في وداع دييغو مارادونا: الملهم.(2).

أزول بريس – محمد همام* //
عندما خصصت المجلة الدولية للدراسات الثقافيةInternational Journal Culture Studies عددا للدراسات الرياضية( نسبة إلى الرياضة sports، وليس الرياضياتMatimatics، وهي بالمناسبة حقل دراسي مازال مجهولا بيننا!!)،2012، شارك فيه الباحث بارتلومييج براش، Bartlomiej Brach، الأستاذ بجامعة وارصو/ بولونيا، ببحث بعنوان: ” من هو ليونيل ميسي؟ دراسة مقارنة بين دييغو مارادونا و ليونيل ميسي.” Who is Lionel Messi? A camparative study of Diogo Maradona and Lionel Messi. خلص فيه إلى أن ميسي مهما كان مبدعا ومجددا في أسلوب كرة القدم، ومهما حافظ على لياقته البدنية، مع تقدم سنه الكروي، وهو مبدع ولاشك، لن يستطيع تجاوز ( أسطورية) مارادونا، لسبب بسيط، هو أن مارادونا، لايدرس كلاعب موهوب وحسب، ولكن كظاهرة ثقافية؛ أي أن السياق الثقافي الذي أحاط بمارادونا في مسيرته الرياضية، هو جزء من شخصيته ومن سيرته ومن ارتباط الناس في كل العالم به؛ فقد التحم به جمهور الفقراء والمحرومين والمهاجرين في أمريكا اللاتينية وفي ٱسيا وفي إفريقيا، وغير الأوروبيين من القاطنين في أوروبا، وعدد ٱخر من الأوروبيين من المنصفين. لكن وقفت ضده ٱلة إعلامية نيوليبرالية متوحشة ومتحيزة في كل مساره الكروي.
والحقيقة أن حياة مارادونا كانت تمزج بين الكرة في المستطيل الأخضر وبين ظروف ثقافية وسياسية كانت تحيط باللعبة من كل جانب. ومهما حاول ( مهرطقو الفيفا) ادعاء أن كرة القدم وجدت للتعارف بين الشعوب، فإن الإنسان الأوروبي، خصوصا، سعى دائما إلى استغلال كرة القدم في الحروب السياسية، وحتى العسكرية، كما استغلها الطغاة والديكتاتوريون في مناطق أخرى من العالم، ومن بينها الأرجنتين، في زمن العسكر1978. لذلك كانت كرة القدم في مرحلة الحرب الباردة وسيلة سياسية ( ناعمة) لتسجيل النقط، واستهداف النجوم الرياضيين، في حياتهم، وفي أسرهم، وفي أموالهم، وفي سمعتهم. وهذا مانال مارادونا منه الكثير. فمارادونا كان مستهدفا من الإعلام الرياضي الأوروبي المتحيز، لأنه حجب بشعبيته الجارفة، وأدائه المبهر في كل المنافسات،النجوم الأوروبيين؛ في تلك المرحلة ( الثمانينيات)؛ فقد تعرض لحملة واسعة من الإعلام الفرنسي خصوصا؛ إذ كان يقلل من موهبة مارادونا، في مقابل ترميز لاعب سنتتيان واليوفيي والمنتخب الفرنسي ميشيل بلاتيني( وللمفارقة: وبعد وفاة دييغو، مادزال الإعلام الفرنسي إلى وقت كتابة هذه المقالة يتكلم عن إدمانه المخدرات وعن سلوكاته الشخصية، وفي الوقت ذاته لايتكلم عن لاعب مازال حيا بينهم هو بلاتيني والمتهم باختلاسات مالية ورشاوى…( وهذا التوصيف لاينقص عندي من قيمة بلاتيني، ومن كفاءته الكروية، وأنا الذي أحفظ مساره الرياضي بتفصيل في سانتيتيان وفي اليوفي وفي المنتخب الفرنسي، مع المدرب ميشيل هيدالغو)، وما زلت اتذكر قيادته المنتخب الفرنسي للفوز بكأس أوروبا1984، بمنتخب مثالي، عرف تألق لاعبين من أصول إفريقية: تيغانا، وتريزور… ووسط ميدان مبهر: (بلاتيني وتيغانا وجيريس). لقد كان الإعلام الرياضي الفرنسي، وحتى السياسي في بعض الأحيان، واعيا بأنه يخوض معركة ثقافية لدعم بلاتيني ضد مارادونا عندما كانا الإثنان محترفين في الكالشيو( بطولة الدوري الإيطالي). فمارادونا يلعب في نابولي، فريق محدود الإمكانيات المالية والبشرية، إلا من مارادونا والهداف البرازيلي المغمور كاريكا، وفي المقابل يلعب بلاتيني في فريق السيدة العجوز( اليوفي) بإمكانيات هائلة، وكتيبة من النجوم العالميين: بلاتيني، بونييك، باولو روسي… ومع ذلك يشعر الإعلام الفرنسي بالحسد والكراهية لدييغو.كما لم ينج مارادونا من حملة الإعلام الإنجليزي، ومازالت، ضده؛ أولا لأنه رفض الاحتراف في البطولة الإنجليزية المغرية بأموالها وتجهيزاتها وتاريخها، وكانت هي الأفق الخيالي المنتظر أو ( الفردوس المفقود) لكل نجوم العالم، وثانيا لأن الإنجليز لم ينسوا مباراة ربع النهاية ضد الأرجنتين في نهائيات كأس العالم1986؛ عندما واجههم فريق أرجنتيني محدود الإمكانيات، لكنه يقوده ( قزم) موهوب هو مارادونا. وقد تابع العالم كيف أهان دييغو الإنجليز عندما راوغ فريقا بكامله وسجل هدفا خياليا، مازال يستمتع به عشاق الفن والرياضة والكرة. ولكنك تجد الإعلام الإنجليزي يركز إلى اليوم على هدف مارادونا الأول في المباراة، إذ مافتئوا يقولون بأنه سجله بيده، ودييغو يقول: سجلته( يد الله)، مع أن الجميع، من المبتدئين ومن المحترفين في كرة القدم، ومن الجمهور يعرفون أن أخطاء الحكام جزء من اللعبة، كما أخطاء القضاة في المحاكم. والسلطة التقديرية للحكم في المباراة وللقاضي في المحكمة، جزء من ممارستهما المهنية المحدودة بإمكانيات الإنسان وبضعفه.( وخلق الإنسان ضعيفا). وإلى اليوم لم تستطع القوانين الجديدة في كرة القدم، برغم إدخال التكنولوجيا والفار، تجاوز إكراهات السلطة التقديرية للحكم، ومايعتريها من أخطاء ومن سوء تقدير في وضعيات كثيرة ودقيقة. ولكن الإنجليز لايرون في مارادونا إلا خاطفا لنصر هم أحق به، مع أن التاريخ يثبت عكس ذلك؛ فقد ذهب مارادونا ومات ولم يفز الإنجليز لا بكأس العالم ولابكأس أوروبا. وبقي مارادونا مكروها في الإعلام الإنجليزي، خصوصا وأن الفريقان تواجها في المكسيك1986 في سياق وأجواء حرب الفوكلاند أو جزر المالوين بين الأرجنتين وبريطانيا. ولم يكن الإعلام الألماني بعيدا عن هذه الحملة على مارادونا، وقد جمعت مقالات عديدة من الإعلام الرياضي الألماني، في فترة احتراف مارادونا بنابولي، كلها تسير في نفس الاتجاه: التقليل من قيمة مارادونا، وترميز النجوم الأوروبيين، خصوصا الألمان: رومينيغي، على الخصوص. ولن ينسى الألمان ماكان يقوم به عميد الفريق لوتر ماتيوس، من حراسة لصيقة لمارادونا، في المباراة النهائية لكأس العالم1986، مهمة حولت ماتيوس إلى( كلب حراسة)، وليس في هذا التعبير أي بعد قدحي، وأنا من محبي لوتر، ومعجب بتحوله في مركز اللعب من وسط ميدان متأخر، وهو الموقع الذي كلف فيه بحراسة مارادونا، إلى موقع وسط ميدان متقدم وحر، وهو الموقع الذي قاد فيه ألمانيا للفوز بكأس العالم1990 أما الأرجنتين وبوجود دييغو. كما أعرف تضجر ماتيوس من هذه المهمة التي كلف بها، والتي كلفت الألمان ضياع كأس العالم1986، لأن مارادونا، ببساطة، غير قابل للحراسة أو المحاصرة.
لا أريد ان أستغرق في أمثلة أخرى تدل على أن مارادونا لم يكن يواجه لاعبين عنيفين في الميدان، ومدربين يخصصون من يحرسه ويراقبه طيلة المباراة وحسب، ثم إن هذا أمر مقبول، في تلك المرحلة، في إطار بارادييغم تدريبي، كان يسيطر على المدربين الأوروبيين، خصوصا عند مواجهة نجوم أمريكا اللاتينية وإفريقيا. بارادييغم يسعى إلى تمزيق اللوحات الفنية المبدعة التي يرسمها اللاعبون الموهوبون السحرة القادمون من الأرجنتين والبرازيل والأوروغواي، ومن الكاميرون ونيجيريا… والمهتمون يتذكرون مباريات الأرجنتين والبرازيل مع ايطاليا في كأس العالم1982، وغيرها كثير، عندما ينتصر مال الأغنياء على مواهب الفقراء. بل كان مارادونا يواجه جيشا من الإعلاميين، يحرضون ضده، ويقللون من موهبته، ويبحثون عن ثغراته. فقط لأنه يمثل في خيالهم التحدي القادم من بعيد، صوت الجنوب، وصوت الفقراء، الزاحف على الأغنياء، ممن اغتنوا بخيرات الفقراء وبثرواتهم، وبدموعهم.
إن ظاهرة مارادونا صوت مزعج، ضد عدم التوازن في العالم، وضد كل مظاهر الاستغلال، و ضد العنصرية، وضد كل القاذورات التي رمتها حضارة الغرب على بقية العالم. ليس مارادونا( رحمه الله) إذن مجرد لاعب وليس مجرد غليون وليس مجرد رقصة؛ إنه علامة ثقافية ينبغي تثمينها والعناية بها وتوريثها لشباب الإنسانية المحروم، في خضم صراع شرس وقاس وغير متكافئ اليوم بين ماسحي الأحذية وحفاري القبور!!
(يتبع).
* الدكتور محمد هموم باحث مغربي واستاذ بجامعة ابن زهر
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. الموافقة قرائة المزيد