ماذا يحصل في الأدب؟ أنطوان كومبانيون يشخص الصراع بين النظرية الأدبية والحس المشترك
الرعب في الآداب:
منذ أواخر التسعينيات من القرن العشرين، بدأت تظهر كتابات فرنسية وأنكلو-أمريكية، وعربية كذلك، لأبرز مُنظّري الأدب ونقاده من أمثال، وليم ماركس، وتزفيتان تودوروف، وتيري إيغلتون، ودومينيك مانغينو، وجان ماري شايفر، وأنطوان كومبانيون، وروبرت شولس، وعبد الله الغذامي وسعيد يقطين وغيرهم، تنادي بـ»أزمة الأدب» و»موت الأدب» أو أن «الأدب في خطر».
وفي سياق ذلك، كانت هذه الكتابات تتناول قضايا النظرية والمنهج وما يرتبط بهما، وتطالب بتجديد درس الأدب في ضوء متغيرات وإبدالات جديدة، بقدر ما كانت تسعى إلى إعادة التفكير في حقبة ما بعد البنيوية، ولاسيما بعد انحسار البنيوية ومناخ الحداد الذي خيم على ثمانينيات القرن العشرين، مع اختفاء رولان بارت ومشيل فوكو وجاك لاكان، ونهاية الأيديولوجيات التي أخذت تخلي مكانها بصورة أوضح لممارسات جاك دريدا التفكيكية، أو علم اجتماع بيير بورديو، ثُمّ هيمنة النزعة المدرسية في تحليل النصوص الأدبية؛ إذ كان التعليم الثانوي والجامعي يغنم من خطاب النظرية الأدبية ويوجه ممارساتها تحت اسم الشكلانية، أو حين يتمُّ اختزال جيرار جينيت ورولان بارت وتلقي كتابهما «درجة الصفر في الكتابة و»وجوه» كأعمال استهلالية وتوجيهها إلى أهداف تربوية فقط. فمن المفترض أن يكون معظم طلاب الأدب، بمن فيهم طلاب جامعاتنا وحتى الذين يجلسون على المقاعد الخلفية، أو المعفيون أنفسهم من الحضور، قد سمعوا عن «علم السرد» و»التبئير الداخلي» و»الداخل حكائي» و»الخارج حكائي» وغيرها من المصطلحات الناعمة التي شنّفت آذانهم، أو المغرية التي تنتمي إلى ما يسمى «النظرية الأدبية»؛
التخصص الذي حاول في ستينيات القرن العشرين أن يفتح آفاقا جديدة في فهم الأعمال الأدبية، ثم انتهى به الأمر إلى غرسها بالكامل في البحث الأكاديمي، وهو ما نتج عنه اشمئزاز أجيال بكاملها من «متعلمي» الأدب الذين هرعوا إليه.
شيطان النظرية:
يُعدّ كتاب «شيطان النظرية. الأدب والحس المشترك» للناقد الفرنسي أنطوان كومبانيون Antoine Compagnon، من أبرز هذه الكتابات الموما إليها؛ وقد نقله إلى العربية وقدم له باقتدار المترجم المغربي حسن الطالب (دار الكتاب الجديد المتحدة – 2023)).
يتناول الكتاب أثر الأزمة النظرية على النقد الأدبي الأكاديمي، ويسعى إلى تقييم حصيلة التراث الشكلاني الذي كان من أهمّ مطامحه، بعد بول فاليري، أن يؤسس علم النص، ومقارنة نتائجه بما تمّ في مجال النقد الكلاسيكي. وإذا لم يكن السؤال الذي يثيره الكتاب حول صلاحية النظرية الأدبية، فعلى الأقلّ حول متانتها في الممارسات المعاصرة.
يحاول أنطوان كومبانيون أن يقف على الحياد، وهو يقارب موضوعه الشائك وبالغ الخطورة. بعد المقدمة «ما بقي من غرامياتنا؟» حيث يخترقها حنين طافح بالتفكُّه من هذا العصر الذي شهد حمى نظرية ومفاهيمية، يذكرنا بأن «المنظرين في ستينيات وسبعينيات القرن العشرين لم يجدوا من يخلفهم». سعت الماركسية والسيميولوجيا والتحليل النفسي إلى ابتكار أشكال جديدة من المَفْهمة، وخلق «آلات حرب» ضد النقد الذي استمد موارده الرئيسية من التاريخ، وتبنّى – دون فحص- فكرة كلاسيكية عن الواقعة الأدبية.
يرجع نجاح «النظرية» – بلا شك- إلى حقيقة أنها كانت تعارض «الحس السليم» الذي تم التشكيك في أهميته النقدية على نطاق واسع. و»الحس السليم» هو كل تلك الأسئلة المعتادة التي يواصل كل قارئ طرحها تقريبا بشكل غريزي حول نص أدبي، وهي الأسئلة نفسها التي سبق أن طرحها أساتذة كومبانيون في سنوات دراسته: «كيف تفهم هذا المقطع؟ ماذا أراد المؤلف أن يخبرنا به؟ ما هي مزايا هذا البيت من الشعر أو هذه النتفة النثرية؟ بأي طريقة تكون رؤية الكاتب أصلية؟ ما هو الدرس الذي يمكن أن نخرج به؟ إلخ.
علينا أن نعترف بما يلي: على الرغم من جهود المنظرين، التي لم تتكلل بالنجاح، قاوم «الحس السليم» ما كان يتعرض له من هجوم، ولم يكن هذا الأمر يحدث اعتباطا. ولهذا حان الوقت، في نظر كومبانيون، لتقييم الحجج المختلفة الخاصة بهذا الطرف أو ذاك، وتحديد مناطق قوّتها، وتحليل وجهات النظر المتعارضة لبيان حدودها وحصر تجاوزاتها، ومن ثمة السعي لرسم طريق وسط من شأنه أن يعيد الجميع إلى رشدهم.
يكمن هدف «شيطان النظرية» في إجراء جرد للحس السليم للأدب، وتتبع أنسابه، ومواجهة هذه الدوكسا بالبدائل التي تطرحها الشكلانيات. ومن هنا، يبدو أنّ الكتاب ككل لا يخفي طموحه في أن يساهم في إعادة صياغة السؤال الذي تأسست عليه الحداثة: «ما هو الأدب؟» مع تجنب الوقوع في التناقض، أو المأزق الذي دائما ما كان يهدد التعريف الانطباعي ويؤدي رأسا إليه: «الأدب هو الأدب».
يكشف كومبانيون خمسة عناصر لا غنى عنها لوجود «أدب» ما: المؤلف، الكتاب، القارئ، اللغة، المرجع، قبل أن يضيف عنصرين مكملين: التاريخ والنقد. وتشكل هذه العناصر السبعة بنية الدراسة: سيكون كل فصل من فصول «شيطان النظرية» سانحة لمواجهة النظرية الأدبية والحس السليم بخصوص هذه العناصر، في مسعى حثيث للإجابة عن عدد معين من «الألغاز» التي لم تُحلّ حول الأدب.
يركز كومبانيون على المقاربة التداولية للأدب بما هز أثر منتج، أي علاقته بالقارئ. هناك مفهومان نقديان متعارضان مرة أخرى: «النقد العلمي» (برونتيير) ثم «التاريخي» (لانسون) الذي يجادل ضد ما سماه «النقد الانطباعي» (الذي يتحدث عن تجربته في القراءة، وينطلق من التعاطف والذوق وما إلى ذلك).
تنازع التأويلات:
«ما هو الأدب؟» إنه سؤال أبدي لم يتمكن أحد أن يجيب عنه تمام الإجابة، على الرغم من المحاولات الرائعة والعديدة التي بذلها هذا أو ذاك من المنظرين والدارسين في العصر الحديث؛ وفي طليعتهم جان بول سارتر. بمعنى آخر، ما هي العلامات اللغوية التي تشير إلى أن نصّا ما، هو أدبي، وغيره ليس كذلك؟ لا يوجد دليل على أن الأمر يتعلق فقط بالمستوى اللغوي وحده، بل في هذه الحالة، ما الذي نتحدث عنه عندما نتحدث عن الأدب، أو عن العمل الأدبي؟ يستكشف كومبانيون الموضوع بشكل لا يخلو من حياد وطرافة، بحيث يجعل النقاد أنفسهم يتكلمون في هذا الموضوع من أجل إيجاد تفسير ـ أكثر منه جوابا ـ لهذا السؤال الصعب؛ لأنّ «الأدب، أو الدراسة الأدبية، هو مثل ساندويتش متنازع عليه بين المقاربة التاريخية بالمعنى الواسع (النص كوثيقة) والمقاربة اللسانية (النص كواقعة لغوية، والأدب كفنّ لغوي) وهما غير قابلتين للاختزال.
«التاريخانية» و»الشكلانية»: تحدد هاتان المقاربتان طبيعة الانقسام النظري الموجود في جميع فصول الكتاب. وإذا مَثّلنا بالمقصد الخاص بالمؤلف، فالنقاد قد انقسموا حوله إلى طائفتين:
أنصار التفسير (دعونا نحاول فهم ما يخبرنا به المؤلف) وأنصار التأويل (دعونا نحاول فهم ما يقوله النص بشكل مستقل عن المؤلف). بالنسبة للنقاد الأنكلوساكسونيين الجدد (ألان تيت، وارين، ويمسات، بيردسلي، إلخ) الذين سبقوا البنيويين الفرنسيين منذ عشرينيات القرن العشرين، فإن السؤال يتعلق بـ»المغالطة القصدية» (intentional fallacy) لأن العمل، كما يوضح مثلاً نص بروست الشهير: «ضد سانت بوف» هو «نتاج ذات أخرى غير الذات الاجتماعية، ذات عميقة لا يمكن اختزالها إلى قصد واعٍ». يتحرر العمل من مؤلفه ليصبح كيانا دالا مستقلا.
وموضوع البنيوية الأدبية (النظرية) الأساسي هو السعي لإثبات ذلك. وبالنتيجة، يُطرح مثل هذا السؤال: هل يتم اختزال معنى العمل إلى المقصد الذي أراد المؤلف وضعه فيه، أم النص يتخلص من المقصد الأولي؟ كما هو الحال دائماً بالنسبة إلى الأسئلة المعقدة، يذهب كومبانيون إلى التدليل على أنّه لا يمكن اختزال مقصد المؤلف إلى مشروع أو إلى سبق إصرار واع تماما («قصد واضح وكاشف» كما ريمون بيكار) وإذا كان الفنّ بدوره نشاطا قصديّا فإن ثمة العديد من مثل هذه الأنشطة ليست متعمدة أو واعية.
وحتى في أعقاب القول بـ»موت المؤلف» وارتداداته الجانبية، لم تُلْغِ المعارك بين المقصد والنص بالمرّة وجهات النظر أو المنظورات البيوغرافية والتاريخية، حتى وإن كانت نسبية. وكذلك حاول نقد المحاكاة، الذي يُفهم بأنه وهم مرجعي، أن يفصل التمثيل عن الواقعية، لكن لم يكن بوسعه أن يتفلت من قبضة الواقعي الذي ما زال يستخدمه ويستند إليه. منذ «شعرية» أرسطو، كانت المحاكاة (التقليد، التمثيل) هي المصطلح الذي يأخذ بالاعتبار العلاقة بين الأدب والواقع. ومع ذلك، حصل التشكيك في المحاكاة من طرف النظرية الأدبية، التي ألحت على استقلالية الأدب في ما يتعلق بالواقع، والمرجع، والعالم، وطرحت أسبقية الشكل على المحتوى، والتعبير على المضمون، والدال على المدلول، والدلالة على التمثيل، أو كذلك السيميوزيس sèmiosis على المحاكاة mimèsis؛ وبالتالي، فإن الإحالة ستكون بدورها وهما (في هذه الحالة نتحدث عن «وهم مرجعي»).
وفق النظرية، لا يتحدث الأدب إلينا عن الواقع، ولا يمكنه القيام بذلك، على الرغم من كل الزخارف الواقعية التي يزين بها نفسه أحيانا، وصف طويل في رواية بلزاك لا يخبرنا عن العالم، إنه لا يمثل شيئا، فهو فقط يتحدث أدبيّاً، ولا يحيل إلى أي شيء آخر خارجه (المرجعية الذاتية) بقدر ما هو يشير إلى فعل اللغة. فإذا كان النص يحيل على شيء آخر غيره، فهو في هذه الحالة يحيل على نصوص أخرى (التناص). تعارض النظرية تقاليد النظر الأدبي، التي سبقتها: التقليد الأرسطي، والإنسي، والكلاسيكي، والواقعي، والطبيعي، وحتى الماركسي نفسه، الذي يزعم بأن الأدب يهدف إلى تمثيل الواقع بأمانة أكبر على قدر إمكاناته. هذا التحديد الأخير، «على قدر إمكاناته» مهمّ للغاية، لأنه يسنح لكومبانيون بأن يحاجج أستاذه رولان بارت بل يتحدّاه؛ لأن صاحب «درجة الصفر في الكتابة» صاحب أطروحة قوية مفادها، أن الأدب لا يسمح لنا بتمثيل الواقع على الإطلاق، والمرجع ـ في نظره – وهم شامل.
مثل هذا التطرف في الرأي هو ما يشكك فيه كومبانيون، وهو يرى أن الانتصار السهل للنظرية الأدبية على المحاكاة يستند إلى المفهوم اللساني التبسيطي والمبالغ فيه: الهلوسة أو لا شيء («الهلوسة» هنا مصطلح يستخدمه بارت لتعيين الإحالة على الواقع).
وماذا عن القارئ؟
يركز كومبانيون على المقاربة التداولية للأدب بما هز أثر منتج، أي علاقته بالقارئ. هناك مفهومان نقديان متعارضان مرة أخرى: «النقد العلمي» (برونتيير) ثم «التاريخي» (لانسون) الذي يجادل ضد ما سماه «النقد الانطباعي» (الذي يتحدث عن تجربته في القراءة، وينطلق من التعاطف والذوق وما إلى ذلك). إذا كان العمل «وحدة عضوية مكتفية ذاتيا» فإن وجهة نظر القارئ عديمة الفائدة.
وهذا وهم آخر جديد يدعوه النقاد الأمريكيون الجدد: المغالطة العاطفية (affective fallacy). فالقارئ المتأثر بتقلباته وأحواله الخاصة، قد يحرف حقيقة النص. فأيّ تشريح نصي منهجي «علمي» سيجعل وحده من الممكن استخراج كل إمكانات المعنى. القارئ يقاوم لا غير. يقتبس من بروست: «ما نتذكره، ما أدهشنا في قراءاتنا ونحن أطفال لم يكن الكتاب نفسه، لكن المكان الذي قرأناه فيه، والانطباعات التي رافقت قراءته.
القراءة متعاطفة وإسقاطية ومتماهية». يحول القارئ ما يقرؤه عبر مصفاة مخيّلته. هناك دائما صراع حميم يدور حول قراءة الكتاب، يتصل بحرية الخيال لدى القارئ وبالقيود التي يفرضها النص نفسه. يقول أنطوان كومبانيون: «صحيح أن المؤلف مات، ولا علاقة للأدب بالعالم، ولا وجود للترادف، وكل التأويلات صحيحة ومشروعة، والمعتمد غير مشروع، لكن مع ذلك يستمر الناس في قراءة سير الكتاب، ويتماهون مع أبطال الروايات، ويتابعون باهتمام آثار راسكولنيكوف في شوارع سان بطرسبورغ، ويفضلون رواية «مدام بوفاري» على رواية «فاني» وينغمس بارت بلذة في قراءة رواية «الكونت مونت كريستو» قبل أن يخلد إلى النوم. وهذا السبب هو الذي يحول دون انتصار النظرية. فهي عاجزة عن محو الأنا القارئ وإلغائه».
عبد اللطيف الوراري كاتب مغربي
اكتشاف المزيد من azulpress.ma
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
التعليقات مغلقة.