في الذكرى العاشرة لرحيل الفيلسوف المغربي محمد عابد الجابري جدلية المعقول واللامعقول في الخطاب القرآني
د.محمد همام//
يذهب الجابري في مشروعه (نقد العقل العربي) إلى أن (المعقولية) في السياق العربي تتحدد داخل (الكلام) القرآني من خلال جدلية (المعقول) و(اللامعقول) في خطابه. وتتلخص هذه (الجدلية) في الصِّراع بين (التوحيد) و(الشرك)، وهو صراع تاريخي عرفته البشرية منذ بدايتها؛ إذ يمثل الشرك، بمعنى تعدد الآلهة، (لامعقولاً) ينطوي على تناقض لا يقبله العقل[1]. وفي هذا السياق يقدم القرآن رحلة الأنبياء على أنها كفاح من أجل نشر خطاب العقل ضد خطاب اللاعقل الذي يحمله خطاب الشرك. كما اعتبر القرآن التحريف الذي مسَّ العقائد التي كانت موجودة قبله هو عودة إلى اللاعقل؛ فالذين “اتخذوا أحبارهم (…) أربابا من دون الله) (التوبة 29-30)، والذين قالوا: (إن الله هو المسيح ابن مريم) (المائدة 17)، أو قالوا: (إن الله ثالث ثلاثة) (المائدة 72)، يعبرون عن عودة إلى (اللاعقل).
يقدم القرآن رحلة الأنبياء على أنها كفاح من أجل نشر خطاب العقل ضد خطاب اللاعقل الذي يحمله خطاب الشرك
وعليه عاد العرب، بنظر الجابري، إلى (اللاعقل)، بعودتهم إلى الوثنية، وهم حفدة النبي إبراهيم، واتخذوا الأصنام أربابا يعبدونها. وواجههم القرآن بالجدال والحوار، وكان موضوع الجدل هو (اللامعقول)، من خلال اتخاذهم الوسطاء بينهم وبين الله؛ كواكب،
أو تماثيل، أو أصنام… وكانت ديانة العرب، بنظره، نموذجاً (عاميا) لديانة قوم ابراهيم. من هنا كان استحضار الخطاب الحجاجي لإبراهيم في مواجهة قومه، مناسبة لمواجهة مشركي قريش، كما في البقرة/ 170-171. ومن هنا يتجسد، بنظر الجابري، خطاب العقل في القرآن وهو يواجه خطاب اللاعقل بمنطق التجربة والعقل والأداة البيانية؛ كما في الآيات: الأنعام/ 74-77، والبقرة 189، ويونس/5، والحج/ 72، والأعراف/ 191-194. كما واجه خطاب (العقل القرآني)، خطاب (اللاعقل)، في أسئلته وتحدياته؛ كما في الآيات: الإسراء/59، والأنبياء 68-71، وطه 67-70، الدالة على الآيات والمعجزات. ومع ذلك قال اللاعقل، كما يحكي القرآن: “يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة” (البقرة/55)، وكذلك حصل مع النبي محمد، كما تحكي الآيات: طه/ 133، والحج/ 46، ويوسف/ 105؛ وقد تحداهم القرآن بقيمته الذاتية؛ كما في العنكبوت/ 51-52، ويونس/ 38.
لقد استند إذن القرآن، في صراعه مع اللاعقل، من منظور الجابري، على الكون ونظامه وعلى البيان. وكان هذا (اللامعقول) يجر معه قسطا كبيراً من الموروث القديم، والذي عكسته بصورة عامية ديانة العرب المشركين الذين جادلهم القرآن. وسيبرز هذا الصراع بشكل كبير في الحركة العلمية وفي الصراعات السياسية بين المتكلمين والمروجين للموروث القديم قبل الإسلام، ومن بينهم المتصوفة بنظره[2].
ويرى الجابري أن هذا الموروث، ومن ضمنه التصوف/ اللامعقول، غريب عن التجربة الإسلامية؛ فبالرغم من انفتاحها في العهد النبوي، لم تفرز عبر تطورها الذاتي، هذ التيار، أي التصوف، كما لم تفرز تلك التيارات الفكرية الإبستمولوجية والأيديولوجية التي سادت في عصر التدوين وبعده؛ أي أن الحقل المعرفي العربي لم يكن نموه خاضعاً لوتائر إمكاناته الداخلية وحدها، بل على ما استفاده من الموروث القديم الذي تسرب عبر (التضَمين)؛ أي تضمين النص القرآني جزءاً أو أجزاءً من الموروث القديم عبر آلية (التأويل). بذلك تسرب إلى المجال التداولي الإسلامي الموروث القديم الذي ليس إلا خليطا من العقائد والديانات والفلسفات والعلوم. واشتد الصّراع بين (العقل) أو المنطق الذاتي للثقافة العربية، وبين (اللاعقل) الوافد الأجنبي. وظل المعقول الديني، بنظر الجابري، سائداً في الجزيرة العربية وفي شمال إفريقيا وفي الأندلس، كما كان حضوره في مصر قويا في زمن الخلافة الفاطمية، وظل الموروث القديم (اللاعقلي) في سوريا والعراق وإيران الكبرى يواصل حياته في بنية المعتقدات الدينية الجديدة التي جاء بها الإسلام، مستتراً أو من خلال تيارات فكرية وسياسية تخوض حروبها ضد (المعقول الديني)، البياني العربي، إلى أن تم دمجها تحت عنوان واحد هو (الفكر الشيعي)، وما يرتبط به من مذاهب وتيارات باطنية كالتصوف والفلسفة الإشراقية[3].
إن اللامعقول إذن، ينتمي، بنظر الجابري، إلى مركب جيولوجي شكله الموروث القديم في الثقافة العربية الإسلامية.
من هنا كرس الجابري جهوده، أو هكذا يشرح في مشروعه، إلى الجانب الإبستمولوجي في الموروث القديم؛ أي نظامه المعرفي، وكيف نظر ممثلو المعقول الديني لهذه التيارات، وكيف قدمت هذه التيارات نفسها هي للثقافة العربية الإسلامية، وما هي المواقع التي امتلكها هذا النظام المعرفي (نظام العرفان) داخل هذه الثقافة. وذهب الجابري يحفر في كتب التاريخ وكتب الملل والنحل وكتب الفهارس والطبقات وتصنيف العلوم، لاستخراج آليات هذا النظام المعرفي العرفاني؛ ليصل إلى أن هذا النظام المستند على الموروث القديم، بمكوناته المانوية والصابئة والأفلاطونية المحدثة، يقوم على ثنائية الإله: إله النور وإله الظلام، وعلى: التطهير الخلاص (المانوية)، والإله الذي لا يعلم الكون ولا يدبره (الهرمسية)[4]، ووساطات- يرجع إليها الاختراع والإيجاد وتصريف الأمور (الصابئة)، وكل هذه المنطلقات تتوافق مع عناصر كثيرة من الأفلاطونية المحدثة[5]. وكل هذا الموروث، بما فيه التصوف/ اللامعقول، ينتهي عند الجابري إلى القول بعجز العقل البشري على تحصيل أية معرفة عن الله من خلال تدبير الكون؛ مما يعني أن المعرفة الإنسانية للكون تكون عبر الاتصال المباشر بالحقيقة العليا وهي الله. إنه العقل المستقيل[6]. فالتصوف الإسلامي، عند الجابري، في الأخير، وهو اللامعقول، هو وافد على الثقافة العربية؛ وهو عقل مستقيل تغذيه تيارات فكرية وعقائدية أجنبية تلقفتها عقول فلسفية عربية مثل الفارابي (ت 339ه)[7] وابن سينا (ت428ه)، وبنت لها إطارها النظري على قاعدة التصوف؛ من خلال الدمج بين الدين والفلسفة عند ابن سينا كاستراتيجيا فارسية قديمة. من هنا اعتبر الجابري ابن سينا مسؤولا على زرع اللاعقلانية في العقل العربي الإسلامي، فكانت فلسفته تعبيرا عن وعي قومي مهزوم ووعي أيديولوجي مقلوب، وهو إحدى تجليات الوعي القومي الفارسي المهزوم[8].
استرجاع أصالة اللامعقول ووظيفته
تعرضت قراءة الجابري للامعقول/ العقل العرفاني لنقد عنيف من كتاب كثر؛ فطيب تيزيني يعتبر المشروع برمته نوعا من الاستغراب المغربي يعيد سيرة الاستشراق الغربي[9]. ورغم التعابير المنفعلة التي عبر بها الأستاذ طيب تيزني على نقده لمشروع الجابري[10]، يبقى نقده جديا ويفتح آفاق حوار فكري حول التراث ومنهجية التعامل معه. فقد جعل مهمة كتابه كما صرّح في مقدمته هي تعميق الحوار العلمي حول ذلك كله.
ويؤطر تيزيني كتابه عن الجابري ضمن أزمة شاملة يعيشها المثقف في السبعينيات أهم عناصرها: انكسار المزاج الشعبي العام حيال المستقبل العربي، وشعور شعبي عمومي بخيبة الأمل، وبروز حالة تشكيك في التاريخ العربي، وتبلور بطيء لأجواء سوسيوثقافية وسيكولوجية لاستعادة المنظومة الأيديولوجية لـ”المركزية الأوربية”[11]. ولم يفت تيزيني أن يذكر بعض من تعرض بالنقد للجابري؛ ممَّن وصف مشروعه بأنه وجه مكرور من أوجه إشكالية قديمة، (محمد وقيدي[12])، أو هو دعوة إلى صياغة أنساق مغلقة وخطرة، تفصح عن لا تاريخية فاضحة، (السيد يسن)، أو هو نوع من التصنيف الأكاديمي على أساس من مناهج غربية (أدونيس)، أو هو نوع من الممارسة التشطيرية مع التراث، (جورج طرابيشي)، أو من اتهم الجابري بسوء التصرف في النصوص، وفساد التعريف، وفساد التصور، والسقوط في التناقض، كما قال (طه عبد الرحمن)[13]. ورغم إلحاح طيب تيزيني على أن نقاشه للجابري سيكون من الوجهة المنهجية؛ أي على “المنهج” كمشكلة منهجية، وعلى ما يتصل بذلك من مشكلات نظرية يراد لها أن تكون تطبيقاً لذلك المنهج، فسرعان ما سيذهب تيزيني يناقش الجابري في عقيدته (الأشعرية)؛ هل هي العقيدة ذاتها التي صاغتها المدرسة الأشعرية مع أبي الحسن الأشعري (توفي 324هـ)؟[14].
وفي هذا السياق يعتبر تيزيني أن تصور الجابري يعاني قصوراً في فهم العلاقة بين الأنماط والبنيات الفكرية المتنوعة، وهو ما أسقط الجابري في الفصل بين ثلاثة قطاعات في الثقافة العربية هي: البيان والبرهان والعرفان، وهذا، بنظره، نوع من الوهم الأيديولوجي والسياسي والمعرفي، ممَّا يقتضي إخضاعه لمبضع تفكيكي جدلي تاريخي صارم[15]. وهو الشيء الذي لم ينجزه تيزيني، بنظرنا، وبقي الجدل مع الجابري ذو طبيعة أيديولوجية أو فكرية على أحسن المحامل؛ جدل حول الهوية والثقافة العربية والاختراق الصهيوني وقضايا المثقف والسياسة والنهضة… وفي ما يتعلق بموضوع، اللامعقول الذي يمثله (العقل المستقيل)، في منظور الجابري، فإن الخلفية المنهجية للجابري في موضوع التأثير والتأثر يراها فوضوية، خصوصا عندما يصف الجابري الحضارة العربية بأنها حضارة فقه، والحضارة اليونانية بأنها حضارة فلسفة. ويرى تيزيني هذا نوعا من المقارنة الميتافيزيقية المؤطرة ضمن (مركزوية) أوروبية مشروطة بميتافيزيقا التماثل والتماهي بين مركز وأطراف[16]. ويبدو أن نقد الجابري لكتاب تيزيني (من التراث إلى الثورة)، وما يسميه الجابري ب(التواطؤ التاريخي)، خلق نفساً سلبيا في الحوار بين المفكرين، فتحول من جانب تيزيني، إلى ردود سجالية وانفعالية[17]، زاد من حدتها اعتماد الجابري ثنائية المشرق/ المغرب في التأريخ للثقافة العربية، وهو ما اعتبره تيزيني مقياساً قطعيا دوغمائيا وميتا واقعيا وكذلك جيوبوليتيكي عرقي![18] بل هو تعبير عن وعي شقي وأيديولوجيا ثنائيات ميكانيكية![19] واعترض تيزيني على هجوم الجابري على إخوان الصفا، وعلى ابن سينا، وعلى ربطهم بالغنوصية الهرمسية الظلامية.
في هذا السياق يعتبر تيزيني أن تصور الجابري يعاني قصوراً في فهم العلاقة بين الأنماط والبنيات الفكرية المتنوعة، وهو ما أسقط الجابري في الفصل بين ثلاثة قطاعات في الثقافة العربية هي: البيان والبرهان والعرفان،
واعتبر رأي الجابري يقوم على الانتقاء الذاتي والقصور المعرفي والتاريخي بنصوص إخوان الصفا وفلسفتهم[20]. وقد قدّم جورج طرابيشي في مشروعه نقد نقد العقل العربي، دراسة تحليلية مستفيضة حول إخوان الصفا اعتراضا على تحليلات الجابري وتصنيفاته[21]؛ ويرى طرابيشي هذه التصنيفات مجموعة من الألغام، تحتاج إلى تفكيك؛ وإلا فهي حكم بالإعدام في حق قطاع كبير من الفكر العربي، أي التصوف، وفلسفة ابن سينا، وهي فضيحة معرفية[22]، تستوجب الإشهار! وقد تتبع جورج طرابيشي منهجاً تجزيئيا في نقد الجابري يعتمد إعادة قراءة تاريخ الفلسفة العربية، والتدقيق في النصوص، وفي الأسماء، وفي التواريخ، وفي توثيق المعلومات. وكان كثير الاتهام للجابري من حيث أمانته العلمية، أو من حيث حقيقة اطلاعه على نصوص بعينها، أو من حيث وفاؤه للثقافة العربية، إلى درجة وصفه ب”المستشرق الداخلي”[23]، وأنه يعيد تأسيس مركزية سالبة تجاه الذات، مع اتهام بالحشو، وبأغلاط معرفية وتاريخية، مع تهجم سافر في بعض الأحيان على شخصه[24].
ووصف طرابيشي نزعة الجابري في قراءة التصوف الإسلامي ب “الإبستمولوجيا الجغرافية”، وقدّم تحليلاً وافيا لمقتضياتها من حيث العلاقة بين العقلانية اليونانية والإلهيات الشرقية، ونقد مراجع الجابري، وكذا فهمه لشخصية أفلوطين وفلسفته وتاريخه، وعلاقة أفلوطين بابن سينا[25]، وحاور الجابري في مفهوم العقل المستقيل، واعتبره مقالاً وليس مستقيلاً، مع نقد الجابري لتجاهله الدور المسيحي في تاريخ الفلسفة العربية[26].
كما انتقد طرابيشي الجابري في اعتباره اللامعقول رافدا خارجيا، لأنه بذلك يعطي الجابري براءة ذمة للعقل العربي الإسلامي؛ فتآكله لم يتم من الداخل ومن جراء تطور عضوي سالب، بل من الخارج، ومن جراء غزو اجتياحي من قبل اللامعقول المشرقي المصدر، فبدلاً من أن تكون وظيفة هذا المشروع نقدية فعلاً تصير محض وظيفة تطهيرية؛ وليس المطلوب من العقل العربي الإسلامي أن يراجع مقدماته وأن يخضع نفسه لنقد ذاتي، بل المطلوب منه أن يغتسل من جنابة اللامعقول المشرقي المصدر[27]؛ أي من التصوف، والتوجه إلى المغرب في إطار ما يسميه طرابيشي: “تغريب العقل وتشريق اللاَّعقل”. والحقيقة أن نقاش طرابيشي للجابري أعمق من نقاش تيزيني، أمام الكم الهائل من المصادر والوثائق والمخطوطات التي اعتكف طرابيشي على دراستها ومقارنتها بما ورد في مشروع الجابري حول التصوف أو العقل المستقيل.
ولم يستطع هذا النقد، بنظرنا، على وجاهته وعمقه في كثير من الأحيان، المساس بصلابة أطروحة الجابري والآفاق البحثية والمنهجية والنقدية التي تفتحها للباحثين في الفكر الإسلامي، وهي سياقات تمدد اللاعقل في الثقافة العربية وتآكل العقلانية العربية. قد يكون الجابري كتب مشروعه في سياق يعاني من شح المصادر والوثائق بين يديه، كما لم يستفد بما يلزم من منجزات العلوم الاجتماعية، خصوصا في الأنثربولوجيا والإثنولوجيا وسوسيولوجيا الأفكار، في التعامل مع القضايا الفكرية والتصورية مثل (الأسطورة)؛ مما ذكره علي تركي ربيعو في رده على الجابري[28]؛ إذ يرى أن الجابري احتكم إلى التجربة الأوروبية وحدها في علاقتها بالمقدس[29]، مع عدم الانتباه إلى أن الأسطورة، بذاتها، هي تعبير طبيعي وتاريخي عن تفجرات المقدس في العالم، وليست بالضرورة تعبيرا عن مغامرات العقل الأولى في آفاقه المحدودة. كما أنها ليست، بالضرورة، الأساس لنظام العرفان، أو اللامعقول المستند إلى رؤية هرمسية؛ إذ لو فهم الجابري، هذا، بنظر ربيعو، ما جعل من مهامه (الشاقة والمستحيلة) في مشروعه، إسقاط نظام العرفان، وإعادة بناء تأسيس البيان على البرهان؛ فكان المطلوب من الجابري عقل الظاهرة العرفانية، وليس نفيها أو العمل على التخلص منها. بل إن هذا المجهود الشاق الذي حمله الجابري أسقطه بنظر نقاده، تيزيني وطرابيشي وربيعو، في إضفاء هالة كبيرة على العقل الإغريقي الذي ميَّزه التفكير المجرد، وهو ما سماه طه عبد الرحمن، بـ(العقلانية المجردة) في مقابل (العقلانية المسددة) و(العقلانية المؤيدة)؛ وهي تراتبية، على كل حال، تجاوزتها الأبحاث الإثنولوجية والأنثربولوجية، وتجاوزت بذلك طموحات ماركس عندما بشر بهزيمة الميثولوجيا وآلهتها،
أو تحليلات ماكس موللر عندما اعتبر الأسطورة مجرد مرض من أمراض اللغة؛ إذ ظل الرمز والأسطورة والغيب واللامعقول والمقدس حاضرين في الاجتماع البشري على صعيد المجتمعات البشرية. كما لم تكن الأداة البنيوية أو البنيوية التكوينية، السائدة في مجال الأنثروبولوجيا البنيوية (العضوية) والمستندة على البيولوجيا والجيولوجيا والتحليل النفسي، أو الأنثرويولوجيا الاجتماعية والمستندة على الماركسية وعلى الفيزياء الاجتماعية، قادرة على الإلمام باللامعقول في مستوياته العميقة؛ وهو ما أكده كلود لفي شتراوس نفسه عند دراسته لبنية الأسطورة؛ إذ اعتبر أن هناك غموضاً كبيراً في نظريات دراستها[30]، مما أفقد مشروع الجابري بعض فعاليته التحليلية والتفسيرية.
كل هذا يبين أن كثيرا من الظواهر الفكرية، مثل: اللامعقول، والعرفان، والأسطورة، والرمز… ما زالت في حاجة إلى أبحاث إضافية وحديثة، مع الاستفادة من غناء العلوم الاجتماعية المعاصرة. فما قدمه الجابري، بنظرنا، يعتبر مجهوداً كبيراً ومدخلاً منهجيا وابستمولوجيا للأبحاث الجادة حول اللامعقول في الثقافة الإسلامية، برغم الملاحظات المسجلة على مخرجات تحليله والمفاهيم التفسيرية التي استند عليها، مع تسجيل غير قليل من المغامرة البحثية، وعدم الحذر في الكثير من الأحكام والخلاصات، ولكن ذلك لا يسوغ اتهام الجابري بتكريس المركزية الغربية، أو السير في سرب الأبحاث الاستشراقية المتحيِّزة. مع أن الجابري نفسه تعرض بالنقد للتحيز الاستشراقي[31] في تهميش طريق الفلسفة عبر الشرق؛ أي الاسكندرية ومدارس فلسطين وأنطاكية، وتجاهله المدارس الشرقية في العراق وفارس وخراسان[32]، وانتقد المستشرقين في أكثر من مناسبة؛ إذ انتقد أحد مصادره المهمة في مشروعه وهو فيستوجيير[33]، وانتقد المنهج الفيولوجي الاستشراقي[34]. برغم نقده هذا الصريح للأبحاث الاستشراقية يصر تيزيني وطرابيشي وربيعو على اتهام الجابري بالمركزية الأوربية، والتماهي مع أطروحات رينان في:(الإسلام في التاريخ)، أو مع برنارد لويس في: (العرق واللون في الإسلام)، أو مقولات إيسنوبي حول (تأثير اللغة العربية على التركيب النفسي للعرب)، وهي أحكام قاسية وغير دقيقة وذات طبيعة اختزالية لمشروع علمي واسع، مازال يلهم الباحثين في الثقافة العربية وفي المعرفة الإسلامية.
#####
هوامش :
[1]– ورد في الآية القرآنية: “لو كان فيهما آلهة إلاّ اللّه لفسدتا”، الأنبياء، 22.
[2]– محمد عابد الجابري، تكوين العقل الغربي، المركز الثقافي العربي، الطبعة الرابعة، بيروت1991، ص: 140. ويحرص الجابري على التأكيد باستمرار بأنه لا يتعامل مع (اللامعقول)، من خلال دلالة قيمية، ولا يصدر عن نظرة رومانسية إلى نوع ما من المعقول، كما لا يعطي لتصنيف (معقول) و(لامعقول) إلاَّ قيمة منهجية، كما لا ينطلق من تصور مثالي للمعقول واللامعقول. كما يُقر أن فهمهما لا يمكن أن يتم إلا داخل مجالهما التداولي؛ أي نوع الفكر ومستوى الثقافة السائدين. ورغم هذا التوضيح المنهجي فإن رؤية الجابري لعلاقة الموروث القديم بالتصوف الإسلامي، على الخصوص، ستثير نقاشا فكريا صاخبا بين الباحثين في مصادر المعرفة الإسلامية.
[3] – خصص الجابري القسم الثاني من كتابه: بنية العقل العربي، دراسة تحليلية نقدية لنظم المعرفة في الثقافة العربية، منشورات المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى، بيروت، 1986. درس في هذا القسم العرفان؛ من حيث التعريف، ومن حيث القضايا المعرفية والمنهجية المرتبطة به؛ من نحو: الحقيقة والتأويل، والظاهر والباطن والقياس العرفاني، والعرفان الشيعي والزمن الدائري، والنبوة والولاية، والعرفان الصوفي والزمن المنكسر. وأخذ تحرير الجابري للنظام العرفاني مساحة كبيرة من الكتاب.
[4] – أورد الجابري مقطعا طويلا من (رؤيا هرمس)، وهي تلخص حوار هرمس مع بوامندريس، حول معرفة الموجودات وطبيعتها ومعرفة الله. هذه المعارف التي حصلت لهرمس فجأة؛ إذ أنه ما أن أنهى كلامه وغير مظهره حتى انكشف كل شيء أمامه في لمح البصر.( نقل الجابري رؤيا هرمس عن كامل مصطفى الشيبي، في كتابه: الصلة بين التصوف والتشيع، نقلا عن: (تذكرة الأولياء). وقد تصدى جورج طرابيشي لتأريخ الجابري للفكري الهرمسي، ولفكرة توطينه داخل النظام العرفاني للفكر الإسلامي، أو العقل المستقيل بمصطلح الجابري. وناقشة في مجلد كامل من رباعيته: مقد نقد العقل العربي، بعنوان: العقل المستقيل في الإسلام، منشورات دار الساقي، الطيعة الأولى، بيروت 2004.( 424 صفحة).
[5]– محمد عابد الجابري، تكوين العقل العربي، ص: 159.
[6]– محمد عابد الجابري، تكوين العقل العربي، ص: 159.
[7] – هناك تفسير آخر لنظرية الفارابي وطبيعة العلم الإلهي، بما يخالف تقييم الجابري لأطروحة الفارابي. ينظر: يحي محمد، الفلسفة والعرفان والإشكالات الدينية، دراسة معرفية تعنى بتحليل نظام الفلسفة والعرفان وفهمه للإشكالات الدينية، منشورات الانتشار العربي، الطبعة الأولى، بيروت، 2008، ص63-84. كما تنبغي الإشارة إلى الاختلاف الفكري والفلسفي والمنهجي الذي أثير بين الجابري وبين محمد عزيز الحبابي، في تقييم التجربة الفلسفية والفكرية لأبي نصر الفارابي، وهو ماورد في كتابيهما: محمد عابد الجابري، نحن والتراث، قراءات معاصرة في تراثنا الفلسفي، ومحمد عزيز الحبابي، ورقات عن فلسفات إسلامية، منشورات دار توبقال، الدار البيضاء1988؛ فالفارابي فيلسوف ملتزم، بنظر الحبابي، ومؤسس للنزعة الإنسية في الفكر الإسلامي القديم، ولو من منظور مثالي، خصوصا عند تعليقه على أعمال أرسطو، واقتراحه ما سماه ب: ( الولاية المثالية). كما يمكن الرجوع إلى أهم مؤلفات الفارابي في هذه النقطة، وهي: كتاب الجوهر، والجمع بين رأي الحكيمين، والواحد والوحدة.
[8]– محمد عابد الجابري، نحن والتراث، قراءة معاصرة في تراثنا الفلسفي، دار الطليعة، ص: 131.
[9]– طيب تيزيني، “من الاستشراق الغربي إلى الاستغراب المغربي”، بحث في القراءة الجابرية للفكر العربي وآفاقها التاريخية، منشورات دار الذاكرة ودار المجد، الطبعة الأولى، دمشق، 1996.
[10]– من أمثلة ذلك: يكتب الجابري في (كتيبه)؛ يقصد كتاب (المسألة الثقافية)، ص: 30، وقوله: “التناقض والاضطراب في كتاباته وص: 30، بقوله: (الشق الآخر من المسألة يتحول إلى (أحجية) في حال البحث فيه وضبطه منطقيا…” ص: 30-31، وقوله: “الوهم الأيديولوجي الساذج لدى الجابري..”ص: 36، وقوله: “تهافت الفكر المثالي التجريدي لدى الجابري”، ص: 37، وقوله: “إن ما يتصوره الجابري على هذا الصعيد، يمثل مفارقة سوسيوثقافية ومنطقية فاقعة، موزعة بين إيديولوجي يخفق في البحث عن انتماء اجتماعي له…” ص: 31، وتكررت عبارات من هذا القبيل في الصفحات: 44-45-46، إلى درجة وصف مشروع الجابري بأنه عبارة عن” خليط مضطرب متنافر تخترقه نزعة ذاتية نرجسية”، ص: 70، والاتهام بتزوير الحقائق التاريخية: ص 96، 119، 155، 162، 172، 176، 185، وغيرها كثير جدا.
[11]– طيب تيزيني، مرجع سابق، ص: 15.
[12] – ينظر: محمد وقيدي، حوار فلسفي، قراءة نقدية في الفلسفة العربية المعاصرة، منشورات دار توبقال، الطبعة الأولى، الدارالبيضاء 1985. الفصل الرابع: جدلية المعرفي والأيديولوجي في فهم التراث الفلسفي، ” نحن والتراث” لمحمد عابد الجابري، ص 103-137. مع الإشارة إلى أن الأستاذ محمد وقيدي أشاد كثيرا بمشروع الجابري واعتبره إضافة ثرية إلى الدراسات العلمية للتراث الفلسفي.
[13]– نشير إلى أن طه عبد الرحمن تعرض للجابري في كتابين هما: “في أصول الحوار وتجديد علم الكلام”، الدار البيضاء، 1987، و”تجديد المنهج في تقويم التراث”، الدار البيضاء، 1994، ويمكن الرجوع إلى دراستنا بعنوان: “طه عبد الرحمن قارئا لمحمد عبد الجابري”، مجلة الأزمنة الحديثة، عدد مزدوج 3-4، غشت 2011، ص: 70-84.
[14]– طيب تيزيني، مرجع سابق، ص: 33.
[15]– طيب تيزيني، مرجع سابق، ص: 49.
[16]– طيب تيزيني، مرجع سابق، ص: 113.
[17]– طيب تيزيني، مرجع سابق، ص: 162.
[18]– طيب تيزيني، مرجع سابق، ص: 175.
[19]– طيب تيزيني، مرجع سابق، ص: 208.
[20]– طيب تيزيني، مرجع سابق، ص: 220.
[21]– جورج طرابيشي، “نقد نقد العقل العربي، العقل المستقيل في الإسلام”، دار الساقي، الطبعة الأولى، بيروت 2004، فصل يوطوبيا إخوان الصفا، ص: 269-385.
[22]– جورج طرابيشي، مرجع سابق، ص: 15.
[23]– جورج طرابيشي، مرجع سابق، ص: 32.
[24]– مثل قوله: “ولو أن الجابري رجع إلى ابن النديم في معرفة أخبار تلك الفرقة لما كان تلعثم كل تلك اللعثمة في ترجمة اسمها”، ص: 36.
[25]– جورج طرابيشي، مرجع سابق، ص: 46-73.
[26]– جورج طرابيشي، مرجع سابق، ص: 76-90.
[27]– طيب تيزيني، مرجع سابق، ص: 96.
[28]– تركي علي ربيعو، “المتصوف يهزم الفيلسوف”، مجلة الناقد، العدد 60، يونيو 1993.
[29]– يرى تركي علي ربيعو أن الجابري استند إلى وجهة نظر كانت سائدة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، فيما يخص الدين والأساطير، من تأثيرات فلسفة الأنوار و(التطورية الثقافية)، مما لم يعد قادراً على الحفر في اللامعقول وتجلياته، مما أسقط الجابري في قراءة مؤدلجة ومسيسة.
[30]– كلود لفي شتراوس، “بنية الأسطورة”، نقل النص عن الفرنسية مصطفى كمال، بيت الحكمة، عدد 4، سنة 1، الدار البيضاء، كانون الثاني، 1987، ص: 63-93 (عن تركي علي ربيعو، “المتصوف يهزم الفيلسوف”، مرجع سابق).
[31] – يحدد الجابري موقفه من الاستشراق من خلال مدخلين: الأول: إذا كان الاستشراق هو (طلب الشرق)؛ فمن المستشرقين من كان يطلب الشرق خدمة للمخططات الاستعمارية في القرن التاسع عشر وفي القرن العشرين. ومنهم من كان يطلب الشرق لأن ثقافته رسخت عنده تمثلا للشرق، أو لكل ما هو خارج أوروبا، أي أنه (بلد الغرائب والعجائب)؛ فكما كان الغرب يطلب موارد الشرق كان يطلب أيضا ثقافته وأعرافه وديانته وأنماط وعيه. الثاني: هناك من كان يطلب الشرق لروحانيته، بعد أن فقدت أوروبا أو كادت، روحانيتها. وآخرون، من هذا النوع من المستشرقين، طلب الشرق من أجل معرفة أنفسهم؛ إذ كانت معرفة (الآخر- الشرق) من أجل تعميق المعرفة ب (الأنا- الغرب). ثم إن الغرب، بنظر الجابري، لم يعد في حاجة إلى مستشرقين منه ينقلون له أخبار الشرق، فهن اك من أبناء الشرق، من يقوم ب (المهمة) من الداخل، عبر خدمات مدفوعة الثمن، من خلال (مراكز بحث)، أو (أبحاث ممولة). ينظر: محمد عابد الجابري، المسألة الثقافية في الوطن العربي، منشورات مركز دراسات الوحدة العربية، الطيعة الثالثة، بيروت، 2006، ص 270-271.
[32]– محمد عابد الجابري، “تكوين العقل العربي”، الفصل الثامن، ص: 162.
[33]– محمد عابد الجابري، “تكوين العقل العربي”، ص: 166.
[34]– محمد عابد الجابري، “تكوين العقل العربي”، ص: 178. و”نحن والتراث، قراءة معاصرة في تراثنا الفلسفي، مقدمة الدراسة عن الفارابي وفلسفته الدينية والسياسية.
التعليقات مغلقة.