لنكن نحن حتى لا نكون هم !

العولمة والغزو الثقافي .

محمد لحميسة

 

تبدو الثقافة للوهلة الاولى واضحة وسهلة الامساك ، فهي تنحصر بشكل فاتر في الجانب الابداعي من الفكر الانساني ، الفن والادب كمكونين وحيدين نَعْرِف ونُعَرِّف من خلالهما الثقافة.

في المتن الانثربولوجي تتعدى الثقافة الفن والادب لتكون اسلوب حياة وطريقة تفكير وشبكة متينة من الدلالات والمعاني ينسجها الفرد ويتعلق بها في الحين ذاته ، بصفته منتمي لتلك الثقافة يَتَطَبَّع بها ويعيد انتاج البنيات والظروف التي تعيد انتاجها من خلال عمليات التنشئة الاجتماعية .

وتشمل الثقافة على هذا الأساس اسلوب ارتداء الملابس، تقاليد الزواج ، أنماط الحياة العائلية، اشكال العمل ، الانشطة الاقتصادية ، الاحتفالات الدينية ، تصور المقدس ، بالاضافة الى وسائل الترفيه والترويح عن النفس .

 

والعلاقة بين الثقافة والمجتمع جدلية وديناميكية لا يكون فيها عنصر دون حضور العنصر الاخر ، بعبارة اخرى لايوجد مجتمع بدون ثقافة ، كما لاتوجد ثقافة خارج المجتمع .

 

والطبيعي في الثقافات هو التنوع والاختلاف وفق محددات مادية (الجغرافيا والمناخ) واخرى رمزية (الدين) . ولهذا نجد ان ماهو أخلاقي في المجتمع/الثقافة 1 قد لا يكون كذلك في مجتمع/ثقافة 2 ، لنأخذ مثال اللباس ، فإنه مختلف من مجتمع لأخر لإعتبارات مثل المناخ (لباس المناطق الباردة نقيض لباس المناطق الحارة ) ، ثم الدين والأخلاق (وجوب ستر العورة او الحجاب في الاسلام مثلا ) ، وقس على هذا المثال أمور أخرى مثل التغذية وطقوس الزواج والاحتفال .

وعند التفكير في هذا الاختلاف والتنوع الثقافي فإنه ليس لنا الحق في التصنيف والنظر بعين التراتب التفاضلي ، وأي تصنيف للثقافات وفق خطاطة (جيد، متطور#سيئ، متخلف) هو محض تأدلج ونزعة إمبريالية إقصائية ، وبقولنا هذا فنحن لا ننزع عن الثقافات إمكانية التثاقف ، وهو أن يحصل تأثير وتبادل ايجابي بين ثقافتين ، تأخذ فيه الثقافة 1 صفة او فعل او عادة او فكرة من ثقافة اخرى 2 ، وهذا ما جرى العمل به منذ قرون عبر الهجرات والقوافل التجارية ، وكانت عملية التثاقف هذه تأخذ شكلا اختياريا واصطفائيا ، إذ تأخذ الثقافة 1 أجود وأحسن ما في الثقافة 2 ، وتتغاضى عن المكونات التي لا تخدمها ولا تستجيب لقواعدها المادية والرمزية ، وبهذا تحافظ الثقافات على فرادتها ووجودها وسط ما يمكن تسميته صراع الثقافات الخفي والناعم ، نأخذ مثال الموسيقى ، فمن الجائز الإتيان بألة موسيقية ليست محلية ومن خارج الثقافة شرط تطويعها ويكون اللحن والشعر المغنى بلغة الثقافة المحلية ، هكذا كان يتم التثاقف ، يحاول دمج عنصرين متعارضين في توليفة يمكن القول بأنها ترضي الجميع وتحافظ على الخصوصيات الثقافية للجميع .

 

وان كان هذا التثاقف يعمل بصيغة اختيارية وانتقائية قبل العولمة ، فإن هذه الأخيرة استبدلته بما يمكن ان نسميه الغزو الثقافي ، واذ نحن نستعمل مصطلح الغزو فإننا نعي تماما الدلالات المكثفة وراء العبارة ، فإن العملية لم تعد اختيارة وانتقائية بل تتخذ صيغة الجبر العنيف الذي يبدوا كأنه ليس ذلك ، فالغزو الثقافي يمارس عنفه الرمزي بشكل لا يستوعبه الفرد او الجماعة التي تتعرض جماعتهم للغزو والطمس ، كما انه وفي احيان عديدة حتى اولئك الذين تغزوا ثقافتهم ثقافة اخرى لا يعي أن ذلك غزو وطمس ، ولكون فعل الغزو غير مقبول اخلاقيا وسياسيا فهناك بناءات اديولوجية تبرر الفعل وتشرعنه من مثل الانطلاق من رؤية ترانسندنتالية تقسم العالم الى قسمين متعارضين (نحن، متطور # هم، متخلف) وبذلك يكون فعل الغزو الثقافي فعل تثاقف بالنسبة لهم كنوع من تصدير الحضارة .

 

وتلعب العولمة هنا دور حصان طروادة من بعيد بضخامته يبدوا تحرير اقتصادي للسوق الدولية من اجل خلق تآزر وتضامن اقتصادي/سياسي عالمي يسهل فيه انتقال السلع والخدمات يستفيد منه الكل تحت شعار رابح-رابح ، لكن يختبئ بداخله فرسان الغزو الثقافي مهمتهم صناعة ثقافة واحدة عالمية تتماشى مع متطلبات نظام السوق الرأسمالي المبني على الاستهلاك المتواصل وتعمل على استبطان واستدماج نماذج معينة من السلوك والحديث والفعل واللباس … الخ تكون غريبة ثقافيا على غير الغربي ، وتخدم أيديولوجية الاستهلاك الرأسمالية الغربية.

وهذا ما دفع عديد المفكرين والباحثين الى دق ناقوس الخطر في موجهة بعبع الغزو الثقافي الذي تمارسه الثقافة الغربية عبر قناع العولمة ، المهدي المنجرة مثلا كان يتحدث عن مفهوم أمركة العالم ، ويقول عن العولمة بأنها ليست سوى أمركة للعالم ، بمعنى ان يصبح العالم ينتمي ثقافيا واقتصاديا لأمريكا التي ليست في هذا السياق سوى كناية عن الثقافة الغربية ، وتتزعم هذا المسعى وتحضنه الشركات متعددة الجنسيات ، فهي المستفيد الاكبر من العولمة الثقافية لتبيع منتوجاتها في الشرق كما في الغرب ، ويأكل الانسان في أقصى الشرق هامبورغر يشبه الذي يأكله آخر في أقصى الغرب ، وفيما يعنيه أن يصبح العالم ممركن فإن الأمر لا يختلف كثيرا عن العيش في مجتمع عالمي يشبه سجن البانوبتيكون كبير وضخم يحاول بداخله الفرد مجاراة هواجسه والتأرجح بين الرغبة في التميز والحاجة إلى الإنتماء ، النزوع نحو التفرد والحاجة للدعم الاجتماعي ، لأن هذا السجن يتيح امكانية ان يراقب الكل الكل ، وبالتالي يصبح هاجس الموضة واقعا مهما ، مجازيا يشبه الامر الة الركض ، وهذا الركض هو نحو الرضا والسعادة ، الأمر الغير ممكن في العالم الجديد ذي الوحدة الثقافية او ما أطلقنا عليه سابقا سجن البانوبتيكون .

 

وبالرغم من أن الحديث عن أمركة تامة الان يعد حلما لكن المؤشرات تبدوا جد محفزة لتبني مثل هذه التفسيرات والأفكار ، فالثقافات المحلية اليوم تعيش مراحل موت سريري ، وتعاني من داء يمكن تسميته داء الفلكلرة (اي اصبحت مجرد فلكلور ) ، وهو الامر الذي ينزع عليها أية قدرة ممكنة على المقاومة في ظل اغراءات الثقافات المهيمنة والقوية اليوم والتي تمنح لمريديها فرص وفيرة في سوق الشغل وسوق الرمزيات اذ يعد امتلاكها والتمكن من هذه الثقافات رأس مال رمزي جد محترم ، كأن يفتخر البعض اليوم بكونهم فرنكوفونيين او انغلوساكسونيين ، وبالانتقال للواقع فإن الخروج للشارع اليوم ورؤية أشكال الحياة الاجتماعية السائدة يظهر أننا على طريق الأمركة ، وأي حديث مع الشباب عن الطموحات والأحلام وأفق النظر قد يظهر كمية الاستلاب الثقافي الذي يجعل “النحن” يريدون أن يكونوا “هم” بأي ثمن ، ويبخسون بل ويتنصلون أحيانا من الثقافة الأم كونها تكرس الجهل والتخلف عكس الثقافة التي سلبتهم ، ولا يخلوا الامر من عقد كولونيالية غرست عميقا فكرة ان الأجنبي متفوق ، وكل ما هو غربي فهو مبرر ولا عيب فيه .

 

ولا أعرف ما إذا كان باستطاعة الثقافات المحلية الوقوف أمام المد الثقافي الغربي المتسلح اليوم بالتكنولوجيا والاعلام واساليب الادلجة والبروباغندا التي قادت جيل بأكمله يريد أن يصبح غربيا كل بطريقته ويزدري في الان ذاته كل ما هو محلي وأصيل ، فكيف يمكن ايقاف الاديولوجيا الغربية وما تمارسه من استعمار ثقافي غير معلن يجعل الناس هنا لا يلبثون في جلد الذات والاستسلام المازوشي للاخر الاجنبي ، وربما هذا هو السؤال الراهن الذي يجب على المثقفين والهيئات التي مهمتها حماية الثقافات (مثال المعهد الملكي للأمازيغية)طرحه ، الى جانب التوعية بمخاطر الاستلاب الثقافي ونزع العصابة عن اعين الناس ليبصروا حقيقة انهم لن يكونوا غربيين أكثر من الغرب أنفسهم ، ومرة اخرى أكرر “لنكن نحن حتى لا نكون هم” .

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. الموافقة قرائة المزيد