مجموعة أرشاش، قطرات من إبداع يأبى ٳلا ٲن يناشد الخلود

بقلم محمد لحميسة

يطرح مفهوم الخلود إشكالات عويصة في بيئتنا الثقافية، لأنه في تمثل الناس يقترن بتلك الصفة المنزهة التي لا تتنازع عليها الموجودات، لكن، وفي نظري على الأقل؛ الإبداع والفن والجمال مكونات متمردة على إمكانات الحصر المادي التي تطال ما يدخل ضمن دائرة الفناء والانحلال، ٳن الفن محاولة لقهر الفناء أو التحايل عليه على الأقل، وفي مستوى آخر، الفن والإبداع هو صوت التعالي وٳحدى تجلياته، ما يجعل الفن يقترب من الخلود، إنه عبق من أثير الما هو ٳلهي، ورشفة من نهر الخلود، لذلك لم يجد افلاطون حرجا -فترة شبابه- في القول بأن الشعراء يتحدثون بلسان الألهة.

ومن يتذوق شعر مولاي علي شوهاد في أغاني مجموعة أرشاش، افترض بأنه سيصل ٳلى نفس الانطباع، إن هذه القصائد لا يمكنها أن تموت، ٳنها جزء من الخلود، جزء من الانسان، جزء من روحه القلقة، تلك الروح التي غادرت الجنة نحو الأرض الدنيا فأطلقت العنان لسؤالها الأكبر: لماذا؟ ماخ؟ والذي بالمناسبة هو عنوان لقصيدة لمولاي علي شوهاد والتي سنقف عندها فيما سيأتي من المقال.

نبذة تعريفية عن المجموعة:

مجموعة أرشاش هي فرقة موسيقية مغربية تحمل في أعماقها هوية المنطقة السوسية وتراثها الغني، تأسست أواخر السبعينيات من القرن الماضي على يد ثلة من خيرة الشباب الحاملين للوعي الثقافي وللخبرة الفنية والموهبة المطلوبة لتأسيس مجموعة غنائية ناطقة باللغة الامازيغية، ولم يكن هؤلاء غير مولاي علي شوهاد وصالوت أكرام والحسين وخاش وإبراهيم ٳسكران وعبدالعزيز الهراس، ومن ضمن العوامل التي اغنت تجربة ارشاش كان اعتمادها على الايقاعات والاهازيج المرتبطة باحتفالات احواش في الثقافة الامازيغية، فكان لهم من خلال ألبوماتهم وموسيقاهم أن صالحوا أجيالا مع تراثهم، فكانت مدخلا ميسرا إلى التشبث بعراقة ثقافة احواش، بكلماته وايقاعاته ورقصاته التي تعد وسام فخر وشرف ينم عن وعي فني وعن نشاط شعري دلالي يتبين من خلاله أن الانسان الامازيغي ناهيك عن كونه حر، انه مبدع، مفاوض لواقعه وللبيئة التي تحيط به، يلوكها ويعيد صياغتها شعريا ويقدمها كقطع من الخلود ليستمتع بها الشاعر أولا، لأن شعره نابع من حاجة سيكولوجية خاصة به ومن ثم يتداولها الناس وتتحول ٳلى منزلة القول المأثور الذي يحاكي الخلود في امتداده الزماني وترحاله المكاني.

قول في اصالة المجموعة وتميزها:

دوما ما يقع التشبيه والمقارنة -بدون وجه حق- بين مجموعة أرشاش ومجموعة ٳزنزارن لكونهما علامات ثقافية مهمة في الفن الامازيغي الملتزم والمميز شعرا ولحنا ضمن موسيقى المجموعات، غير انني احتفظ بمعيار مهم أجده الفاصل والفيصل بين التجربتين، وهو سؤال الأصالة، وإن كان هذا السؤال في الفن يكاد يكون عبثيا لأن جدلية الابداع لا تستقيم ٳلا بثنائية التأثير والتأثر، لكن تبقى هذه النسبة ومدى تجليها في عمل المجموعتين فاصلا مهما للقول بتفاضل معياري بين تجربتي ارشاش وٳزنزارن.

لنبدأ أولا بظاهرة المجموعات الغنائية التي اكتسحت عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، فتجربة الخروج من الحرب وتفشي أفكار اليسار الداعي للسلم والحرية والمساواة تُرجمت على المستوى الفني في ازدهار موسيقى الروك وما شابهها، فكانت هذه المجموعات تستبطن رسائل سياسية قوية وتمرد على الأعراف سواء الثقافي منها أو الموسيقي أيضا، وكان للأمر مبرراته ٳن تم استقراءه سوسيولوجيا وسياسيا بمعطيات الفترة التاريخية التي نتحدث عنها، فكان أن امتد التأثير ٳلى المغرب فتلقفته مجموعات، أو لنقل ظهر في مجموعاتٍ موسيقية كان لها السبق والريادة في تقليد المجموعات الغربية النشيطة حينئذ مثل رولينغ ستون أو البيتلز، ناس الغيوان وجيل جيلالة كانوا السباقين في السياق المغربي وبهم تأثرت المجموعات الأخرى كإزنزارن التي لنا بها الغرض في سياق حديثنا، ولا يخفي أعضاء مجموعة ٳزنزارن تأثرهم بناس الغيوان حتى أن عمر السيد قدم يد العون في البداية للمجموعة ورآها النسخة الناطقة بالأمازيغية لناس الغيوان، ويمكننا أن نشد الحبل أكثر من هذا ونذهب رأسا ٳلى مجموعة لقدام التي كانت المجموعة الأم ومهد تزنزارت، فأعضاء لقدام لا ينكرون افتتانهم بناس الغيوان، وأنهم في البداية انتجوا أغاني بالداريجة المغربية كما كان يفعل رفاق بوجميع والعربي باطما، هذا دون الخوض في نقاش ما للاقدام وما لٳزنزارن في الريبيرطوار الفني الذي اشتهرت به هذه الأخيرة، خلاصة القول فسؤال التأسيس والأصالة عند مجموعة ٳزنزارن لعنة تطارد المجموعة، وهي النقطة التي يفيض عندها كأس المفاضلة بين ٳزنزارن وبين أرشاش، التي كان مسار تأسيسها وروافد تأثرها واضحين في موسيقاهم، استطيع القول أن أرشاش ابدعت من جوفها، باكورتها الإبداعية هي حصيلة تراكمات التنشئة التي استدمج فيها مولاي علي شوهاد والبقية كل ما هو جميل من أشعار وايقاعات المغرب العميق، وما لحظة أرشاش إلا انفجار للبركان الخامد الذي اعتمل لعقود في جبال طاطا وابركاك ووجد الظروف المناسبة للظهور في الدار البيضاء.

النفس الصوفي في شعر مولاي علي شوهاد:

يعيش الانسان مدركا فناءه، ويقلق لذلك، هذا ما يُحدثنا عنه الوجوديين منذ كيركغارد الى هايدغر، ومن أليات تبديد القلق الذي يأكل الذات الانسانية نجد الشوق والنجوى التي يحاول بها الانسان الوصول إلى الانتشاء الروحي عبر التضرع لله، الخالق، الكامل، واجب الوجود بلغة الفلسفة الإسلامية، ودوما ما كان المتصوفة شعراء كبار يقطفون ثمار الدلالة بتطويع العبارة وخلق الصورة الشعرية التي تسافر بالمتلقي الى عوالم يغفل عنها في خضم التدافع والصراع والانشغال اليومي، أتحدث هنا عن لغة الروح والكينونة، عن تلك المساحة الداخلية التي تستريح في حضرة الأعلى والأعظم، الذي تقول فيه رابعة العدوية: “وأَغْلقتُ قلبي عّمَّن سِواكَ وَكُنتُ أُناجِيك يا مَن تَرى خَفايا القلوب ولَسْنا نَراكَ”.

وقد يحدث أن يكون الشاعر متصوفا، يناجي الله قائلا: ” مولانا فكي الصبر”، في هذه القصيدة يسافر بنا مولاي علي ورفاقه إلى حضرة الأرواح المكلومة وإلى مساكن الذوات التي تحتاج إلى تطهير روحي عبر جسر أشواق ومنايا تؤرق الإنسان وتعلن في وجهه تناهيه وضعفه.
يقول في البيت الشعري الموالي “نغي تفكيت اي الصبر”، ليكتمل المعنى: ربي امنحني الصبر، أو خذني انا عبدك الضعيف؛ وامنحني للصبر، في كلا الحالتين يبقى الإنسان ضعيفا بلا حول أو قوة، يحتاج عطف الإله، الذي لن يأخذ غير المنحيين؛ إعطاء الصبر للعبد الضعيف، أو إعطاء العبد الضعيف للصبر، يضيف الشاعر: “ماسد نشاشكا الحساب .. ن اوزمز ايكا وين أراد”، يبحث العبد عن الصبر ليحقق الكفاف، ليتساوى، ليخلق بالكاد توازنا هشا مع متطلبات حياة ما تفتأ تتضخم وتتغول، يضيف الشاعر بأن الصبر الذي يطلبه من الخالق سيكون سفينته التي يبحر بها في هذا الوجود المحفوف بالقلق، وتستمر القصيدة بصور شعرية بليغة وبالقاء مميز من الشاعر مولاي علي شوهاد وبلحن وايقاع هادئ من المجموعة، إلى أن تصل لبيوت شعرية لا اظن أن في الشعر الامازيغي ما يضاهيها في البلاغة والدلالة والعمق ، يقول مولاي علي: “مولانا فكي الصبر، ن النبي الله أيوب، مقار اوركيغ بلا إسمݣ، إسمݣ ايتعصون اريتوب.. مولانا فكي الصبر.. موزضارغ زود العباد.. ماسدنشاشكا القياس ن اوزمز ايكا وين الطمع.. ايشحايانغ اوقشاب ايخ دلخ ايضارن ايشيضيض اوكايو ايغزيف ضيض ن الليالي د اوصميد.. سالووت فسيت الكريم فوعديم اسدوقرن الباب ن الرحمة ربي كان الجيد” وفيها يناجي الشاعر الله يطلب منه صبر النبي أيوب وإن كان شاعرنا ليس إلا عبد يسقط في الخطايا ويرجو التوبة، يطلب من الله صبرا يداري به جراح زمن الأطماع، زمن لم يعد اللحاف يكفيه ليغطي بدنه، إن غطى رأسه بقيت أرجله فريسة الليالي الطويلة من البرد القارس وإن غطى أرجله حدث نفس الأمر لوجهه، ويختم بطلب في نبرة انكسار وضعف إنساني أمام الله كلي القدرة فيستجدي كرمه وقدرته أن يفك محنه.. محنة الشاعر الوجودية.

حضور الطبيعة في قصائد مولاي علي شوهاد أغاني ارشاش:

يخبرنا التحليل النفسي بأن التنشئة الاجتماعية تلعب دورا كبيرا في تشكيل وعي وعقلية الأفراد، يلخصها فرويد في الجملة الشهيرة: الطفل أب الرجل، كذلك الفنان يتأثر بواقعه وبالبيئة التي تحيط به، ولا أحد يجادل في الطبيعة الخلابة التي أنعم بها الله على منطقة ابركاك وسكانها، والتي ينحدر منها شاعر المجموعة مولاي علي شوهاد، فكانت أشعاره مليئة بالصور الشعرية والاستعارات والتشبيهات التي تتخذ مكونات الطبيعة وسيطا بين مخيلة الشاعر وتمثل المتلقي، فتكون الطبيعة في عديد الأحيان الجسر الذي يجمع بين المجموعة بشعرها والقائها وايقاعها والمتلقي المتعطش لحكمة الشعر وتناسق الإيقاع وجمالية المنتوج الفني التي تقدمه المجموعة.

في قصيدة أرݣان مثلا، تحضر شجرة أرݣان كمتحدث يصدح بما يضره بعد أن طال صمته، تصرخ في وجه الذين يحاولون عبثا وأدها وقتلها، لتقف في أناة وتألق وصبر وقدرة تحمل منقطعة النظير، فتقول لساقية الماء: خدي ماءك إلى النهر، فأنا لا أحتاجه، خلقني الله في أرض البور وآلفت العطش…

وأستطيع القول؛ أن من باب الفرائض في الشعر الشوهادي كما سماه أحد الباحثين حضور بيت شعري أو اثنين مبني على استعارة أو مجاز تكون الطبيعة محورها؟

واحدة من الروائع التي يقل نظيرها في الساحة الشعرية الأمازيغية، يضع فيها مولاي علي السؤال موضع السؤال، نوع من سؤال مضاد يستكشف كنه السؤال الأول، سؤال يستنطق جدوى التساؤل أصلا ومعناه وأهدافه وابعاده، يقول لنا مولاي علي بلغة رامزة، موارية، غير مباشرة، بلغة فلسفية، بأن الأجوبة تملأ الأمكنة ونحتاج اليوم إلى طرح الأسئلة التي تستحق أن تطرح، نحتاج ان نسائل البعد الانطولوجي للسؤال، بكونه معطى ملازم للموجود.

في البدء كان السؤال وسيبقى خالدا تحمله الأكتاف، لماذا؟ ماخ؟ انه القلق الوجودي الذي قلنا بأنه يلازم الانسان، انه الوصم، اللعنة التي اصابت الموجود، ليست لماذا؟ مسألة شخصية، انها من العمومية ما يجعلها تمتد عبر الزمان والمكان، يؤكد مولاي علي هذا حينما يقول ” ايلا ماخ نوفاتيد دار ويلاخ اورونين”.

إن السؤال الذي يطرحه مولاي علي ليس معروف قائله، كما ليس معروف جوابه، إنه سؤال يساءل كل النواميس، كل ما نعرف، كل الأجوبة التي نقدمها، يشكك في علاقة النفس بالمزمار، علاقة الأصابع بألة الرباب، إنها استرجاع للحظة الدهشة الأولى، دهشة يتحدث عنها كثيرا شوبنهاور ويجعلها مبدأ للتفلسف ويسميها أرسطو بالتومازاين.

إن سؤال مولاي علي هَمٌ “اح”، هَمٌ نتج عن السؤال ولازم السؤال، ينتُج عنه ويُنتجه في آن واحد، إن لماذا والهم محايتان لبعضهما في نظر مولاي علي.

وتصل مخيلة مولاي علي الشعرية إلى حد اعتبار قلق السؤال المصاحب للوجود الانساني مهمته هي أن يُكدر على الموجود الحلو من حياته، وما من سبيل لتعطيل ملكة السؤال لأن بتعطيلها ينتفي الإنسان، ومن تم على الإنسان أن يتحمل ذلك، وأن يتعايش مع “لماذا؟”، مع السؤال، ومع القلق الذي يسكنه، أجد نفس هذا المعنى عند سارتر عنما يتحدث عن القلق المصاحب للإنسان، وإن كان التباين واضح في كون سارتر يعتبر القلق إيجابي، وعلي شوهاد يبقى محايد في هذا المستوى، كأن همه هو أن يساءل ويبحث لا أن يجيب.

على سبيل الختم:

بدأنا مقالنا بالتحدث عن الخلود، وعن إمكانية الفن في تحقيق نوع من الخلود، وننتهي هنا بالقول؛ إن شعر مولاي علي شوهاد وموسيقى أرشاش قد حققت هذا الخلود، فمن خلال تجسيدهم لأعمق مشاعر الإنسان وهمومه، تمكنوا من خلق عمل فني خالد يتجاوز حدود الزمان والمكان، يمكن القول إن شعر مولاي علي شوهاد وموسيقى مجموعة أرشاش قد تركتا بصمة لا تمحى في الثقافة الأمازيغية والمغربية عموماً، فقد تمكنوا من صهر التراث الأمازيغي الأصيل مع هموم الإنسان المعاصر، ليقدموا لنا عملاً فنياً متفرداً يجمع بين الأصالة والمعاصرة، وإن إرثهم كما قلنا سابقا يتجاوز حدود الزمان والمكان، ويظل مصدر إلهام للأجيال القادمة.

بقلم محمد لحميسة


اكتشاف المزيد من azulpress.ma

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

التعليقات مغلقة.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. الموافقة قرائة المزيد

اكتشاف المزيد من azulpress.ma

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading