في وداع دييغو مارادونا: الملهم.(3).
أزول بريس – د.محمد همام //
لم يكن إذن تاريخ مارادونا تاريخ لعب وحسب، بل تاريخ نضال وتحد. كان يحمل هم لاعبي العالم الثالث، ممن استعبدتهم الٱلة المالية الأوروبية. ولذلك كان من اللاعبين الأوائل من أمريكا اللاتينية ممن حملوا شارة عميد الفريق في أوروبا. فقد جاء إلى نابولي قائدا. وبالمناسبة فمارادونا كان يملك جينات قيادية من شبابه؛ مذ تدرج في أصناف الفريق التاريخي الأرجنتيني: بوكا جونيور، ثم في أصناف الفريق الوطني للأرجنتين. ثم إن مارادونا وجد في طريقه إسما كبيرا هو: ( بيلي)، أراد البرازيليون تتويجه ملكا لكرة القدم في كل العصور، وضخموا من إمكاناته، وهو لاعب كبير جدا بالمناسبة، كما ضخمه الإعلام الأمريكي، بحكم احترافه في الولايات المتحدة الأمريكية، ولرغبة الٱلة الدعائية الأمريكية في الحفاظ على الصراع والتنافر بين البرازيل والأرجنتين، مما أصبحت له انعكاسات سياسية على العلاقات بين البلدين. وأصبح الديربي البرازيلي الأرجنتيني معركة كبيرة ليس على الكرة وحسب، ولكن على النفوذ وعلى المجالات الحيوية في أمريكا اللاتينية، وعلى القيادة الرمزية للكرة العالمية.
لقد ولد مارادونا سنة1960، وفي هذا التاريخ فاز (بيلي) بكأس العالم للمرة الأولى1958، ويستعد للفوز به للمرة الثانية، 1962، وللمرة الثالثة، 1970. واستطاع بيلي أن يثأر للبرازليين، وأن يمحو عنهم هزيمة الماراكانا أمام الأوروغواي في نهائي1950. وجاء فريق الأرجنتين1978، وفاز بالكأس بقيادة اللاعب كامبس. هذا الأخير احترف بفالنسيا بإسبانيا، ولم يستطع أن يلبي طموح الأرجنتيين في ترسيخ الموهبة الأرجنتينية، وفي مطاولة تحدي الجار البرازيلي. ثم إن كأس العالم1978، جرت في الأرجنتين في ظروف سياسية معقدة، تحت حكم عسكري بقيادة الجنرال ( خورخه فيديلا).وقد عرفت هذه النهائيات حضور السياسة بشكل قوي في الرياضة، إلى درجة هددت دول كثيرة بمقاطعة النهائيات المنظمة في الأرجنتين، بسبب أوضاع حقوق الإنسان، والاعتقالات الواسعة التي نفذها النظام العسكري في صفوف المعارضة اليسارية. وفي خضم المباريات حامت شكوك كثيرة حول تلاعبات في البرمجة، وكذا في بعض النتائج، وحول تواطؤات النظام العسكري الأرجنتيني مع بعض مرتشي الفيفا، لتعبيد الطريق أما الفريق الأرجنتيني للفوز بالكأس، وتقديم خدمة سياسية لنظام خورخه العسكري. وسعت الٱلة الإعلامية الأوروبية إلى ترسيخ عدم استحقاق الفريق الأرجنتيني في الفوز بالكأس، وهو ما تأكد، بنظر الإعلاميين الأوروبيين، في البطولة الموالية في إسبانيا1982، بهزيمة الأرجنتين في المقابلة الافتتاحية أمام فريق متواضع لبلجيكا، وهزيمتين في الدور الثاني أمام الخصوم التاريخيين للأرجنتين: البرازيل وإيطاليا!! وفي مقابلة البرازيل طرد مارادونا من المباراة، وخرج منكسرا مطاطئ الرأس، تحت صفير جمهور أوروبي متحيز، في مدينة برشلونة.
لقد وجد مارادونا نفسه أما تحديات كبرى: إثبات الذات، وإثبات الموهبة الأرجنتينية، وتحدي الٱلة الإعلامية الأوروبية. ومنذ1983 بدأت تعرف الأرجنتين انفراجا سياسيا والعودة إلى الحكم المدني، وإطلاق سراح المعتقلين السياسيين والحقوقيين اليساريين، مما خلق أجواء إيجابية جديدة في الأرجنتين. فاحتاج الأرجنتينيون لمن يخرس النظام العسكري، وجعله الفوز بكأس العالم1978 ضمن مكاسبه، ولمن يخرس الدعاية الأوروبية بأحقية هولندا من الأرجنتين بالكأس، ثم لمن يخرس الجار البرازيلي الذي يملك البطولات، ويملك ملك الكرة: بيلي.
في إقصائيات كأس العلم1986، تغير المنتخب الأرجنتيني بكامله تقريبا، إلا من عميده في بطولة1982، دانيال باساريلا، المدافع الأوسط الصلب، والذي لعب احتياطيا في الفريق الجديد: ( جيل مارادونا). ومنذ الإقصائيات اكتشف العالم فريقا أرجنتينيا شابا، ولكن بروح جديدة، وبقيادة جديدة، فأكل الأخضر واليابس في طريقه. وعاد جمهور الطانغو ( الجمهور الأرجنتيني) إلى الملاعب، بعد ذهاب النظام العسكري. وكان فريق مارادونا عنوان التحول السياسي في الأرجنتين، وهو ماتجسده اللافتات السياسية التي كانت تملأ الميادين، خصوصا عندما يلعب الفريق الوطني الأرجنتيني، أو في مقابلات الفريقين الكبيرين: بوكا جونيور، وريفير بلايت. ومن يتابع تصريحات مارادونا في هذه الفترة يلحظ بأنه كان واعيا بكل أبعاد هذه المعركة، وبتداعياتها السياسية والثقافية، في داخل الأرجنتين، وفي أمريكا اللاتينية، خصوصا عند الخصم البرازيلي، وكذا في أوروبا.
إن ممارسة الكرة في أمريكا اللاتينية، جزء لايتجزأ من ممارسة الحياة اليومية، بأبعادها السياسية والثقافية، مثلها مثل ممارسة الرياضات الدفاعية في ٱسيا، خصوصا في الصين واليابان وكوريا. إنها فعل وجودي لإثبات الذات، وقيادة الناس، ومواجهة الطغيان، السياسي، والمالي، والعنصري. وهذا ما أكده الصحافي بجريدة الكارديان الإنجليزية أليكس بيلوس في كتابه: ( كرة القدم: الحياة على الطريقة البرازيلية، ترجمة: عبلة عودة، في أكثر من 440صفحة)، كتاب خاص عن عميد الفريق البرازيلي في مونديال1982، اللاعب( الطبيب)، سقراطيس.(1954-2011). وهو من جيل مارادونا ومن طينته؛ إذ كانت ميوله يسارية، وكان يعارض صراحة النظام الديكتاتوري في البرازيل. كما كان متحفظا على توغل النزعة التجارية في كرة القدم، خصوصا في الأندية الأوروبية، لذلك فسخ عقده مع فريق فيورنتينا الايطالي، وعاد إلى البرازيل. والغريب انه في خضم أبحاثي في هذا الموضوع وجدت الإعلام الأوروبي متحاملا على سقراطيس كما تحامل على مارادونا. إنهم يريدون لاعبا مهاريا، مثل ميسي، لكن بدون موقف، وبدون رؤية، وبدون هوية. لاعب يحقق الأرباح، وتباع قمصانه، ويرضى بالأموال والتعويضات السمينة، ويسكن القصور، ويركب أغلى السيارات، لكن لاينتقد العنصرية، ولاينتقد الفيفا، ولايشارك في الحياة السياسية، ولايعيش في هويته. وهو النموذج الذي تمرد عليه دييغو، وعاش موهوبا ومبدعا على المستطيل، ومتمردا وناقدا وشجاعا خارجه؛ فأي نموذج اخلاقي وإنساني هذا؟ والذي يستكثر عليه قساة القلوب من سذاجنا، الترحم عليه، والدعوة أن يتجاوز الله عنه، وكلنا يخطئ ويذنب!! ورحمة الله وسعت كل شيء.
(يتبع).
اكتشاف المزيد من azulpress.ma
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
التعليقات مغلقة.