متى يكتشف المغاربة لغتهم الدارجة؟ (3/4)
بقلم: محمد بودهان
ما هي العوامل الثلاثة للتعريب الطوعي للأمازيغ؟
هذه الرغبة لدى الأمازيغيين، للأسباب الدينية والسياسية والإيديولوجية التي أشرنا إليها، في تعلّم واستعمال العربية في التخاطب، وفي التماهي مع العرب أصحاب هذه اللغة، كانت بداية لتعريب ذاتي اختياري، وهو ما أنتج عاملين آخرين ساهما في هذا التعريب، ليلعبا في نفس الوقت دور النتيجة ودور السبب المؤثر. هذان العاملان هما:
ـ إطلاق الأسماء الشخصية العربية على المواليد الأمازيغيين، والتخلي عن الأسماء الأمازيغية الأصيلة. قد تبدو هذه المسألة بسيطة وعادية كما هو حالها اليوم (نحن في غشت 2016). لكن إذا وضعناها في سياقها التاريخي مع بداية القرن الثاني الهجري بالمغرب، فإنها قد تبدو ظاهرة غريبة واستثنائية، إذ كيف تختفي الأسماء الشخصية الأمازيغية بشكل يكاد يكون كاملا، وتستبدل بالأسماء العربية القرشية، بمجرد اعتناق الأمازيغ للإسلام، علما أن هذا الدين لا يمنع الأسماء الأعجمية ولا يدعو إلى تبني الأسماء العربية؟ هذا التهافت على الأسماء الشخصية العربية يقدّم الدليل على الرغبة الجامحة لدى مجموعة من الأمازيغيين في ممارسة التحول الجنسي والهوياتي (تقمصهم للجنس العربي والهوية العربية، وتنصلهم من جنسهم الأمازيغي وهويتهم الأمازيغية)، وانتحال الانتماء العربي. فهذا الأمازيغي الذي يسمي ولده باسم عربي، يعطي بذلك الدليل على أنه يتمنى رمزيا لهذا الولد أن يكون مثل الحامل الأصلي لهذا الاسم، أي يتمنى له أن يكون عربيا. بل الطريف أن العديد من الأمازيغيين، وتعبيرا عن رغبتهم في أن يكون أولادهم عربا، اختاروا لهم حتى اسم “العربي”، الذي ليس اسما شخصيا يطلق على فرد بعينه، وإنما هو صفة نوعية وهوياتية جماعية، تطلق على جميع المشتركين في الانتماء العربي. لنتصوّر، قصد التوضيح، أن شخصا يتمنى أن يكون ابنه مثل الفرنسيين، فاختار له من الأسماء الفرنسية، استبشارا وتيمنا، ليس “روني” (René) أو بيير” (Pierre) أو جان” (jean) أو بول (Paul) “…، بل “الفرنسي Le Français”، والذي ليس اسما شخصيا عند الفرنسيين، بل هو صفة هوياتية لكل الفرنسيين، مثلما أن “العربي” هو صفة هوياتية لكل العرب.
ـ انتحال النسب العربي وانتشار الخرافة العنصرية “للنسب الشريف”، بسبب ما كانت تدرّه على أصحابها الأمازيغيين من مكاسب سياسية ودينية واجتماعية واقتصادية. فمنذ أن نصّب أمازيغيو قبيلة “أوربة” إدريس الأول سلطانا عليهم لنسبه العربي “الشريف”، سيصبح هذا “النسب الشريف” هو الطريق الملكي للسلطة والجاه والحظوة والاحترام. وهذا ما جعل انتحال النسب العربي ينتشر بين الأمازيغيين بشكل كبير، وهو ما كان عاملا هاما في التعريب الطوعي والاختياري لمجموعة غير صغيرة من الأمازيغيين. الجانب الإيجابي الوحيد في هذا الانتحال للنسب العربي، هو أنه يؤكد أن المغرب أمازيغي، وأن سكانه أمازيغيون، وإلا لما كانت هناك جدوى من انتحال النسب العربي لو كانت الأغلبية عربية، لأنه في هذه الحالة لن يكون هناك امتياز لأصحاب النسب العربي ما دام أن الأغلبية تشاركهم في هذا الامتياز.
هكذا تظافرت هذه العوامل الثلاثة (اللغة الدارجة، الاسم الشخصي وانتحال النسب العربي)، وتكاملت في ما بينها، كأسباب وكنتائج في نفس الوقت، لتصنع من مجموعة من الأمازيغيين عربا، لسانا (الدارجة) واسما ونسبا.
لماذا يفهم المغاربة اللهجات العروبية الخليجية؟
أمام هذه الحقائق التي تفنّد الأصل البشري والجغرافي العربي المفترض للدارجة، سيلجأ المدافعون عن هذا الأصل إلى “حيلة” أخرى، مؤدّاها أن المغاربة المتحدثين بالدارجة يفهمون “دارجة” بلدان الخليج العربية، ويتابعون برامج ومسلسلات الفضائيات العربية الخليجية لأن لغتها لا تختلف عن لغتهم المغربية، كما أن الخليجيين يفهمون بدورهم الدارجة المغربية. وهو ما يستنتجون منه أن هذا الفهم المشترك للغتي الطرفين، المغربي والخليجي، دليل على أن الدارجة المغربية، هي نفسها الدارجة الخليجية، وقد انتقلت من الجزيرة العربية إلى المغرب مع العرب الذين استقروا بهذا البلد الإفريقي منذ “الفتح الإسلامي”.
رغم أن هذه المسألة، المتعلقة بمدى التفاهم اللغوي بين المغاربة والخليجيين، لا جدوى منها ولا أهمية لها إطلاقا، لأنها لا تثبت ولا تنفي أن الدارجة عربية الأصل والانتماء، بشريا وموطنا، وذلك لأنه حتى لو ثبت أن التفاهم منعدم بين المغاربة المستعملين للدارجة وبين الخليجيين، فهذا لا يقوم دليلا على أن الدارجة ليست لغة عروبية، لأنه من الممكن أن تكون هناك لهجات ذات أصل عروبي واحد مشترك رغم أن التفاهم بين مستعملي هذه اللهجات لم يعد ممكنا، لانقطاع التواصل بينهم لمدة طويلة، كما بين فروع الأمازيغية مثلا. لكن بما أن هذا التفاهم المفترض بين المغاربة الدارجيين وبين الخليجيين، يعتمد كـ”حجة” على أن الدارجة لهجة عروبية، فسنناقش هذه “الحجة” لتبيان تهافتها وسُداها. وهنا نفتح القوس لنشير إلى أننا سنقتصر قصدا ـ كما فعلنا في كل المقال ـ، في هذه المناقشة لموضوع التفاهم اللغوي بين المغاربة والخليجيين، على اللهجات الخليجية فقط، أي لهجات الجزيرة العربية التي هي الموطن الأصلي واللساني والتاريخي المفترض للهجات العروبية، ومن ضمنها الدارجة بالنسبة للذين نردّ عليهم من التعريبيين الذين يعتبرون هذه الدارجة لهجة عروبية، ونهمل عن قصد كذلك اللهجات الشامية والمصرية التي قد يفهمها العديد من المغاربة لنفس الأسباب التي سنشرحها. نهملها لأن علاقتها بالعربية من جهة، وباللغتين الشامية والمصرية الأصليتين من جهة ثانية، مثل السريانية والقبطية، تشبه علاقةَ الدارجة بالعربية وبالأمازيغية، ولو بشكل أخفّ وأقل بروزا مما عليه الأمر بالنسبة للأمازيغية.
هذا التفاهم اللغوي، المفترض بين المغاربة والخليجيين، يتضمن إذن مستويين: مستوى فهم المغاربة للهجات الخليجيين (لهجات الجزيرة العربية)، ومستوى فهم هؤلاء لدارجة المغاربة. سنناقش إذن كل مستوى في استقلال عن الآخر، لأن الأسباب التي تفسّر هذا الفهم المفترض تختلف حسب ما إذا تعلق الأمر بالمغاربة أو بالخليجيين.
أولا، فهم المغاربة للهجات الخليجية:
فهم المغاربة المفترض للهجات الخليجية غير موجود كقاعدة عامّة، ويمكن الاستشهاد على ذلك بأمثلة من العامّيات الخليجية لا يفهم منها المغاربة شيئا، كما تبيّن المئات من الكلمات والعبارات التي يتضمنها “معجم المصطلحات العربية العامّية” الموجود على الأنترنيت، من قبيل:
ـ “لا تصدق أحمد تراه يهك عليك” (يكذب عليك ـ نجد السعودية)
ـ “جوال الأيفون كشخه” (جميل ـ البحرين والكويت وقطر والسعودية)
ـ “ارمسك بعدين” (احدثك بعد قليل ـ اللهجة العمانية)،
ـ “يا خبنكلة” (يا أحمق ـ لهجة حضر موت اليمنية)،
ـ “وخر عن وجهي ولا تراني باصملك” (ابتعد عني وإلا سأضربك ـ لهجة حضر موت اليمنية)،
ـ “عطني القفشة” (أعطني الملعقة ـ اللهجة القطرية)،
ـ ” أنا في المقهى أتِــرَياكم ” (أنتظركم ـ اللهجة القطرية)،
ـ ” امبونك رايح السوق” (قبل الذهاب إلى السوق ـ اللهجة الإماراتية)،
ـ ” انشبوا الغدا” (أحضروا طعام الغذاء ـ الإمارات، البحرين، الكويت، قطر)،
ـ “تبطي عظم” (من المستحيل أن تفعل هذا الشيء ـ اللهجة السعودية)،
ـ “أرهيت بالقطيعة” (كدت أن أفقد الأمل ـ اللهجة الحجازية النجدية)،
ـ “ما صيدي الإساءة” (ما قصدي ـ شمال السعودية)،
ـ “زبوط النقعة” (صغير، جاهل ـ اللهجة الكويتية)،
ـ “خط الجزوزح” (قوس قزح ـ اللهجة البحرينية)،
ـ “أبك أنت علامك” (ماذا دهاك؟ ـ اللهجة النجدية)،
ـ “إنتخشوا عينك” (دعاء على الشخص بأن يقتلع الجن عينه ـ لهجة جنوب السعودية)،
ـ “اطبع الباب” (أغلق الباب بالمفتاح ـ اللهجة الحجازية)،
ـ…
ومع ذلك فلن نتمسّك بمثل هذه العبارات والأدلة لنفي وجود مغاربة يفهمون اللهجات الخليجية، وسنسلّم إذن أن هناك بالفعل مجموعة منهم يفهمون هذه اللهجات، لكن ليس لأن الدارجة المغربية، كما يذهب المدافعون عن الأصل العروبي لهذه الدارجة، تنتمي هي نفسها إلى أصل لساني واحد مشترك بينها وبين هذه اللهجات الخليجية، التي نقل العرب “الفاتحون” والمهاجرون إحداها إلى المغرب، وهي الدارجة، وإنما يرجع ذلك إلى الأسباب التالية:
ـ فمع ظهور وانتشار البث التلفزي بالمغرب، ووصوله إلى أقصى البوادي والجبال، وخصوصا بعد كهربة العالم القروي، بدأت اللهجات الخليجية، دون الكلام عن الشامية والمصرية اللتيْن لا تهماننا كما سبق توضيح ذلك، تعزو بيوت المغاربة من خلال الأغاني والأفلام والمسلسلات العربية المشرقية التي كانت تشكّل، في بداية التلفزيون المغربي، أهم موادّه، قبل أن يصبح هذا الغزو كاسحا وشاملا مع انتقال التلفزيون إلى البث الرقمي حيث أصبح المغاربة يتتبعون أغاني وأفلام ومسلسلات القنوات العربية مباشرة، وليس عبر التلفزة الوطنية مثل ما كان عليه الأمر في البداية كما أشرنا. فإدمان مجموعة من المغاربة على مشاهدة الفضائيات العربية، وتتبع حواراتها وبرامجها وأفلامها ومسلسلاتها وأغانيها، بل وحفظ العديد من هذه الأغاني وترديدها وتقليدها، أدّى في النهاية إلى فهمهم، بنسب مختلفة، للهجات التي تبث بها هذه الفضائيات. ولهذا قد نجد هذا الفهم حاضرا لدى ربات بيوت أميات، وغائبا عند متعلمين ومثقفين. والسبب هو أن هؤلاء النساء يقضين معظم أوقاتهن في مشاهدة القنوات العربية، عكس هؤلاء المتعلمين.
ـ ثم لا ننسى أن معجم الدارجة المغربية ينتمي، في حوالي سبعين في المائة منه، إلى العربية الأصلية الفصيحة كما سبق أن شرحنا، وهو ما يجعل كل اللهجات الخليجية تشترك، بنسب متفاوتة، مع الدارجة المغربية في جزء من معجمها ذي الأصل الفصيح، الشيء الذي يجعل المغاربة يفهمون الكثير من الكلمات المستعملة في اللهجات الخليجية، والشامية والمصرية طبعا، وهو ما يخلق لدى العديد منهم انطباعا ـ انطباعا فقط ـ أن تلك اللهجات قريبة من دارجتهم لاشتراكهما في جزء من معجمهما. يضاف إلى هذا الانطباع، ويساهم أيضا في خلقه، وجود قناعة ذهنية لدى مجموعة من المغاربة، ناتجة عن اعتقادهم الإيديولوجي الراسخ أن المغرب بلد عربي، وجزء من الأمة العربية الواحدة التي تستعمل لغة واحدة من الخليج إلى المحيط. وهو اعتقاد لا يصمد طبعا أمام وضعيات تواصلية واقعية، وليست إيديولوجية وافتراضية.
ـ هذا الاعتقاد الأيديولوجي أن المغرب بلد عربي وجزء من أمة عربية واحدة تستعمل لغة واحدة هي العربية، يخلق لدى متبنّيه من المغاربة، وهم كُثْر، استعدادا نفسيا وذهنيا يحفّزهم على بذل مجهود قصدي لفهم اللهجات العروبية المشرقية، بل وتعلّمها، بالمواظبة على الاستماع إليها وتتبع المتحاورين بها عبر القنوات التلفزيونية، ذلك لأن مجرد هذه المواظبة والإدمان على مشاهدة الفضائيات العربية، لا يكفيان لفهم لهجاتها بدون هذا الاستعداد وهذا الحافز وهذا المجهود. والدليل أن فهم اللهجات الخليجية من طرف فئة من المغاربة، هو نتيجة لما يحدوهم من رغبة وما يبذلونه من مجهود لتحقيق ذلك، وليس راجعا إلى تقارب اللغتين، هو أن ليس كل المغاربة، المستعملين للدارجة كلغتهم الفطرية، يفهمون اللهجات العروبية المشرقية.
والنتيجة أن فهم نسبة معيّنة من هذه اللهجات من طرف فئة من المغاربة، لا يعني إطلاقا أنها تشكّل هي والدارجة المغربية لغة واحدة ومشتركة، بل يعني فقط أن هذا المغربي، الذي يفهم هذه اللهجات، “تعلّم” ذلك عبر ما بذله من مجهود إرادي، وأبداه من مثابرة ومواظبة، وبفضل ما يتوفر عليه من عزيمة ورغبة لاعتقاده الراسخ أن تلك اللهجات هي الأصل الكامل والنبيل الذي عليه أن يعرفه، أما دارجته فليست سوى النسخة الناقصة والوضيعة. وهو اعتقاد يعبّر عن التبعية المتأصلة لدى المغاربة تجاه كل ما هو عربي ومشرقي. وقد اتخذت هذه التبعية اليوم شكل ظاهرة جماعية وعامة، بعد أن كانت اختيارا فرديا قبل 1912، أنتجتها وكرّستها سياسة التحول الجنسي (القومي والهوياتي)، التي تسمى التعريب، والتي نهجتها الدولة، الاستعمارية ثم الوطنية، منذ 1912.
ثانيا، فهم الخليجيين للدارجة المغربية:
إذا كان ما قد يبدو فهما لدى مجموعة من المغاربة للهجات المشرق العربي، مرده إلى ما يبذله هؤلاء من مجهود إرادي لتعلم وفهم هذه اللهجات، كما شرحت، فإن الحالة العكسية، التي يفهم فيها الخليجيون الدارجة، لا يمكن تفسيرها، إذا وجدت، إلا بالوحدة اللغوية التي تجمع بين الدارجة واللهجة الخليجية، وليس بمجهود يبذله الخليجي، كما يفعل المغربي، لفهم وتعلم الدارجة المغربية، ذلك لأنه لا توجد ـ مثلما توجد عند العديد من المغاربة ـ دوافع إيديولوجية ولا ثقافية تحفّز الخليجيين على فهم الدارجة المغربية أو تعلمها. فهل صحيح أن الخليجيين يفهمون الدارجة المغربية؟
هل يوجد من يستطيع من هؤلاء الخليجيين، ما لم يكن قد تعلّم ذلك، أن يفهم التعابير الدارجة التالية:
ـ “كيف راك داير؟” (كيف حالك؟)،
ـ “حظ راسك” (احترس وكن حذرا)،
ـ “الباب محلول” (الباب مفتوح)،
ـ “لما طايب” (الماء فائر)،
ـ “زيت العود” (زيت الزيتون)،
ـ “خوي طريق باش إيدوز” (أخْلٍ الطريق لكي يمر)،
ـ “دخل سوق راسك” (لا تتدخل في ما لا يعنيك)،
ـ…
وحتى لا يقال إن هذه تعابير اخترتها بعناية كحالات استثنائية ولا تشكل القاعدة العامة، نستشهد بأمثلة لآخرين غيري.
ـ قال رئيس الحكومة، السيد بنكيران: «قلت للملك واخا دخلني للحبس أنا معاك»، «ملي كلس ونا كنكول ما خصني نجبدهم»،
ـ «شارك دغيا باش تحاول تربح» (إشهار على شبكة الأنترنيت لشركة مغربية)،
ـ «عندك تندمي» (أغنية للشاب تيلالو)،
ـ «القضية ولات سياسية بزاف» (الجريدة الإلكترونية “كود”)،
ـ «ردو البال من تصوركم في الفايسبوك» (كود)،
ـ «فرملي فسبيطار فاس يصحاب راسو مطور ساعة جابها فراسو» (كود).
ـ «باش تمارا لي ضربات ما تضربش ليها فالزيرو» (كود)،
ـ «ديك 41 مغربي لي شدتهوم تركيا وصيفتطهم لمغرب» (كود)،
ـ …
نلاحظ أنه لا يمكن لأي خليجي، ما لم يكن قد تعلّم ذلك من قبل، أن يفهم هذه التعابير الدارجة، رغم أنها تستعمل كلمات عربية، وذلك لأنها مصاغة بمعاني وتراكيب اللغة الأمازيغية، التي هي معانٍ وتراكيب أجنبية عن اللهجات العروبية. ومع ذلك فإن المدافعين عن الأصل العروبي للدارجة يصرون على أن فهم الخليجيين للدارجة ممكن وقائم، ويعطون أمثلة، حسب تعليقاتهم المنشورة في “هسبريس” حول مواضيع الدارجة، من حوارات تحدثوا فيها بدارجتهم مع خليجيين بالمغرب أو في المهجر، فكان هؤلاء يفهمون جيدا ما يقوله المغربي. هذا صحيح ولا نشك فيه. ولكن تفسيره ليس لأن الخليجي يفهم الدارجة المغربية، من غير الكلمات ذات الأصل العربي، والتي لا يكفي فهمها لفهم معنى الكلام الدارج، وإنما لأن المغربي هو الذي يبذل مجهودا ـ دائما ومرة أخرى ـ في اختياره للتعابير التي تسمح لمحاوره الخليجي بفهم كلامه، وهي تعابير قد تكون مستعملة في لهجة محاوره الخليجي إن كان يعرفها ويتقنها الطرف المغربي، أو هي تعابير قريبة من العربية المدرسية التي يعرفها ويتقنها في الغالب الطرف الخليجي. والنتيجة هي أن هذا الأخير عندما يفهم كلام مخاطبه المغربي، فهو في الحقيقة لا يفهم الدارجة المغربية لأنها غير مستعملة أصلا من طرف محاوره المغربي، وإنما يفهم فقط دارجته الخليجية التي يبذل المغربي قصارى جهده لاستعمالها حتى يفهم الخليجي كلامه بطريقة مريحة وسهلة. فعندما يتحاور مغربي مع خليجي، يتكرر ما يحصل عندما يتحاور متحدث بالأمازيغية مع متحدث بالدارجة: فكما أن الأمازيغي هو الذي عليه أن يتنازل عن أمازيغيته، ويبذل مجهودا لكي يفهم الدارجة، ولكي يستعملها حتى يفهم الدارجي كلامه، فكذلك المغربي هو الذي عليه أن يتنازل عن دارجته، ويبذل مجهودا لكي يفهم لهجة محاوره الخليجي، ولكي يستعملها حتى يفهم ذلك الخليجي كلامه. وكما أن هذا الوضع، المتسم بالغلبة الرمزية والإيديولوجية لأحدى اللغتين، يفسّر لماذا انتشرت الدارجة وتراجعت الأمازيغية، فهو يفسّر بنفس المنطق، عندما يتعلق الأمر بالعلاقة بين الدارجة واللهجات العروبية للشرق الأوسط، لماذا يفهم مجموعة من المغاربة هذه اللهجات، و”يجتهدون” لاستعمالها حتى يفهم محاورهم العربي كلامهم.
إذن “حجة” كون الدارجة غير مختلفة كثيرا عن اللهجات العروبية لأن أصلهما اللسني والتاريخي واحد، هي “حجة” واهية وغير علمية، لأن المغاربة، الذين يستدلون بها، هم الذين يصنعون هذه الحجة عندما يبذلون مجهودا لفهم وتعلم تلك اللهجات، واستعمالها في الكلام مع أصحاب نفس اللهجات.
وأين اختفت اللهجة العروبية التي جاء بها بنو هلال؟
من بين “الأدلة” الأخرى التي يعتمد عليها المدافعون عن الأصل العروبي للدارجة المغربية، هجرة بعض القبائل العربية إلى شمال إفريقيا وتوطّنهم فيها، ولا سيما في المغرب. ويُقصد بهذه القبائل على الخصوص بنو هلال الذين استقروا بهذه المنطقة في القرن الحادي عشر (الخامس الهجري) أثناء حكم الموحدين، ثم بنو سليم وبنو معقل. فحسب منطق المدافعين عن الأصل العروبي للدارجة، تكون هذه اللغة الدارجة هي اللهجة العروبية التي نقلتها إلى المغرب هذه القبائل العربية من موطنها العربي بالمشرق، والتي لا يزال يتداولها اليوم العرب المنحدرون من هذه القبائل العربية، التي استقرت بالمغرب منذ العهد الموحّدي.
كم كان عدد هؤلاء العرب حتى تنتشر لهجتهم وتزاحم الأمازيغية وتشكّل تهديدا لها على المدى البعيد؟ يقول “كابرييل كامبس” (Gabriel Camps)، وهو الخبير في تاريخ الأمازيغيين: «لا ينبغي المبالغة في الأهمية العددية لبني هلال: فمهما كان عدد الذين يعتقدون أنهم ينتسبون إليهم، فقد كانوا، عند ظهورهم بشمال إفريقيا، لا يتجاوزون بعضة آلاف». ويضيف موضّحا: «لا يتجاوز عدد الحاملين للدم العربي، بما فيهم بنو سليم وبنو مقعل الذي جاؤوا بعد بني هلال، مائة ألف من مجموع الذين استقروا بشمال إفريقيا في القرن الحادي عشر» (“Berbères aux marges de l’histoire”, éditions des Hespérides, 1980, p. 187). لننتبه أنه يقول: «عدد الحاملين للدم العربي»، أي قد يكون فيهم من تكون أصوله من أحد والديه أمازيغية، وعربية من الوالد الآخر الذي يحمل دمه العربي. وإذا وزعنا هذا العدد، الذي يبدو ضخما ومبالغا فيه بلا شك، على كل مناطق شمال إفريقيا، التي استقرت بها هذه القبائل، أي على ليبيا وتونس والجزائر ثم المغرب الأقصى، فسيكون نصيب هذا الأخير أقل من الربع، أي أقل من خمسة وعشرين ألفا. وواضح أن مهاجرين بهذا العدد، وحتى لو سلّمنا أنه يبلغ مائة ألف، لا يشكّلون سوى أقلية صغيرة بالنسبة إلى الملايين من الأمازيغيين. وبالتالي لا يمكن أن يكون لهم تأثير يغيّر التركيبة الديموغرافية والإثنية للسكان، مع ما ينتج عن ذلك من تغيير للوضع اللغوي كذلك. و”كامبس” نفسه يستغرب كيف «يُحدث بضعة عشرات الآلاف من البدويين العرب كل ذلك التحول الإثني والسوسيولوجي لملايين الأمازيغ» (صفحة 187). مما يعني أن هذا التحوّل كان بفعل الأمازيغ أنفسهم وليس بفعل العرب. ويقول عن تأثير بني هلال: «في أقل من ثلاثة قرون […]، سينجح الهلاليون، ودون أن يرغبوا في ذلك، في تعريب الجزء الأكبر من بلاد الأمازيغ لغويا وثقافيا» (G.Camps, «Djaziya» “des Beni Hilal”, Encyclopédie berbère, v.16, Aix-en-Provence, Edisud, 1995, p. 2393-2398). لنلاحظ كيف ينفي “كامبس”، في الحقيقة، عن بني هلال أي دور قصدي في تعريب الأمازيغ، وذلك عندما يقول: «ودون أن يرغبوا في ذلك»، لأن الراغبين الحقيقيين في ذلك، كانوا في الحقيقة هم الأمازيغ، الذين حققوا رغبتهم هذه بتعريب أنفسهم بأنفسهم عندما ابتكروا لغة عربية خاصة بهم، وهي الدارجة التي هي ترجمة لمعاني وتراكيب لغتهم الأمازيغية، وذلك حتى يقنعوا أنفسهم أنه عرب، بدليل أنهم يتكلمون لغة “عربية”. ويُستنتج من كلام “كامبس” أن العرب بشمال إفريقيا ليسوا هم العرب الحقيقيون، وإنما هم فقط أولئك الأمازيغيون الذين يعتقدون أنهم ينتسبون إلى العرب، كما هو واضح في النص المذكور أعلاه، والذي جاء فيه: «فمهما كان عدد الذين يعتقدون أنهم ينتسبون إليهم». وهو اعتراف أن الذين يعتبرون أنفسهم عربا بشمال إفريقيا هم يعتقدون ذلك فقط، وليسوا عربا حقيقيين ينحدرون من عرب حقيقيين، وإنما هم أمازيغيون حقيقيون لكنهم يعتقدون أنهم عرب.
وقد كان “كامبس”، ولو أنه لم يربط ذلك بالدارجة ودورها الحاسم في تحقيق تلك الرغبة، واعيا برغبة الأمازيغ في التحول جنسيا إلى عرب، هوياتيا وعرقيا ولغويا، ودور ذلك التحول في تسريع التعريب ونتائجه، كما عبّر عن ذلك بقوله: «لقد كان هناك إغراء لدى الرحل الأمازيغ للقول بأنهم هم أيضا عرب، لنيل الحظوة والاعتبار ومكانة الغازي الفاتح» (“Berbères aux marges de l’histoire, p. 188). والدافع الأول لهذا التحوّل، قبل أن يكون سياسيا واجتماعيا، هو ديني بالدرجة الأولى، كما سبق بيان ذلك، وهو ما يشرحه “كامبس” نفسه كما يلي: «القرآن، الذي هو وحي مباشر من الله إلى رسوله، لا يجب أن يمسه أي تغيير، وهو ما يستتبع أنه لا تجوز ترجمته. وبالتالي تصبح اللغة والكتابة العربيتان مقدستين. هذا التقديس المرتبط بالعربية ساهم في التعريب اللسني للأمازيغ» (187Idid, p.)، لأنهم أرادوا أن يتكلموا ويستعملوا العربية كلغة مقدسة، فأبدعوا الدارجة، بمعانيها وتراكيبها الأمازيغية، للأسباب التي شرحنا.
واسترسالا لمناقشته لنفس الموضوع (تأثير بني هلال) بنفس الكتاب (الصفحتان 187 ـ 188)، يتساءل “كامبس”، وعن حق، لماذا لا يوجد أحد من سكان شمال إفريقيا يدعي الانتساب إلى الوندال بعد استقرارهم لمدة قرنين بهذه المنطقة، موضّحا أن عددهم، لما احتلوا المنطقة في 429 ميلادية، كان متقاربا مع عدد العرب عند هجرة بني هلال وبني سليم وبني معقل إلى شمال إفريقيا في القرن الحادي عشر؟
ونضيف، بخصوص الوندال:
ـ أن عدد الأمازيغ، عندما احتل الوندال بلادهم، أي في القرن الخامس الميلادي، كان بالتأكيد أقل مما كان عليه عندما استقر الهلاليون بشمال إفريقيا في القرن الحادي عشر، أي بعد فاصل من ستة قرون لا بد أن عدد الأمازيغيين ارتفع خلاله حتى لو افتراضنا أن نموهم الديموغرافي كان ضعيفا وبطيئا جدا. وهذا يعني أن تأثير الوندال على الأمازيغيين، لغويا وثقافيا وعرقيا وسياسيا، كان يجب أن يكون أيسر وأقوى مما سيكون عليه تأثير الهلاليين.
ـ أن الوندال دخلوا إلى شمال إفريقيا بجيش غازٍ وقوي، عكس بني هلال الذين دخلوه كـ”مدنيين” ـ وليس كعسكريين مثل الوندال ـ مسالمين، وبطلب وإذن من عبد المومن الموحدي. ولأن الوندال كانوا منتصرين وفي موقع قوة، فقد أقاموا حكما حقيقيا بالمنطقة إلى أن قضى عليه البزنطيون في 534 ميلادية، عكس الهلاليين الذين لم يكن لهم حكم ولا دولة، بل كانوا خاضعين لحكم الأمازيغيين. هذا يعني أن تأثير الوندال كان يجب أن يكون أقوى، لغويا وثقافيا وعرقيا وسياسيا، من تأثير الهلاليين.
كل هذا يبيّن أنه من المستحيل، منطقيا وواقعيا، أن تحوّل أقلية عربية بدوية ملايين الأمازيغ إلى عرب. وهو ما يؤكد أن هذا التحول كان بفعل الأمازيغيين أنفسهم، للأسباب الدينية والسياسية التي أشرنا إليها. وكمثال على هذا التعريب الأمازيغي الذاتي نذكر منطقة وقبيلة دكالة المغربية، التي أصبحت عروبتها من البديهيات، مع أن ابن خلدون، وهو المتضلع في تاريخ المغرب والأمازيغ، يقول: «ودكالة منهم في ساحة الجبل من جانب الجوف مما يلي مراكش إلى البحر من جانب الغرب. وهناك رباط آسفى المعروف ببني ماكر من بطونهم وبين الناس اختلاف في انتسابهم في المصامدة أو صنهاجة» (تاريخ ابن خلدون، المجلد 6، الجزء 3، صفحة 356). فالانتماء الأمازيغي لأبناء دكالة أمر محسوم، وإنما الاختلاف هل هم من المصامدة أم من الصنهاجيين. والفحص اللسني لاسم “دكّالة” يُظهر أنه هو نفسه “الصداقة” (تيدّوكلا) في الأمازيغية، وهي كلمة حُوِّرت وكُيّفت مع النطق العربي مع إضافة تاء التأنيث على الخصوص في آخرها، كما كان يفعل كتاب العربية عندما نطقوا وكتبوا “أكسيل” بـ”كسيلة”، وجزيرة “تورا” بـ”تورة”، ومدينة “مليلت” بـ”مليلية”… وقد يعني هذا الأصل اللسني الأمازيغي لاسم “دكّالة” أن هذه القبيلة عرفت بهذا الاسم، والذي سيصبح اسما جغرافيا للمنطقة كذلك، نظرا لما كانت تقيمه من تحالفات بين قبائل أخرى كانت تعتبر “صديقة”، تجمع ما بينها تلك “الصداقة” (تيدّوكلا) التي هي أساس التحالفات والتكتلات بين القبائل. وهو ما ينسجم مع المعطيات التاريخية التي تؤكد أن قبيلة دكالة كانت عبارة عن اتحادية تضم عدة قبائل “صديقة”. ولهذا تشمل دكالة، في مدلولها الجغرافي، منطقة ممتدة وواسعة جدا نظرا لكثرة القبائل المنضوية تحت اتحادية دكالة، وهو ما كان يحتاج إلى مساحات شاسعة من الأراضي.
فالتأثير الكبير المنسوب إلى بني هلال، الذين يعدّ الكثير من الباحثين وصولهم إلى المغرب بداية لتعريب المنطقة، هو شبه خرافة تم صنعها وتضخيمها لأن مستعمليها كانوا في حاجة إليها. فقبل مجيء بني هلال، كان انتحال النسب العربي، للأسباب التي سبق شرحها، يمرّ في الغالب عبر ادعاء الانتساب إلى إدريس الأول، باعتباره العربي الحقيقي الذي لا يشك أحد في أصله العربي من جهة أبيه. وهذا ما ضخّم، وبشكل كاريكاتوري، خرافة “النسب الشريف”، حتى كادت أن تفقد أهميتها بسبب التزايد المتسارع لعدد الأمازيغيين، الذين أصبحوا “شرفاء” ينحدرون من إدريس “الشريف”. فكان من نتائج هذا التضخيم والانتشار الواسع لهذه الخرافة العنصرية أن تراجعت مصداقيتها، وبدأت تظهر الشكوك حول صحتها وحقيقتها، إذ كيف يعقل أن ينحدر آلاف من سكان المغرب من رجل واحد، وفي مدة وجيزة لا تتجاوز قرنين ونصفا (ما بين القرن التاسع والحادي عشر)؟ تضاف إلى ذلك الأسئلة التي كانت تثار حول قدرة إدريس الأول على الإنجاب، ومدى صحة انتساب إدريس الثاني إليه. لكن هذا المشكل، المتعلق بمصداقية النسب العربي عبر إدريس الأول، سيجد حله الناجع في وصول قبائل بني هلال إلى المغرب. فانتحال النسب العربي بادعاء آلاف من الأمازيغيين الانحدار من آلاف العرب الهلاليين، هو أكثر مصداقية من ادعائهم الانحدار من رجل واحد هو إدريس الأول. وجد إذن الأمازيغيون، الذين كانوا يرغبون في التحول جنسيا إلى عرب، للأسباب التي شرحنا، في بني هلال، السند الذي كانوا في حاجة إليه ليصدّقوا أنهم عرب حقيقيون لا مراء في ذلك، لأن أجدادهم العرب يقدّرون بالآلاف من بني هلال، مما يجعل نسبهم العربي، ليس فقط ممكنا أو مرجّحا، بل ثابتا وحقيقيا تؤكده تلك الآلاف من عرب بني هلال. هكذا إذن، «وفي أقل من ثلاثة قرون […]، سينجح الهلاليون، ودون أن يرغبوا في ذلك، في تعريب الجزء الأكبر من بلاد الأمازيغ لغويا وثقافيا»، كما كتب “كامبس”.
وهكذا، كذلك، تحوّل بنو هلال إلى أسطورة مؤسسة ومفسّرة للعروبة العرقية في المغرب، أصبح يعتمد عليها ويتبنّاها ليس فقط الأمازيغيون، الراغبون في التحوّل الجنسي، والذين وجدوا ضالتهم في بني هلال، بل حتى المؤرخون وجدوا فيها “المرجع” التاريخي الذي يفسرون به بداية تعريب المغرب في القرون الوسطى. هذا هو التأثير الحقيقي لبني هلال، وهو تأثير مصنوع وليس واقعيا، ومفبرك وليس حقيقيا، وأسطوري وليس تاريخيا، مثله مثل سيرتهم الأسطورية التي تحكيها “تغريبة بني هلال”، التي هي اختلاق خرافي وخيالي لا يمتّ بصلة إلى الواقع التاريخي، كما هو معروف.
نعود إلى السؤال: وأين هم العرب الهلاليون؟ وأين هي لهجتهم العروبية؟
بما أنهم يشكّلون أقلية لسنية وعرقية، فلا يمكن أن يكون لهم تأثير يذكر على الوضع اللغوي ولا العرقي ولا الديموغرافي، لأنهم هم الذين تأثروا، كما تقضي القاعدة العامة، بلغة الأغلبية التي ستصبح لغة أحفادهم بعد بضعة أجيال، كما يحدث لكل الأقليات المهاجرة التي تستقر في بلد المهجر. نعم يمكن للغة الأقلية المهاجرة أن تفرض نفسها وتتبناها الأغلبية من السكان الأصليين، إذا كانت لغة تدوين وكتابة وثقافة وحضارة. وهذا لا ينطبق على لغة بني هلال إذا سلّمنا أن لغتهم كانت مجرد لهجة عروبية لا تستعمل في الكتابة والإنتاج الثقافي. أما إذا افترضنا ـ وهذا ليس مستبعدا إذا عرفنا أنهم كانوا بدوا، وعرفنا أن البدو هم الذين حافظوا على الفصحى حتى أن النحاة واللغويين كانوا يلجؤون إليهم لتدوين وجمع العربية من مصادرها الصافية، التي لم تخالطها ولم تفسدها العجمة كما حصل لعربية الحواضر ـ أن لغتهم كانت هي العربية، فهو تأكيد آخر أن الدارجة منتوج أمازيغي ما دام أن معانيها وتراكيبها أمازيغية وليست عربية. وفي هذه الحالة لا أحد يجادل في كون تأثير العربية على الأمازيغيين كان كبيرا جدا، إذ تبنوها كلغة دين وكتابة وتعليم وثقافة وحضارة، وعملوا على استخدامها في التواصل والتخاطب، لكن بمعاني وتراكيب أمازيغيتهم، وهو ما أعطى اللغة التي نسميها الدارجة، كما سبق بيان ذلك.
كان من الممكن كذلك، وهو أمر مقبول منطقيا، أن يفرض بنو هلال لهجتهم العروبية، على فرض أنهم لم يكونوا يتكلمون الفصحى، لو كانت لهم سلطة سياسية، تأخذ شكل دولة “هلالية” يخضع لها السكان الأمازيغيون. والحال أنهم لم يدخلوا إلى المغرب عنوة كمحاربين وغزاة منتصرين، بل دخلوه بطلب وإذن من السلطان عبد المومن الموحدي، كما سبقت الإشارة. وعليه، فحالتهم لا تختلف عن حالة أية مجموعة من المهاجرين، الذين يصبحون، بعد بضعة أجيال، جزءا من السكان الأصليين، لغة وهوية وانتماء، اللهم إذا استقروا، وبشكل نهائي ودائم، بإقليم من بلد المهجر اتخذوه موطنا جديدا لهم، تميزه عن باقي البلد حدود ترابية ولسنية. وهذا ما لم يحدث طبعا مع بني هلال، إذ تشتتوا وتفرقوا في كل مناطق المغرب، ولا توجد منطقة بهذا المغرب خاصة بهم وتابعة لهم.
من جهة أخرى، لما وصل بنو هلال، ثم بنو سليم وبنو معقل، في القرن الحادي عشر (الخامس الهجري) وما بعده، إلى المغرب، كانت الدارجة قد أخذت شكلها الحالي المتميز ببصمتها اللسنية الأمازيغية، كما شرحناها سابقا، والمتمثلة في المعاني والتراكيب الأمازيغية المستعمَلة بألفاظ عربية، رغم أن انتشار هذه الدارجة كان لا يزال محدودا جدا. وهذا يبيّن أن الأمازيغيين اكتشفوا العربية وتعرّفوا عليها، وظهرت لديهم الرغبة في تعلمها واستعمالها في التواصل، قبل وصول الهلاليين إلى المغرب، إذ اكتشفوها ورغبوا في تعلمها واستعمالها مع انتشار الإسلام منذ أواخر القرن الأول الهجري. ولأنها أداة ضرورية للإسلام وأداء الصلوات وحفظ القرآن وتلاوته، فقد أرادوا منذ البداية، ولهذه الأسباب الدينية، وقبل أن تنضاف إليها أسباب سياسية أخرى في ما بعد، تعلمها واستعمالها بدل أمازيغيتهم. وبما أنها، كما سبق شرح ذلك، لم تكن لغة تخاطب، فقد استعملوها في هذا التخاطب لكن بمعاني وتراكيب لغتهم الأمازيغية التي يتقنون استعمالها في التخاطب، معتقدين ومقتنعين أنهم إنما يتكلمون العربية. فكل ما يمكن أن يكون المهاجرون الهلاليون قد ساهموا به في ما يخص الدارجة، هو أنهم أغنوها أولا على مستوى عدد الناطقين بها بعد أن أصبحوا يتكلمونها بحكم استقرارهم وسط المتحدثين بها من الأمازيغ، المتحولين جنسيا إلى عرب، وأغنوها ثانيا على مستوى معجمها بما أضافوه، بلا شك، إلى هذا المعجم من ألفاظ كانوا يستعملونها في عربيتهم الأصلية، لهجية كانت أو فصيحة. ويبقى الدليل الأقوى على أن الدارجة ليست لهجة الهلاليين ولا لهجة أية قبيلة عربية، هو أنها تحمل البصمة اللسنية التي تنفرد بها الأمازيغية، والتي (البصمة) هي مختلفة وغريبة عن البصمة اللسنية للغة العربية ولكل اللهجات العروبية الأخرى.
وأين اختفت لهجة الموريسكيين الأندلسيين:
(يتبع)
اكتشاف المزيد من azulpress.ma
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
التعليقات مغلقة.