في وداع الأستاذ محمد شحرور(2).
بقلم محمد همام //
ذكرنا في الحلقة السابقة أن المشروع الفكري للأستاذ محمد شحرور،رحمه الله، بصرف النظر عن موقفنا العلمي والمنهجي منه، قد ضاع في خضم دخان حرائق البلاطوهات الإعلامية، وفي خضم الخصومات السياسية بين الإسلاميين والحداثيين، وفي خضم عمليات تسييس النخب والمثقفين وكذا المفكرين، ودفعهم، بنعومة مرة وخشونة مرة أخرى، للتخندق داخل محاور الصراع الإقليمي الداخلي العربي، بمنطقة الخليج العربي على الخصوص، وكذا في خضم ضجيج التيارات السلفية المعادية للعقل والتفكير والنقد في دراسة العلوم والمعارف والمراجع الإسلامية. وهو مشروع فكري مقدر اقترحه الأستاذ وفق مقتضيات معرفية ومنهجية اختارها والتزم بها، وهو وحده من يتحمل مسؤوليتها العلمية، وقدرتها التحليلية ونتائجها التفسيرية للقضايا التي عالجها، وهي في السوق مطبوعة ومنشورة منذ ثلاثين سنة على الأقل، وليست وليدة اليوم، ولاوليدة السجال التلفزيوني هنا وهناك اليوم، كما أنها غير مرتبطة بمحاور الصراع الإقليمي العربي، على الأقل من حيث ظروف وشروط إنتاجها الخاصة بصاحب المشروع.
وعليه حاولنا عزل المشروع الفكري للأستاذ محمد شحرور عن الظروف المعاصرة التي أحاطت بصاحبه في السنوات القليلة الماضية، وبسجالاته التلفزيونية مع الإسلاميين، فقط، لأنه قدم أفكارا جدية ونقدية وجديدة في جزء منها في وقتها، تستحق القراءة وكذا المعالجة الفكرية والنقدية لكشف حدودها ورصد فعاليتها وانضباطها المعرفي والمنهجي.
والطريف في محمد شحرور، رحمه الله، أنه ذهب إلى الاتحاد السوفياتي في خمسينيات القرن الماضي لدراسة الهندسة المدنية في بعثة رسمية،وعاد بدبلوم مهندس متخصص في ميكانيكا التربة، بكل ما تعنيه الاتحاد السوفياتي حينها من تاريخ وفلسفة وأيديولوجيا وقوة عسكرية وسياسية في ذلك الوقت، وماتعنيه كذلك لدول العالم الثالث، ومحور الدول الاشتراكية على الخصوص، من مصدر إلهام وعامل تحفيز لبناء النموذج الاشتراكي العادل! والقطع مع النماذج( الرجعية)! والثقافة الدينية ( الظلامية)! السائدة في العالم العربي على الخصوص.رغم هذا المناخ الاشتراكي المخاصم للدين والثقافة الدينية، والمبشر بالمجتمع اللاطبقي العادل! الذي عاش فيه محمد شحرور تفجر في ذهنه سؤال الدين والمعرفة الدينية وعلاقتها بالعقل والعقلانية والعصر وأسئلته الحارقة. ولم يسلك شحرور مسالك الذين درسوا في الاتحاد السوفياتي أو في ألمانيا الشرقية، وعادوا مبشرين بالعصر اللاطبقي، وبإمكانية كنس الدين من المجتمع، وبسهولة تجاوز الثقافة الدينية وتأثيراتها لبناء مجتمع عصري وعقلاني وصناعي.لم يسلك هذا المسلك الدعائي السهل، بل ركب المسلك الوعر، واقتنع بتجذر الدين وثقافته في البنيات الاجتماعية وفي شعور ولاشعور الأفراد.وبأن تاريخ الشعوب العربية جزء من سيرة الدين في هذه الأقطار، وهو الذي درس في الاتحاد السوفياتي، ويعيش في دولة بعثية بوليسية بحمولة أيديولوجية هجينة من القومية والاشتراكية والطائفية والحكم الفردي المطلق . وبقي السؤال الديني يؤرقه وهو يمارس مهنة تدريس الهندسة المدنية في كلية الهندسة بدمشق.وذهب في بعثة رسمية أخرى لاستكمال دراساته الهندسية على مستوى الماجستير و الدكتوراه. والتحق في بداية السبعينات بالجامعة القومية الايرلندية بدبلن.وفي هذه المرحلة بدأ صياغة العناصر الأولى لمشروعه الفكري الذي يلخصه كتابه: الكتاب والقرآن الصادر سنة 1990.(في أزيد من 800صفحة)، وهو متفرق في كتابات أخر.
فبعد رجوعه إلى مصادر الفكر الإسلامي والمعرفة الإسلامية خلص إلى نتيجة أساسية كانت منطلق مشروعه الفكري، وهي: أنه فكر عجز عن حل معضلات أساسية يواجهها الإنسان المسلم اليوم؛مثل: أطروحة القضاء والقدر والحرية، ومشكلة المعرفة، ونظرية الدولة، والمجتمع والاقتصاد والديموقراطية، وتفسير التاريخ…ويرجع محمد شحرور السبب إلى العناصر التالية:
– عدم التقيد بمنهج البحث الموضوعي.
إصدار حكم مسبق على مشكلة قبل البحث فيها.
– عدم الاستفادة من المنتج الفلسفي الإنساني.
– عدم وجود نظرية إسلامية في المعرفة الإنسانية، مستنبطة حصرا من القرآن الكريم.
-الأزمة الفقهية الحادة في التفكير الإسلامي.
في هذا السياق انشغل محمد شحرور بقضايا التراث والأصالة والمعاصرة، وهل يمكن إدخال القرآن ضمن التراث؟ وهو مايرفضه. بل ينطلق في بحثه من قوله بأن هذا الكتاب موحى من الله سبحانه وتعالى إلى محمد(ص)، وهو في الوقت نفسه خاتم الكتب، وأن محمدا(ص) خاتم الأنبياء والرسل. وهو كتاب يحمل الطابع المطلق للمعرفة في ارتباطه بالله، ويحمل الطابع النسبي للفهم في ارتباطه بالإنسان. وبما أنه كتاب باللغة إلى الإنسان، فهو يتميز إذن بثبات الصيغة وحركية المحتوى.وعليه يصبح التراث، بنظر شحرور، هو فهم الناس للقرآن وليس القرآن في حد ذاته. وفي هذا السياق، يصبح فهم صدر الإسلام، هو الاحتمال الأول للإسلام وليس الوحيد وليس الأخير، وهو بمعنى آخر تفاعل إنساني في محتواه وقومي في مظهره.
وأجرى محمد شحرور مسحا شاملا للقرآن الكريم وفق اختيار منهجي محدد سيأتي الحديث عنه لاحقا. وخلص إلى أن القرآن يتكون من ثلاثة أنواع من الآيات، توصل إليها بعد تمييزه بين النبوة والرسالة( وبالمناسبة له كتاب: السنة الرسولية والسنة النبوية)؛ فالنبوة بنظره هي المعلومات التي أوحي بها إلى النبي (ص) وبها سمي نبيا؛ أي أن كل الأخبار والمعلومات التي جاءت في الكتاب هي النبوة. والرسالة هي مجموعة التشريعات التي جاءت إلى النبي بالإضافة إلى المعلومات فأصبح بها رسولا، فالنبوة، كمايقول، علوم والرسالة أحكام.عندها تصبح نظرية الوجود وتفسير التاريخ من النبوة، وأما التشريع من إرث وعبادات والأخلاق والمعاملات والأحوال الشخصية والمحرمات فهي الرسالة. كما يربط النبوة بالآيات المتشابهات والرسالة بالآيات المحكمات! وهناك نوع ثالث من الآيات لا متشابهات ولا محكمات، ولكنها شارحة لمحتوى الكتاب.( وهو بالمناسبة يميز بين القرآن والكتاب).ويذهب شحرور إلى أن الكتاب يسمي الآيات المحكمات التي تمثل رسالة النبي ب ( أم الكتاب)، وهي قابلة للاجتهاد حسب الظروف الاجتماعية والاقتصادية ماعدا العبادات والأخلاق والحدود. وأما الآيات المتشابهات والتي يسميها ب ( القرآن والسبع المثاني ) فهي قابلة للتأويل وتخضع للمعرفة النسبية وهي آيات العقيدة. وأما الآيات لامحكمات ولا متشابهات يسميها الكتاب: ( تفصيل الكتاب).
وفي هذا السياق التصنيفي والمسح الإصطلاحي ميز شحرور بين: الكتاب، وأم الكتاب، والقرآن، والسبع المثاني، و الذكر، والفرقان، وتفصيل الكتاب، والحديث، وأحسن الحديث، والعرش، والكرسي، والألوهية، والربوبية، والنبوة، والرسالة. كما ميز بين محمد (ص) نبيا، ومحمد (ص) مشرعا، وحدد الموقف منهما ؛فعن الموقف الأول يقول: ” لا أتصور إنسانا مسلما وعربيا يمكن أن يقف موقفا سلبيا من النبي (ص)، لأن مثل هذا الموقف خيانة للدين من قبل المسلم، وخيانة للقومية من قبل العربي. ولا أتصور إنسانا عربيا بغض النظر عن دينه يقف موقفا سلبيا من النبي(ص) ويقول عن نفسه: إنه وطني أو عربي.” أما عن النبي مشرعا فقد رد تعريف الفقهاء للسنة، واعتبر دور النبي باهرا ونموذجيا في تحويل المطلق إلى نسبي والحركة ضمن حدود الله، وهي وظيفة ينبغي القيام بها بعد النبي مما يجعل الاجتهاد في الأحكام مفتوحا وباب التأويل في القرآن مفتوحا.
فما هو المنهج الذي اعتمده محمد شحرور لاقتحام هكذا مواضيع وتصنيفات وتمييزات أوصله إلى نتائج غير مألوفة في الدرس الديني الكلاسيكي، وأثار عليه المحافظين؟
موعدنا في الحلقة اللاحقة.
اكتشاف المزيد من azulpress.ma
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
التعليقات مغلقة.