قبل سنة 1860 م لم يكن المغرب معرضا بشكل كبير للموترات الأوروبية، وذلك راجع لمحدودية علاقاته مع الغرب. لكن بعد معركة إيسلي، ستطفو على السطح ثلاثة عناصر أساسية مهدت للسقوط السياسي للمخزن. مكشفة على علله المزمنة وأزماته الحادة.
العنصر الأول : توقيع اتفاقيات غير متكافئة مع الدول الأوروبية، وبدأ التدخل التجاري الأوروبي في المغرب يتزايد. هذه الاتفاقيات تلتها حرب تطوان بين المغرب وإسبانيا، والتي استنزفت خزينة المغرب وتسببت في أزمة نقدية بسبب الغرامة الباهظة التي فرضتها إسبانيا على المغرب بموجب معاهدة السلم. وإلى جانب ذلك، فإن المغرب في تعامله مع المجموعات الصغيرة من التجار الأوروبيين المقيمين بالموانئ، وقع على معاهدات الاستسلام، والتي منحتهم وضعا قانونيا خاصا يخرجهم عن حكم الدولة التي يقيمون بها. ونتيجة لهذه الاتفاقيات، امتلكت الجماعات الأوروبية المقيمة بالمغرب قوة ضغط وتأثير في القضايا المحلية. وفي الجانب الاقتصادي، تمكن التجار الأوروبيون من امتلاك عقارات واسعة في المدن الساحلية، وعملت ممارساتهم التجارية على تآكل أنماط العمل الاقتصادية والاجتماعية المترسخة في المغرب منذ زمن بعيد. مع مرور الزمان استطاع هؤلاء التجار إيجاد مواقع قدم في المدن المخزنية كفاس وسلا من خلال الأسر الموريسكية التي، ما أن توفي الحسن الأول ، حتى تحللت من انتمائها المغربي لتدخل تحت حماية إحدى الدول الأوروبية ( آل الفاسي تحت حماية فرنسا أل الجباص تحت حماية انكلترا وآل الكتاني تحت حماية ألمانيا ….الخ ) حتى أضحت فاس مجسم صغير لأوروبا وقس على ذلك باقي المدن المخزنية.
العنصر الثاني : التنافس السياسي بين أسرتين مخزنيتين خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وهما آل الجامعي وآل بن موسى، وما أسفر عنه من إنهاك مؤسسة المخزن، والحد من الكاريزما التي تمتعت بها، خاصة خلال فترة حكم الحسن الأول (1873- 1894م)..
العنصر الثالث : ظهور حركتين أسهمتا في استنزاف إمكانات المخزن المادية والرمزية، وهما حركة الجيلاني ابن إدريس الزرهوني الذي دخل في مواجهة مسلحة مع جيوش السلطان عبد العزيز؛ واختصت الحركة الثانية (حركة الريسولي) في اختطاف الأجانب، وفي توتر العلاقة بين المخزن والقوى الأجنبية، وما نتج عنها من إرهاق مالية المخزن وقيمه الرمزية والسياسية.
ومن خلال هذه العناصر الثلاث التي ستدفع بالصراع الداخلي بين الفاعلين السياسيين المباشرين (السلطان عبد العزيز، وأخيه عبد الحفيظ) إلى السطح، وسينتج عنه حراك سياسي داخلي، الذي وهذا الحراك سيتمخض عنه أولى المدونات التي تبحث عن أشكال التعاقد السياسي كمحاولة للتأصيل للواقع الجديد. بيد أن طبيعة المخزن الاستبدادية عوض فتح مشاورات عمومية مع القبائل ككيانات سياسية مستقلة عن السلطة المركزية حول أشكال التعاقد السياسي الممكنة، استقدمت النخب المشرقية لمواجهة التنافس الإمبريالي بين كل من فرنسا وإسبانيا التين حاولتا الانفراد بإدخال «الإصلاحات » التي تريانها «ضرورية » لتثبيت مواقع النفوذ الاستعماري. بإدخال «الإصلاحات » التي تريانها «ضرورية » لتثبيت مواقع النفوذ الاستعماري. وهكذا تم مدها بالإمكانات الضرورية لتأسيس بعض المنابر الصحافية وتحريرها المذكّرات ومشاريع قوانين دستورية أقل ما يمكن القول عنها أنها لا تمت بصلة للواقع المغربي لا هوية ولا ثقافة بالمعنى الأنتروبولوجي، مما أدى إلى العطب الجيني لنشأة الفكر الدستوري في المغرب منذ إرهاصاته الأولى في مطلع القرن العشرين إذا ما قارنناه بالتجارب العالمية كتجربة تحديث اليابان التي حكمت منطقها وصيرورتها التاريخية، والذي مازال يلقي بظلاله على قراءة الفرقاء السياسيين لدستور 2011 الذي حاول تقويم هذا العطب المزمن في الفكر الدستوري المغربي إلى يومنا باعتماد مفهوم التأويل وهو مفهوم يهم النصوص الدينية ، عوض مفهوم التفعيل المفهوم القانوني المعمول به عالميا، ودفعت بشعوب كانت حتى نهاية القرن التاسع العشر في مصاف المغرب تخلفا، إلى مصاف الدول المتقدمة كاليابان مثلا ؛ ولن ندرك هكذا مقارنة ما لم نستقرء مخبر التاريخ، لمساءلة الواقع الراهن على أساس أن صور التاريخ تظل متحركة ومساعدة على فهم الحاضر بكل تعقيداته ومظاهره المتباينة والمختلفة.
فإذا كانت التغيرات التي عرفها المغرب بسبب عولمة الاقتصاد خلال فترة 1860- 1900 هي التي أدت إلى انهيار الدولة المغربية خلال فترة حكم السلطان عبد العزيز، ومهدت الطريق إلى الهيمنة بشكل كلي على التراب المخزني وإقرار نظام الحماية، كما أن التيارات الكبرى التي كانت سائدة في عهد الإمبريالية والتوسع التجاري الأوروبي، والتنافس بين القوى الغربية، إضافة إلى تأثير فعل الإصلاح في المغرب لعبت مجتمعة دورا في انهيار الدولة المغربية بعد سنة 1900.
وتتجلى هذه التغييرات التي نتجت عن التدخل الأوروبي خلال الفترة ( 1860 – 1912) والتي أضعفت المغرب التقليدي وأدت إلى تفكك الإدارة والاقتصاد، في ثلاث مجموعات متداخلة ، بحيث تمثلت المجموعة الأولى في الدخول المكثف للمصنوعات والرساميل الأوروبية إلى الأسواق المحلية، مما كان له وقع مدمر على البنيات الاجتماعية والاقتصادية القائمة. وتمثلت المجموعة الثانية في جهود التحديث المنبعثة داخليا، والتي ظهرت آثارها في تقويض البنيات الإدارية القديمة، وإطلاق برنامج التحديث. وتمثلت المجموعة الثالثة في وضع آلية الهجوم الكولونيالي الفرنسي موضع التنفيذ بعد سنة 1900. وتقاطع هذه المجموعات من التغيير أدى إلى انهيار المغرب القديم وميلاد مغرب جديد؛ حيث تصادم هذه التغيرات ظهر في حصيلة من ردود الفعل السياسية، تمثلت في الإصلاحات، والمقاومة المسلحة ، والانتفاضة الشعبية، وخلع السلطان، وأخيرا عدم رضا معظم النخبة المغربية .
اكتشاف المزيد من azulpress.ma
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
التعليقات مغلقة.