قراءة في قصيدة «آرام» للشاعرة مينة الحدادي
في لحظة تصفّح عابرة، كان من الممكن أن تمر قصيدة «آرام» دون توقّف، غير أنّ النص سرعان ما فرض إيقاعه الخاص كأنه يدعو قارئه إلى إبطاء القراءة وإعادة الإصغاء. فمنذ الأسطر الأولى يبدو أننا أمام كتابة تنبثق من منطقة شعورية دقيقة، يتداخل فيها الغياب مع الحضور، ويغدو الأثر أكثر رسوخا من الامتلاء، فتتحول التجربة الشعرية إلى مساءلة صامتة لما يبقى بعد انقضاء اللحظة.
حيث تتشكّل علاقة القصيدة بالذاكرة بوصفها علاقة إعادة ترتيب لا استدعاء مباشر. فالكتابة تنشغل بنسج الأثر أكثر مما تنشغل بتسمية الشخص، وتترك للعلامات الصغيرة مهمة حمل المعنى، وللهوامش أن تقول ما يتعذّر على المركز التصريح به. ومن هنا يتقدّم النص في مسار تأملي هادئ يتراكم فيه الشعور دون اندفاع، وتتكثف الدلالة عبر التفاصيل.
ويأتي الاستهلال:
«من شرفته رحت أقرأ الطالع»
مؤسسا لموضع رمزي يتحدد فيه مسار القصيدة بأكمله. فالشرفة تتحول إلى مقام وجودي معلّق، يتقاطع فيه الداخل والخارج، القرب والمسافة دون أن يُلغي أحدهما الآخر. ومن هنا تُمارَس قراءة الطالع باعتبارها فعل تأمل في اليومي الهش حيث تتراكم الرسائل، الهدايا اللامرئية، الصوت، رائحة القهوة والمعطف النيلي لتشكّل معا حضورا يُبنى عبر الأثر ويستمر من خلال الذاكرة.
ومع تقدّم النص يدخل الزمن ذاته في نسيج الكتابة، ويتحوّل إلى مادة قابلة للحياكة:
«رحت أغزل خيوط الغروب»
فالغروب يُستبقى داخل اللغة كحركة بطيئة تُرافقها صور تنتمي إلى عالم انسحبت منه الأشياء تاركة أثرها مفتوحا على التأويل، مثل الشمس الهاربة وقفل البيت المهجور. وبهذا يتشكل الفقد في هيئة حالة معلّقة لا تنغلق دلالتها، وتظل قابلة لإعادة القراءة عبر ما تبقّى.
وفي هذا السياق يكتسب نداء الاسم «آرام» ثقله الدلالي، إذ يتحول إلى مركز شعوري تتجمع فيه طبقات التجربة. الاسم يحمل داخله توترا هادئا تتجاور فيه السكينة مع الجرح، ويغدو نقطة استقرار للذاكرة والانفعال معا.
ويتخذ ديسمبر في القصيدة هيئة زمن نفسي ممتد، حيث يتقاطع الهدوء الظاهري مع ثقل داخلي طويل، ومسار متعرج يعكس ارتجاج التجربة. فالغيمة العاشقة التي تهذي، والجرح النابض خلف الأسوار صورتان تُجسدان حالة وجدانية تستبقي الألم في صيغة قابلة للاحتمال، وتُبقي الحب مؤجلا داخل اللغة دون أن تفقده حضوره.
ومن داخل هذا النسيج الزمني يبرز حضور الأب كمرآة وجودية عميقة تتجلى من خلالها حدود الاختيار وتشكل الهوية:
«لم أشأ أن أشبهك يا والدي»
جملة مشدودة بين الرغبة والوعي بالوراثة، حيث تتجسد الهوية في الجسد قبل أن تتشكل في الوعي. الوجه القمحي بلا زينة، واليدان بلا حناء.. علامتان على انتماء صامت، وعلى تاريخ يسكن الملامح دون ضجيج. ويتجاور هذا الوعي مع صورة الزمن بوصفه قوة مزدوجة تسرق وتهدهد، تجرح وتلوّن السماء بما يعكس علاقة مركّبة بين القسوة والحنان في الذاكرة الشخصية والعائلية.
ومع هذا الإدراك يتخذ الغياب بعدا أخلاقيا واضحا حين تختار الشاعرة تثبيت حضورها وترفض حمل «حزام عسكري موروث» بما يحمله من رمزية العنف والتاريخ القسري. ومن هنا يُعاد تعريف الانتماء عبر الفن، حيث تظهر صورة عازف البيانو الذي نسي آخر سوناتا فبعثر اللحن بوصفها تمثيلا لفعل إبداعي يتحرر من اكتماله الشكلي، ويمنح الصدق التعبيري أولوية على الانسجام.
وتتسلل نبرة الذنب إلى القصيدة في صيغة مساءلة داخلية هادئة، حيث يحيل وأد السنبلات اليابسات إلى وعود وُلدت مثقلة باليباس، وإلى كمال هشّ لم يصمد أمام التجربة. وفي مقابل ذلك تتجلى ذات تحفظ التفاصيل كلها: اللافتات، القواعد، الأزمنة، الأمكنة، الوجوه، التضاريس، الحدائق، الروح والجسد. غير أن هذا الامتلاء لا يقود إلى الطمأنينة وإنما يراكم ثقل الوعي، ويحوّل المعرفة إلى عبء وجودي صامت.
وفي محصلتها تُكتب «آرام» من منطقة ما بعد الانكسار، حيث يخفت الصوت لصالح كثافة الدلالة وتُستدعى اللغة لتسمية الفقد دون تزويق أو ادّعاء تجاوز. إنها قصيدة شرفة بامتياز، نقف عليها طويلا، لا لاستشراف أفق قادم وإنما لفهم الكيفية التي يواصل بها الماضي في صمته تشكيل وعينا بالحاضر.
القصيدة
«آرام»
للشاعرة: مينة حدادي
من شرفته رحت أقرأ الطالع
كل صباح
من رسائله
و هداياه اللامرئية
من صوته
و رائحة قهوته
و معطفه النيلي …رحت أغزل
خيوط الغروب
كشمس هاربة
كقفل بيت مهجور
آرام :
ديسمبر هذا العام هادئ
و طويل
متعرج
كغيمة عاشقة ، لا تكفُّ عن الهذيان
كجرح نابض خلف الأسوار
لم أشأ أن أشبهك يا والدي
لكنه وجهي القمحي بلا زينة
و يدي ّ بلا حناء
مخالب الوقت ،،، تسرق
تهدهد …تخضب لون السماء
لم أشأ أن أغيب يا آرام
أو أسرق حزاما عسكريا موروثا ،
لكنني قرأت الطالع على شرفتك
و نسبت اسمي هناك
كعازف بيانو نسي آخر سوناتا
فبعثر اللحن …
ربما لأني وأدتُ سبع سنبلات يابسات ،
آخيت عبير الورد و المطر
أو ربما لأني كسرت الكأس نفسَه
بلا ذعر من بروكريست
مشيتُ الشارع نفسه
و حفظت اللافتات جميعها بلا عتب ،
حفظت الأسماء و حروف الجزم و النصب
الساعات ، الأماكن ، التواريخ
الوجوه
التضاريس
الحدائق
و الروح و الجسد.
اكتشاف المزيد من azulpress.ma
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
التعليقات مغلقة.