم منذ ماقبل التاريخ، ولعل هذا هو ما أراد الكاتب والفنان الامازيغي محمد شاشا ان يترك به وصية لشعبه بان يدفنوه بدون غسل ولا صلاة على مذهب الامام مالك العربي من قبيلة قريش، والذي هو نفسه يفتي ببطلان تلك الصلاة اذا أداها المنافقون..
كانت جنازة هذا الأديب تصنفه ضمن ابطال شعبه حيث دفن وهو يتقدم قافلة هامة ترفرف على روحه وجسده رايات الامازيغ، من مطار سلوان الى راس الماء، كما ترفرف عليه راية البطل محمد بن عبد الكريم الخطابي..
شاءت الاقدار ان تجمعني لفترة من الزمن مع محمد شاشا، وتعرفت عليه عندما عاد من المنفى بعد أسابيع من وفاة الحسن الثاني صيف عام 1999 وقدم عندي بمكتب جريدة “تامازيغت” التي كنّا نصدرها بالرباط في تلك الفترة، وكان من بين المشتغلين بالجريدة الصحافيان الريفيات احمد زاهد ، وجمال الدين العارف، (شاب ريفي هاجر بدوره الى هولاندا وعمل لبعض الوقت مراسلا من هناك لبعض الصحف المغربية) وقدما لي هذه الشخصية المتواضعة، واجرى معه احمد زاهد استجوابين نشرا بالجريدة شرح فيهما بعض تفاصيل هروبه الى الخارج ولجوءه السياسي الى هولاندا عندما كان قبل فراره ينتمي الى المنظمة السرية الى “الامام” التي أفلت من السجن والتعذيب بسببها..
كان يعيش بمرض مزمن في رئتيه يتنفس هواء بلاده بصعوبة ويتناول يوميا الأدوية التي لاتفارقه، لكنه تنفس هواء الحرية والفرح وراحة تخلصه من مرارة المنفى بعد عودته، وازداد حيوية وصحة مكنته من ان يعيش حياة اخرى من سنة 1999 الى يوم دفنه بشاطيء راس الماء Campo de agua الذي ينطقه الريفيون “بصيغة شعبية”. قابو ياوا” يوم 3 يوليوز 2016 ..
ميناء راس الماء هو اقرب نقطة جغرافية من الجزر الجعفرية(Îles Chafarines) على شواطيء قبيلة كبدانة(ايشبدان) الريفية التي تسكن ما بين قرية اركمان ومصب نهر ملوية بالريف..
كانت فرحة محمد شاشا ترتكز عَلى شوقه الى رؤية أمه واخيه وأخته، وتحقق له هذا الهدف، وكان ينوي العودة الى كبدانة ليقضي بها بقية حياته، وينوي ان يستعيد املاك والده الذي كان من قياد قبيلة كبدانة، وكان يشيد بالانفتاح الذي عرفه اليساريون الجذريون في عهد الملك الشاب محمد السادس، الذي يشيد به كثيرا، الا انه اصطدم بواقع مرير مع مشروع انتزاع ملكية ارض والده من عائلته، وضمها الى الملك المخزني في فترة نفيه، بعد ان ارتفعت قيمة املاك شواطيء كبدانة وتوسع العمران في مدينة راس الماء، وحاول استرجاع أملاك عائلته، وعانى من مرارة صعوبة ذلك،وواجه اقسى الصعوبات، حتى فقد من جديد الأمل في الاستقرار ببلده، ولم يجد وظيفة ولا مصالحة ولا انصافا من النوع الذي تمتع به بعض اليساريين من قدماء منظمة الى الامام رغم مكاتباته وشكاياته لأنواع سلطات بلاده، ربما بسبب كونه كرس حياته في المنفى الى التأليف والنشر باللغة الامازيغية، رغم كونه من المغنيين بالامازيغيةوالعربية، وكان عازفا لآلة العود، ويخلط في نصوصه الادبية بين العربية والامازيغية الريفية والدارجة المغربية ولم يكن أبدا يحمل في قلبه أية نزعة عنصرية..
زرت محمد شاشا في بيت والدته بقابو ياوا، ووجدته قد تحسنت حالته الصحية جيدا في سنة 2006 وهو يسير المخيم الذي اقامه على الشاطيء الذي تملك منه عائلته بقعة ارضية تمتد على مياه الشاطيء، ومكثت معه بعض ايام عطلتي، وحكى لي قصص طفولته بهذا الشاطيء والميناء، وحكى لي ان قبيلة كبدانة كانوا يزورون الجزر الجعفرية بواسطة قواربهم، وانه زارها في طفولته كغيره من شباب وصيادي السمك بالقبيلة بدون منع ولا جواز سفر، وكانوا يتجولون في اسواقها بكامل الحرية، الى ان منعتهم السلطات الاسبانية من الدخول نهائيا بعد سلوكها سياسة محاربة الهجرة السرية وتهريب المخدرات، لانها جعلت الجزر سجونا عسكرية ومقابر لموتى لا يعلم شاشا من هم؟ وموقعا لرمي النفايات المتنوعة التي تلوث شواطيء كبدانة وتطلق الروائح الكريهة ولا من يحمي البيئة ولا من يبحث…
كان لمحمد شاشا حنين وشعور عميق بالحزن، وعلاقة روحية خيالية بهذه الجزر الثلاثة التي يقف لحظات طويلة بالليل والنهار وهو ينظر اليها من بعيد، وهو يعرف خبايا انفصالها الطبيعي عن المغرب، بكون صخور ذلك الشاطيء مكونة من الرمال الهشة التي تذوب مع قوة الامواج ولا ادري هل كتب شيئا عن هذه الجزر التي اوحت اليه بكثير من إبداعاته، حتى كنت اسميه مع نفسي “فنان الجزر الجعفرية” وهي مادة غائبة عن الأدباء المغاربة، وكان هو يتابع حتى الأدب الإسباني الذي الفه كتاب إسبان، اما سجنوا بهذه الجزر او قضوا فيها الخدمة العسكرية ويحكي قصص الصيادين والمهربين الذين يعيشون في ظلام وضباب شواطيء “قابو ياوا”، وهي التي تعلم فيها التمرد والصبر على مواجهة القمع،ومنها الفرار الى المنفى الذي يحلم به شباب الريف، وحكى انه تعرض للقمع منذ ان كان تلميذا في بلدته لانه كان يشارك في إضرابات واحتجاجات التلاميذ التي تقع بالريف منذ أوائل شبابه..
كانت هناك في كبدانة سنة 1976 جمعية امازيغية تحمل اسم “يوغرطة” بقرية اركمان تهتم بالامازيغية والبيئة الطبيعية، أسسها علماء ومثقفون من هذه القبيلة المجيدة، كان منهم الدكتور محمد عصام، والدكتور محمد قروع، والدكتور موسى اغربي وغيرهم وهم اساتذة في جامعة وجدة، لكني لم اعد اسمع شيئا عن هذه الجمعية؟!
وشاءت الاقدار ايضا ان أزور شاشا بعد ان شارك معنا في تأسيس الحزب الديموقراطي الامازيغي المغربي في 30 يوليوز 2005 في بيته البسيط بامستردام، وهناك شاهدت آلة العود التي يعزف عليها ومجموعة مؤلفاته، وكذلك وثائقه وأرشيفه الخاص إذ كان لا يتوفر على بيت ولا وثائق بالمغرب، مما جعلني اشعر الان بهم يتعلق بمصير مسودات كتبه ومآثر حياته التي كانت توجد معه في شقة يقطنها بالكراء وعاش طول حياته مهددا بالافراغ منها اذا لم يود الكراء الشهري، وهو لم يكن مهاجرا يجمع المال بل غارقا في المنفى القسري والاشتغال بالأدب والفنون والكتابة…
كانت حياته الخاصة قاسية بعد فراقه لزوجته الهولندية التي قضى معها جزءا مهما من مدة منفاه، وفارقته بدون اولاد، وكانا معا يشتغلان في متجر خصوصي وبقي وحده اعزبا مع المرض والكتابة وأحيانا مع البطالة وهموم السياسة، وهناك التقينا وعرفني وحكى لي عن قطع صلته مع اليساريين الذين كان معهم في شبابه، ويخامرني الان هم يتعلق بمصير ارشيفه بهولاندا ووثائقه التي هي مهمة على عاتق المثقفين المقيمين بامستردام ووزارة الثقافة المغربية والسفارة المغربية، وخاصة الذين واللواتي يقدرون قيمته الأدبية مثل الشاعرة فاضمة الورياشي وغيرها.
الرباط في4يوليوز2016
اكتشاف المزيد من azulpress.ma
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
التعليقات مغلقة.