في وداع الأستاذ محمد وقيدي// الجيل الفريد: من ضيق الأيديولوجيا إلى سعة الإبستمولوجيا (7)

د. محمد هُمام// أستاذ بجامعة ابن زهر/ أكادير//

تطور الجدل العلمي (الإبستمولوجي) في المجتمع العلمي بجامعة محمد الخامس بظهور كتابات الأستاذ الباحث المفكر سالم يفوت (1947-2013). فقد تفاعل الأستاذ يفوت مع كتابات الأستاذ وقيدي، سواء من خلال كتبه المنفرده، أو من خلال كتابه، بالاشتراك مع الأستاذ عبد السلام بن عبد العالي: “درس الإبسامولوجيا”. فقد أصدر الأستاذ يفوت كتاب : ” إبستمولوجيا العلم الحديث”/ دار توبقال. وهو عبارة عن نقد بعض أسس النزعة الوضعية التي تحمس لها الأستاذ وقيدي ودافع عنها في مؤلفاته الإبستمولوجية. فقد رسخت هذه النزعة الوضعية، من منظور الأستاذ يفوت، التصور الميكانيكي في العلم في القرن السابع عشر، باعتباره (نموذجا تفسيريا)، هيمن على العقول، وفرض معاييره ومقاييسه على النظر العلمي، وعلى مؤسسات البحث. وربط الأستاذ يفوت النزعة الوضعية بالفلسفة الديكارتية، والنظرية النيوتونية؛ فالأولى ارتبطت بنظرية ديكارت الطبيعية، لتفسير حركات الأجسام والأجرام وحتى جسم الإنسان. والثانية، أي النظرية النيوتونية، بما هي تتويج لمسيرة الآلية الفلسفية والعلمية والميكانيكا الطبية بمختلف أوجهها ومظاهرها، وكذلك الميكانيكا التطبيقية للمهندسين. وكل هذا كان يعبر عن يقظة تقنية في أوروبا، ومن آثار تحول المجتمع الوسيط، في أوروبا، من مجتمع إقطاعيات إلى مجتمع مدن. وأحدث كل هذا انقلابا في الرؤية أصابت المجتمع الأوروبي برمته؛ فتحولت الآلية من إعجاب بفكرة الآلة، بنزعتها الوضعية الصارمة، من نموذج تفسيري في العلوم الطبيعية، إلى (عقيدة علمية)، وإلى (رؤية للعالم)، وإلى ( أيديولوجيا علمية)! وبذلك تحولت النيوتونية من خلاصات آراء وتجارب ونظريات وتصورات جديدة تقوم عليها الفيزياء في حينها، إلى ميتافيزيقا، ومن نظرة علمية في الطبيعة إلى (أيديولوجيا الطبيعة)؛ أي تحول النزعة الوضعية من نظرية في العلم إلى (عقيدة علمية).
وعليه، انطلق الأستاذ يفوت في بحث من منظور تأريخ حياة العلوم ومخاضها؛ أي تأريخ نشأة التصورات العلمية وتحولها واستمرارها وكذا اندثارها، ودراسة الشروط المحيط بها. ولا يخفى ما في هذا المنزع البحثي والتأريخي والنقدي، عند الأستاذ يفوت، من رغبة حثيثة لمحاصرة النزعة الوضعية عند الأستاذ وقيدي بالأسئلة البحثية وبالحفر المعرفي، بما يزكي عمق النقاش في الجامعة على أرضية الإبستمولوجيا. فقد سعى الأستاذ يفوت، في منهجه التأريخي، إلى تجاوز المباحث المدرسية في تاريخ العلوم؛ بالاعتماد على التأريخ للعلماء/ أشخاص، أو من خلال وضع جداول زمنية للأحداث العلمية، أو للوقائع العلمية، إلى مقاربة تبحث في الآليات الفعلية المتحكمة في العملية العلمية. ويساعد هذا المنهج على رصد التصورات العلمية وتأويلاتها و كذا توظيفاتها عند الأنساق المعرفية الأخرى، مثل الدين والفلسفة والسياسة… وخصوصا في الفلسفة التي تعتبر عادة صدى للعلم!
وبقدر ما نلمس في البحث الإبستمولوجي للأستاذ سالم يفوت نقدا لمجهود الأستاذ وقيدي، بقدر ما نلمس فيه استئنافا للقول الإبستمولوجي الذي شيده الجابري في تاريخ الفكر الفلسفي المغربي المعاصر في الجامعة المغربية، من خلال كتابه: مدخل إلى فلسفة العلوم: العقلانية المعاصرة وتطور الفكر العلمي( 1976). وعليه درس الأستاذ يفوت، من منظور فلسفة العلوم وتاريخ العلوم، بالمنهج الذي ذكرنا سلفا، النهضة والإصلاح العلمي في أوروبا، انطلاقا من صراع القديم والجديد في الفيزياء. وفصل القول في الصراع الداخلي الذي عرفته ثورة كوبيرنيك(1473-1543)؛ من حيث هي ثورة في علم الفلك أنجزها كوبرنيك بنفسه، وثورة في الفيزياء لم ينجزها، وبقيت من المسكوت عنه في تصوره العلمي الجديد. فقد كان التصور الجديد يقتضي تجاوز الفيزياء الأرسطية ونقد آرائها، وهو ما رحبت به الأوساط الدينية والعلمية والفلسفية، باعتبار هذه الأفكار تحل مشاكل العلم القديم، لكن سرعان ما سترفض السلطة الدينية مخرجات النتائج الفيزيائية، وهذا ما جسده الاضطهاد الذي تعرض له غاليلو (1564-1642). وتطرق الأستاذ يفوت إلى تجدر الباراديغم الأرسطي في العلم القديم، برغم تعديلات بطليموس( 168-90م) عليه. وكان بطليموس يجسد تحولات العلم في ظل الإمبراطورية الرومانية والرغبة في القطع مع المنظومات الهلينية والإغريقية للعلم، لكن من خلال ترميم الباراديغم الأرسطي وجعله أكثر مرونة وانطباقا على الوقائع، خصوصا على مستوى (دوائر الإسناد) و(أفلاك التدوير) التي اقترحها بطليموس للتغلب على عدم مطابقة الملاحظات الفلكية أحيانا للفلك الأرسطي. في هذا السياق التطوري للعلم، كانت الكنيسة هي السلطة الفكرية المهيمنة، وكان رجل العلم هو ( رجل دين) في الوقت نفسه. فكوبرنيك، مثلا، كان يقدم نفسه، وينظر إليه المجتمع، باعتباره رجل دين يمارس البحث العلمي. لذلك احتضنت الكنيسة أفكاره الفيزيائية، ولو أنها تحفظت على نتائجها النهائية، كما ذكرنا. فلم يكن للكنيسة رأي واحد حيال أفكار العلم القديم، أرسطو وبطليموس، بين القرن الرابع الميلادي، وهو تاريخ ظهورها وبين القرن السابع عشر، أي فترة ازدهار العلم الحديث، بل ساهم علماء الكنيسة أنفسهم، ليس آخرهم كوبرنيك، في نقد العلم، وفي إدخال تعديلات جديدة على الأفكار العلمية، بما يزيد يقلل من مصداقية الأطروحة الوضعية ( المتطرفة) التي تجعل الحالة الوضعية هي الحالة النهائية للتطور العلمي، وبما يجعلنا، من منظور الأستاذ سالم يفوت، نعيد النظر في الأفكار التأريخية التي تعتبر العصر الوسيط عصر جمود وظلام وهيمنة رجال الدين. وتؤكد أطروحة الأستاذ يفوت أن دور الدين في مسيرة تطور العلم في أوروبا كان فعالا وكان ايجابيا. والعصر الوسيط كان عصرا ساخنا وحيويا من حيث إنتاج الأفكار العلمية المؤثرة في تاريخ العلم بعامة، وفي ظهور العلم الحديث. وكانت الجامعات التي تدرس العلم القديم تابعة للكنيسة. وقد كان القديس طوماس الأكويني(1225-1274) يشرح التصور المسيحي للعالم بألفاظ أرسطية، مع تحفظ، بالطبع، على الأفكار التي تمس بقدرة الله المطلقة واللامتناهية، كما تتصورها الكنيسة. وعليه كانت الكنيسة حاضنة للفكر السكولائي الذي عمق نقد الباراديغم الارسطي، وهناك من يعتقد بأن المنحى النقدي للكنيسة تأثرت فيه بالمدارس الإسلامية، خصوصا مع الكندي والفارابي وابن سينا والغزالي وابن رشد وابن تيمية، خصوصا وأن هذه المرحلة كانت مرحلة توهج علمي خارج أوروبا، وخصوصا في العالم العربي والإسلامي وفي الهند والصين… لقد انتهى الأستاذ يفوت، في هذا السياق، إلى أن الفكر السكولائي، والذي يوجد فيه مضمون ديني، ديني بشكل عام، أحرج الفكر الأرسطي، وكان مساهما في انبثاق الفكر الحديث وليس قطيعة معه! من منظور القطيعة الإبستمولوجية، بتفسير باشلاري ضيق ومحدود ومتحيز.


اكتشاف المزيد من azulpress.ma

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

التعليقات مغلقة.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. الموافقة قرائة المزيد

اكتشاف المزيد من azulpress.ma

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading