لا يمكنك إرضاء كل الناس..

  • بقلم: المكي بوسراو //

تقول إحدى الحكايات القديمة أن حكيما خرج مع ولده مغادرا القرية، راجيا منه أن يلاحظ ماذا سيقوله الآخرون عنهما.

هكذا ركب الحكيم حماره واصطحب ابنه وحين مرورهم وسط القرية قال الناس يا لها من مهزلة، انظروا كيف أن قلب الرجل لا رحمة فيه، لقد امتطى الدابة وترك ابنه الصغير يمشي وراءه. فقفل الحكيم عائدا إلى بيته مخاطبا ابنه: أسمعت ما قاله سكان القرية.

وفي الغد خرجا مجددا لكن تبادلا الأدوار، الإبن هو الذي ركب الحمار، أما الأب فقد فضل المشي وراءهما. وحين مرا وسط القرية صاح الناس قائلين: يالها من وقاحة الإبن يركب الدابة تاركا أباه يسير على قدميه دون استحياء.ألم يعد أحد يحترم الكبار؟ إنها قلة الآداب بعينها. عندما سمعا هذا الكلام أمر الأب ولده بالعودة إلى البيت مخاطبا إياه: هل سمعت ما قالوا؟.

وفي اليوم الثالث خرجا مجددا راكبين معا ظهر الحمار، وحين بلغوا وسط القرية عبر أهلها عن إمتعاضهم الكبير قائلين : ألا يوجد في قلب هذا الرجل وابنه رحمة، إنهما يعذبان هذه الدابة المسكينة الغير قادرة على الحركة. إنها قمة الأنانية، أليس في قلبيهما رحمة و شفقة. إذاك أمر الأب إبنه بالعودة إلى البيت، مخاطبا إياه : هل سمعت ما قاله أهل البلد.

وفي اليوم الرابع خرجا لمغادرة القرية لكن دون أن يركب أحدهما الدابة فسار الحمار مزهوا يتبعه الأب والإبن. وعندما مرا وسط القرية استغرب الناس كيف أن الرجل والإبن يمشيان على قدميهما تاركين الحمار يقودهما بحرية. ياله من عالم مقلوب. إنها قمة الغباء.

حينها قفل الأب والإبن عائدين إلى البيت، وأجلا سفرهما. فقال االرجل لولده : هل سمعت ما قاله أهل القرية. فأجابه الإبن: أجل. في طريق العودة إلى البيت وفي حواره مع أبيه تأكد الفتى بأنه من الاستحالة بمكان إرضاء الآخرين ، مهما فعلت ومهما غيرت موقفك أو اجتهدت أو قدمت من تنازلات.

فالآخرون لهم تمثلاتهم التي يرون من خلالها العالم ويصدرون الأحكام التي تتماشى مع قناعاتهم تلك أو تستجيب لرغباتهم أو تساير مزاجهم.

والنتيجة هي أنه لا يمكن بتاتا الاستجابة لانتظارات الآخرين أو إشباع رغباتهم أو مسايرة طلباتهم. وحين بلغا البيت استمر النقاش بين الابن ووالده الذي تعمق في القضية أكثر مستنتجا أن السعادة تظل مستعصية في هذه الحالة، لأن ربطها بالآخرين أمر فادح ، ما دامت طلباتهم وانتظاراتهم كثيرة ومتناقضة، إذ لاحظ الفتى أن الناس لا يستقيمون على رأي، فكل يوم يتبنون موقفا ما ويصدرون أحكاما جديدة مخالفة للسابقة، ولا يرون حرجا في تناقضهم ذاك.

واستخلص الأب قائلا: لا يمكنك أن تكون سعيدا إذا راهنت على موافقة الآخرين، لأنه كما سمعت و رأيت بأم عينيك، لا يمكنك، مهما فعلت، أن تساير كل طلباتهم ولا يمكنك نيل رضاهم.

وإن أنت أخذت على محمل الجد تعليقاتهم وآراءهم، فإنك، لا شك ستعاني كثيرا وربما ستكون شقيا. لا تربط سعادتك بما ينتظره منك الغير، بل اجعلها تنبثق من داخلك.

فالسعادة لا يمنحها لك الآخرون ، بل لابد أن تصنعها أنت بيديك وجوارحك وإرادتك الحرة. لا تنتظر أن تأتيك السعادة على طبق من ذهب. إنها ليست هدية تمنح بل هي حديقة أنت المسؤول عنها لأنك اخترت أشجارها وأزهارها وغرستها وسقيتها واعتنيت بها.

إن الآخرين، في مجمل الأحوال ، لا يريدون منك أن تكون سعيدا، فهم يغارون ويحقدون على كل من بلغ مرتبة أفضل منهم. لذا تجدهم يزرعون الأشواك ويضعون الأحجار في طريقه.

إنهم لا يكفون عن وضع الحواجز في وجه كل من يتحداهم لينتشوا بسقوطه وفشله. فالآخرون يفرحون لفشلك ويسعدون لشقائك، لأن المعادلة تقول أن الإنسان البئيس لا يحتمل أن يرى ناسا سعداء حوله ولا يستسيغ أن يكون هناك فرح وسرور.

فهو يتمنى أن يكون كل الناس تعساء وأشقياء، وأن يرى على وجوههم الحزن والكآبة وفي قلوبهم البغضاء والضغينة وفي سلوكهم القسوة والخشونة. فيسعد حين يكون الآخرون بؤساء مثله لكنه يحزن لما يحيط به أناس سعداء، فإما أن يحقد عليهم في صمت أو يكرههم ويعاديهم.
أخيرا، فالناس يريدون منك أن تكون مثلهم أي أن تحاكيهم في كل شيء: أن تفكر مثلهم وأن تتصرف مثلهم وأن تتذوق مثلهم وحتى أن تحب وتكره مثلهم. وهذا معناه انمحاء شخصيتك وذوبانك في عالم الآخرين والنتيجة هي التبعية التامة للغير وما تستتبعه من غياب الاستقلالية والحرية. فالآخرون يسعون بشكل دائم إلى سلب إرادتك الحرة وتميزك ، ويفضلون أن تكون شبيها لهم تماما.

أما إذا أنت أصررت على أصالتك وخصوصيتك، فإنهم سيناصبونك العداء لأنك تجرأت وانسلخت عن القطيع واخترت أن تكون مختلفا ومتميزا أي ان تكون أنت. “كن أنت” هي ذي الفكرة التي كان يدعو لها الفيلسوف الألماني نيتشه مؤكدا أن الشخص لا بد أن يكون سيد نفسه أي سيد قراراته واختياراته لأنه بذلك يعلي من شأنه و يثبت ذاته ويتحمل مسؤولية أفعاله وحده.

إذ لا يجب على الفرد أن يعول على الآخرين وأن يتبع خطاهم لأنه بذلك سيصير حملا وديعا يستسلم لأسياده وينصاع لسلطة القطيع بحثا عن وهم الطمأنينة وراحة البال. نيتشه لا ينفك ينبهنا أن عقلية القطيع قاتلة ما دامت تغتال إرادة وكبرياء الفرد وتحوله إلى قزم لا قيمة له، قزم طيع وخائف، لا يملك سلطة القرار. فالجماعة هي التي تختار وتوجه وتقر، وهي وحدها التي تحدد ما هو الصواب وما هو الخطأ، ما هو الخير وما هو الشر وما هو الجميل وما هو القبيح.


اكتشاف المزيد من azulpress.ma

اشترك للحصول على أحدث التدوينات في بريدك الإلكتروني.

التعليقات مغلقة.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. الموافقة قرائة المزيد

اكتشاف المزيد من azulpress.ma

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading