الواقعة الأولى
في إحدى المرات مررت على تاجر يهودي أزجي معه الوقت في انتظار أن يؤدي والدي صلاة العصر بمسجد غير بعيد عن متجر اليهودي فأخذنا في القيل والقال بعدما سألني لما لا أصلي كما يفعل أبي ، فلما وضحت له موقفي، قص علي واقعة حصلت له مع أحد تجار انزكان لم يسمه لي وإن كانت أوصافه تنطبق على أحد المشهورين بالتدين والمعقول، مفادها أن المعني قصده يوما لاستدانة مبلغا يغطي به عجزا طارئا، فاستأذنه اليهودي أن يلتحق به في المنزل ظهيرة اليوم الموالي لتسليمه طلبه ؛ ولما حل الموعد ، وصادف أن كان ذلك أول يوم من أيام رمضان، كان التاجر بالباب فأدخلته الخادمة ليجد اليهودي وزوجته على مائدة الطعام فدعاه ، فلبى الدعوة وشاركهما الطعام… باقي الحكاية لا يهم سرده أكثر ما نحتاج إلى وقفة تأمل أمام هكذا موقف من مسلم معروف عنه التدين كما المعقول في لغة تجار انزكان، فربما للضائقة التي يمر بها نصيب، وحتى لا يتراجع اليهودي عن وعده اضطر الإفطار لكي لا يغيظه كما سيكون رد فعله لو كان مكانه والطالب ليس مسلما.
الواقعة الثانية
كان الزمان ربيعا سنة 2013 وأنا عائد من رحلة استجمامية ، عرجت على إفران في زيارة مباغتة لقريب لي ، وصادفت في مسكنه زميلا له وزوجته أقام مأدبة عشاء على شرفهما ، نظرا للحرج الذي استشعرته من قسمات وجه رفيقة قريبي استأذنت بالانصراف إلا أن إصرار القريب وزميله أمكثني معهم للمسامرة، بعد مجاملة وتعارف صار بنا الحديث بين جد وهزل إلى أن استفتحت الضيفة موضوعا استعرضت فيه بتبجح ما للموريسكيين ( وهي تعتقد أنها من سلالتهم ) المطرودين من الأندلس من فضائل في رقي وتحضر المغاربة ، فعندما استفسرتها عن قرائن تؤكد ما أتت على ذكره، وبحكم كونها مهندسة معمارية التجأت إلى المعمار كسند ، فأخرجت نقالها الذكي تستعرض صورا التقطتها في زيارة لإشبيلية لمآثر تؤرخ لأيام حكم المسلمين، لما وافقتني ومعها الحضور على أن التراتبية الكرونولوجية هي المحددة مَن أخد مـن مَن ، سردت عليها أن مراكش ومسجدها الكتبية أقدم بكثير مما تراه عمارة أندلسية وإن كانت لهما نفس الخلفية الفلسفية المعمارية ، فكان لتبادل النظرات بينها وبين بعلها انكسارا ، ولرفع الحرج تطوعت لأستعرض لهم ما أعرفه عن تاريخ اشبيلية، وبالطبع أخذنا الحديث عن القصر الذي عاش به الحكام المسلمون ثم استوطنوه بعدهم الملوك الكاثوليك وزيّنوه بصالة السفراء وأجمل فنون المسلمين المدجنة . ولما توقفنا عند الكاتيدرال الضخم الذي أقيم على أنقاض مسجد اشبيلية حتى انهالت المهندسة على اليهود والنصاري بالشتم واللعنة! وكأني بالحضور يؤيدها بصمته ، بالطبع أخبرتهم أن هذه سنّة دأبت عليها الأمم القديمة. وضربت لهم مثال تحويل عمر بن الخطاب لهيكل سليمان إلى مسجد، وحرق عمرو بن العاص للمكتبة الإسكندرية وتحويل كنيسة آية صوفيا على يد العثمانيين إلى جامع، لكن فوجئت بأن السيدة كانت شبه أمية وتجهل قصة التاريخ من أساسه إلا من بعض شذراته العالقة بذهنها، وكل ما تعلمته لا يزيد عن الجانب التقني في مهنتها بالإضافة إلى الطبخ والتسوق ومشاهدة مسلسل سامحني والتأرجح بين عمرو خالد وعمرو دياب.
الواقعة الثالثة
في الشهر الماضي وأنا غارق في عرض مسرحي لفرقة فرنسية في إطار الدورة الأخيرة للمهرجان المسرح الجامعي المقام بأكادير، حتى رج هاتفي فالتقطت عيني اسم الخاطب مع فحوى الخطاب ، ولما الخاطب صديقة عزيزة تمر آنذاك بفترة حرجة بعد إنقاذها من عملية انتحار، كما أن مضمون الخطاب يعكس وضعها، غادرت القاعة للتو هاتفا إياها عن مكان تواجدها لتتوسل إلي باللحاق بها بمنزلها، لأجدها مستلقية على ظهرها مغمضة العينين والدموع منهمرة مرددة ترتيل السديسي لسورة الكهف، للوهلة الأولى ظننتها خاشعة لو أن الكأس القابضة عليه بكلتا يديها فائحة المزة تنساب من بين ثناياها، لأدرك أنها في وضع الإحساس بالذنب فهي من طبعها حب الحياة وملذاتها لكن ثقل المعتقدات والرموز يعيق لها الانسجام مع الذات وإقبالها على الحياة بالرغم من تكوينها الأكاديمي في الأدب الفرنسي، إذ فطمت على الجهل المتلفز بإدمانها على القنوات المشرقية وعضا وسينمائيا وغنائيا.
رغم اختلاف الوقائع الثلاث المذكورة أعلاه، إلا أنها تلتقي في الجوهر ، كلا منهم صادق في مشاعره، فالتاجر المسلم سليم العقيدة والضرورة تبيح له المحظور، فيما المهندسة المعمارية رغم تكوينها التقني مازالت تحمل في لاوعيها أنها من خير أمة أخرجت للناس ، وكذا الصديقة العزيزة فإيمانها راسخ لا شعوريا وإحساسها بالذنب هو تبرير لكبت حبها للحياة مستقبلا ما دام باب التوبة مشرعا .
الخيط الناظم
بالتقاء الوقائع الثلاث في الجوهر فذلك راجع إلى أن لها خيط ناظم وهو العقل الإسلامي المتأزم بعد صدامه مع العصر ، ويمكن إجمال أزمته في لغته من حيث هي الإناء الذي ينضح منها ، وتنتج منظومة قيمه ووعيه التاريخي ورموزه التي تتجسد داخل الفضاء المتخيل القصصي، الذي ينحت الوجود الجمعي عبر طقوس يؤديها الأفراد منذ فطامهم. فلنسيغ السمع إلى أحد الدعاة ذي الصوت الرخيم الداعية الوهابي الشيخ العريفي وهو يلقي محاضرة من ألمانيا – حيث أجرى سماحته عملية جراحية بعد مكروه ألم به – من بين ما جاء فيها حرفيا : …. والله إن غبار حذاء رسول الله محمد (صلعم) أحب إليّ من أمريكا وأوروبا مجتمعتين!!
تكمن أهمية هذا التصريح في عدم أهميته، فهو يندرج في إطار نفس الموروث الكلامي الذي كتبه فقهاء على ضوء قنديل ينطفئ متى حُبس عنه الهواء، دون أن يكلفوا أنفسهم عناء معرفة السبب حتى جاء لافوازييه واكتشف الأوكسجين.لكن لمثل هذا الخطاب خطورة كبرى، فالقوم اعتادوا رمي عقولهم راءهم عند سماع العنعنة حتى أصبحت الوسيلة الوحيدة للإقناع تعطيل التفكير بشكل نهائي ؛ فالعريفي لم يكن بإمكانه أن يخرج من فضاء متخيله اللاتاريخي، وليس له سوى أن يُوكل للبلاغة اللغوية النطق باسمه والتفكير عنه. فشيخنا من حيث لا يدري يهين أربعة أخماس البشرية ويحتقر العقل في آن واحد. إذ المفترض في الأنبياء والرسل أن يكونوا قدوة للبشرية لا أن تُحتقر الأمم من أجل غبار حذائهم! ترى ماذا سيكون موقف المسلمين لو أن كاردينالا مسيحيا أو هندوسيا أو بوذيا قال أن غبار حذاء بوذا أو المسيح أحب إليه من مكة أو جزيرة العرب؟ فما تفوه به العريفي وأمثاله لا يخرج عن الانتفاخ الكلامي القروسطي الذي يفترض عالمية رسالة النبي لكنه بنفس الوقت يقدمه كزعيم قبيلة بدوية ، مثلما يُترجم الله المجرد في الإرث الإسلامي داخل فضاء لغوي موروث كلامي ينضح بقيم أبوية وقبلية وذات طابع أثني وقومي. لذا يمكن للمرء فهم هيجان العالم الإسلامي إزاء كلّ إحتكاك برموزه. مقابل رد الفعل السلمي للعالم البوذي بُعيد تدمير تماثيل بوذا في باميان الأفغانية على يد طالبان؛ لأن البوذي له ميزة تعكس رموزا دينية حسية ومجسدة وهي ميزة لاتستطيع أدوات الشيخ العريفي اللغوية تمثلها.
لا ريب أن الوهن والإخفاقات المستمرة في كل أقطار شمال اقريقيا ، تعكس في أهم جوانبها عجز النخب (السياسية والثقافية) عن إعادة صياغة الرموز بما يناسب روح العصر، ومرد ذلك فشل إقامة الدولة الحديثة المرتبطة بالعقد الاجتماعي – وهو ما يفسر الصراع الدائم بين المغرب والجزائر لأن دوامه ضمان لاستمرارية النظامين معا – . فالدولة كانت غائبة دوما ولم تحضر إلا لممارسة العنف الأبوي السلطوي. أو لتنافس الموروث إرضاء وتملقا له، لهذا فقدت أجيالنا القدرة على التمييز بين فكرة الدولة (العقد الإجتماعي) والدولة (السلطة القمعية) ، وإضمحلت برامج التربية والتعليم القادرة على “عصرنة” الرموز الكبرى المحركة للوعي الجمعي لتهدر الفرصة أمام الأجيال الناشئة.
لتتوقف النخبة إذن عن ثقافة الصالونات التي لا تسمن ولا تغني من جوع، وهي أشبه باستمناء لغوي لا ينتج حملا معرفيا، فبماذا أفادتنا مجلدات الجابري عن”نقد العقل العربي” وهو شخصيا ضيع عمره في نقد شيء غير موجود، أو أعمال طه عبدالرحمن الذي يريد تأصيل المعارف الغربية في الإسلام كمن يريد استنبات شجرة الأركان في بلاد الإسكيمو ( شخصيا قلّبت أوراقه بإبهامي على طريقة عد الأوراق المالية وأعدتها للرف، فمن العبث هدر العمر لمعرفة اللامعرفة ؟ في حين تغيب عن برامج التربية أعمال ومشاريع ترجمة الثقافات التي قدمها محمد أركون وجعيط والخطيبي يمكن لها أن تحفز روح النقد لدى المتعلمين ، ومن هنا يكون الطريق أقصر وأجدى لأنسنة الرموز وهو عمل تستطيع برامج التربية والتثقيف تأهيله، بعد تركها عرضة للنقد التاريخي، فالأديان تفهم نفسها رسالة مطلقة للمتعالي، إلا أنها في الحقيقة وجود وصيرورة مشروطة بالتاريخ. ومن المفيد أن يكتشف المتعلم بأن حياة وسير هؤلاء العظماء كانت مشروطة بروح عصرهم. ومن العبث إسقاط معايير عصرنا عليهم. ولا غضاضة أن يعاد النظر في دراسة شخصية مؤسس دين الإسلام ، بصورة أكثر رمزية ترفع الرواية عن التجسيد الروائي المبتذل ومحاولة التعرف على تقاطعات سيرته مع سير شخصيات ميتاتاريخية ، وأن يدرك بأن هذه الشخصية قد تمت نمذجتها خلال العصر العباسي في وقت أصبحت فيه رمزا لهوية إمبراطورية كبيرة، حسب ما بقوله بحوث النقد التاريخي المعاصر وعلوم اللغات والأديان المقارن، وأن يعلم أن القرائن والإثباتات الأكيدة عن إسلام القرن الهجري الأول قليلة حد العدم إلا نقش قبة الصخرة ، وبعض المسكوكات) وكذلك هو حال القرن الثاني تقريبا، إذ لا وجود حقيقي لمخطوطات أصلية تؤرخ الأحداث المبكرة، حتى أن صاحب كتاب “البدايات المظلمة” أوليك هانس إستغرب الغياب الكامل والصمت المطبق للكتابات المسيحية واليهودية التي تتعرض للفتح والتمدد الإسلامي في الهلال الخصيب ومصر، وهذا أمر غريب وجدير بالانتباه ؟؟ سيما وأن هؤلاء لديهم ثقافة كتابية راسخة؟ !
ثم يأتي القرآن مركز العقيدة كرمز بالغ الأهمية، لما يثيره من فضول الباحثين والدارسين عالميا ويدفعهم لإعادة ترميزه وتأويله بضوء أركيولوجيا اللغات القديمة، وتاريخ تطور الكتابة العربية (ظهور علامات الإعراب وتنقيط الحروف) وتاريخ الأديان المقارن باعتباره وثيقة أصيلة اجتازت امتحان الحداثة بجدارة. بذا فقط سيتم أنسنة القرأن لسانيا بتخفيف وصاية العربية وهيمنة قواميس المفسرين القدماء. وقبول فكرة كونه إرث إنساني يجيز للبشرية تداولها كباقي الكتب المقدسة الأخرى، وتعريضه للنقد التاريخي ، بالخصوص أن النسخ القديمة تظهر بعض الاختلافات الكتابية ، على سبيل المثال في تحوير اسم (يحي) النبي المعروف. فهو نفسه ( يوحنا، أو يوحناس) في التراث النسطوري والبيزنطي واليعقوبي والصابئي واليهودي. وللملاحظ الدارس للنسخ القرآنية القديمة ( الغير منقطة) كانت تكتبه : ( يحى: بدون نقاط) وتقصد (يُحنى) لكن النساخ المتأخرين قرؤوا الكلمة (يحي) ؛ وكذا بعض الأخطاء الإملائية التي وقع فيها النساخ الأولين فأدت إلى أخطاء نحوية دفعت بالمفسرين باختلاق تبريرات متناقضة والآية 177 من سورة البقرة ۞ لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ …الخ ۞ لمثال جلي بحيث كلمة ” الْبِرَّ” الأولى في موضع اسم ” ليس ” المفروض أن ترفع ، لكن الناسخ الأول نصبها فجعل المفسرين في حيص بيص.
متى شيع المثقفون والمفكرون والسياسيون المغاربيون هاتين القضيتين ، عبر برامج تربوية وتثقيفية، حتما ستؤهل الجمهور للتحرر الفردي والجماعي مما يخلق إرادة حقيقية وقوية لإعادة فتح مكة للعالمين كمحاولة لأنسنة الحدث الإسلامي المبكر وتحطيم لأصنام البداوة والتعصب والانغلاق،آنذاك يمكن للشمال الإفريقي أن يرتقي بالعالم الإسلامي إلى مصاف القادر على هز عروش الغطرسة والهيمنة الدولية .
التعليقات مغلقة.