بين قوسين: اني انتصر لكل من ينتصر للثقافة، شكرا جماعة أكادير، شكرا مصلحة الشؤون الثقافية، شكرا عزيز أخنوش، على الصيف الثقافي السينمائي الذي مكننا من مشاهدة روائع السينما المغربية لأول مرة عبر الشاشة الكبيرة
.
عندما تشاهد التلفزيون تنظر للأسفل، وعندما تشاهد السينما فإنك تنظر للأعلى . جان كودار
تستطيع السينما أن تلج دواخلنا وتترك أثرها في مشاعرنا وعواطفنا، أن تجعلنا نتعاطف مع شخص قد لا يستحق التعاطف، أو نكره أخر ظلما.. لكن ليست هذه هي قوة السينما، في رأيي لا تكمن قوة الفن السابع في مثل هذه الاستنتاجات السريعة والسطحية، بل أجد قوتها مستمدة من الطرح السبينوزي الشهير لا مدعاة للضحك، لا مدعاة للبكاء، يجب أن نفهم، وهذا الأخير يعني أن نفتح أفاقا أوسع، نتجاوز من خلاله السطحي والمعطى في الفيلم والحوارات والمَشاهد إلى ما لم يُقال، ما هو مختبئ بين طيات الحوارات والمَشاهد، أن تسبح بالخيال قليلا، فلكي تفهم الإبداع، عليك أن تبدع في الفهم، وهذا ما يقصده غودار بأن السينما تجعلك تنظر للأعلى.
لنبيل عيوش قدرة كبيرة في أن يكون صوت الهامش، يتربص بصغرى الأمور التي تدوب وتتماهى مع اليومي المتداول، يستطيع بعين سوسيولوجية وسينمائية ثاقبة أن يقتنص الوجه والتعبير والكلمة والإطار الذي من شأنه أن يبوح بالمخفي قبل الظاهر، من علي زاوا إلى يا خيل الله، نجد نبيل عيوش يحافظ على يقظته ويُسائل بطريقة نقدية ظواهر تبدوا طبيعية، وأعراض جانبية لا بد من شَرِّها في ظل نظام اجتماعي طبقي، فمن العادي أن نجد الأغنياء، كما من الطبيعي أن نجد الفقراء، كما أن الفرق بين هذين الحدين ليس مادي أساسا بل جزء كبير منها هو ثقافي ورمزي، وهذا هو الدرس البورديوي (نسبة الى بيير بورديو) في أحد أروع تجلياته السينمائية مطبق في سينما نبيل عيوش .
بالنسبة لي ينبني الفيلم على 3 أسئلة كبرى، نستطيع البحث عن تأويلات ممكنة للإجابة عنها، أما الجواب الصحيح الوحيد فهو لا يوجد سوى في رأس نبيل عيوش نفسه، أو ربما حتى هو لا يملك هذا الجواب، لأن الصناعة السينمائية من آلفها الى يائها إبداع، وجزء كبير من الابداع يبقى عصيا على الفهم والإمساك، ولذلك سمي إبداعا، ولذلك ليس كل من هب ودب يبدع حقا، وأنا أعترف بقوة المخرج نبيل عيوش الإبداعية.
السؤال الأول هو، هل يتحمل أولئك الشباب “المجاهدين” مسؤولية أفعالهم؟ أو، لنكرر السؤال الماركسي الكلاسيكي، من يحدد الأخر، هل وعي الأفراد هو ما يحدد وجودهم الإجتماعي؟ أم العكس، وجودهم الاجتماعي هو ما يحدد وعيهم؟ بعبارة أخرى مامدى صدق ما يسمى بالحتمية الإجتماعية؟
من خلال تصويره لعملية تكوُّن ونشوء الارهابي/المجاهد، نلاحظ أن نبيل عيوش عاد بالزمن السينمائي إلى طفولة كل من طارق وحميد ونبيل، عاش معهم حوادث التنقيب في مطرح الأزبال، الصراع مع الأحياء، البحث عن اثبات الذات في محيط الاعتراف فيه يُنتزع بالإجرام والانحراف، الإغتصاب التي تعرض له نبيل، طامو الشيخة/العاهرة، الشرطة التي تمارس شططها وظلمها على سكان الكاريان، الپيتبول الآمر الناهي في الكاريان، فرسان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الحݣرة، إنعدام أقل شروط العيش الكريم، حب طارق الموؤود لغزلان…
يبدوا لي أن نبيل عيوش يعمل بالطرح السبينوزي المذكور سلفا، كأنه يتهكم من كل الذين اطلقوا الاحكام على الشباب الإرهابيين، كأنه يقول لهم: ما الذي تنتظرونه أن يخرج من كاريان سيدي مومن؟ علماء ونوابغ! لا تزرع البطاطا وتنتظر أن تحصد فاكهة التفاح، ان الإنسان في جزء كبير منه محكوم بمحيطه وبتربيته وبظروفه المعيشية، قد تحدث استثناءات، لكنها لا تفتأ إلا أن تؤكد القاعدة، يجب أن نكون موضوعيين، وأن نعترف بأن الوجود الاجتماعي يحدد وضعية الأفراد ووعيهم، ثم أن تحميل أولئك مسؤولية الفعل الإرهابي، يشبه سياسة الهروب للأمام، لا يواجه المعضلة في عمقها، بل ويزيد الطين بلة، ان مسؤولية الحدث(16ماي) مسؤولية جماعية، وان كان هناك من ضحايا فهم الشباب الذين باعوا انفسهم وشبابهم وطاقتهم من اجل حلم لطالما راودهم، أن يعيشوا بكرامة، ما استغله اخرون لتجييشهم وقتلهم بمساعدة الشباب انفسهم.
السؤال الثاني في نظري هو: كيف انتقل طارق من رفض الاسلاموية الى أن يكون مستعدا للموت من أجل الدين؟
تمكن نبيل عيوش من اختزال طرح انثربولوجي مهم في انثربولوجيا الأديان، وهو فكرة الخوف، عموما التدين مرتبط بانفعال الخوف، الخوف من الموت، من المجهول، من الخطر المتربص بالإنسان منذ القدم عندما كان كائن يعيش بالغابة ويخاف من هجوم الضواري او قسوة المناخ الى اليوم الذي يعيش فيه العالم ما يسميه اولريش بيك بمجتمع المخاطرة حيث اللا أمان اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا …
تمكن الإخوة من استدراج طارق في لحظة ضعف تمثلت في قتله باموسى السيكليس، الخوف من أن يُكشف أمره ويواجه عواقب فعله الجرمي، ما جعله لقمة سائغة في يد الإرهابيين، فكان علكة يلوكها الأمير ابو الزبير كيفما شاء، ومن خلاله أصدقائه نبيل وفؤاد، ان الأمر يجعلني أتساءل، لو لم يفعل باموسى تحرشه بنبيل تلك الليلة وبالتالي لم يقتل طارق باموسى، هل كان ليمشي في ذلك الطريق؟ علما بأنه يعاتب اخاه بطريقة غير مباشرة على اختياره الالتحاق والعيش مع الإخوة، أعتقد العكس، فإن مدخل الاخوة الى طارق كان هو الجريمة، او بالأحرى الخوف من عواقب الجريمة، وما إن سقط في الفخ فلم يعد له من مهرب أو مخرج، الا الاستشهاد كما يسميه الشيخ ابو الزبير.
وهذا الأمر يجيب أيضا على السؤال الجوهري الثالث للفيلم في رأيي، وهو: لماذا وقع الاختيار على طارق كقائد العملية على حساب أخيه حميد الذي سبقه الى الانضمام للتنظيم والذي كان صلة وصل بينه وبين التنظيم أول الأمر، طارق يحمل بين كتفيه هم كبير، فهو يشعر بأن لولا الإخوة لكان في مكان أخر وليس حر طليق، في التنظيم الارهابي وجد طارق الملاذ، الإهتمام، أصبح أخيرا رجلا يملأ عين أمه وتفتخر به، يستنبط تميزه وينتزع الإعتراف بتقواه واستعداده للشهادة من أجل مناصرة دين الله الذي تتكالب عليه قوى الغرب والصهاينة لإقباره !
أعترف أن فيلم يا خيل الله من الأفلام التي لا يصيبها فيروس التقادم، هي دائما جديدة، دائما تكتشف فيها تفصيل أو إثنين يجعلك تنتبه كأنك تشاهد الفيلم للمرة الأولى، كما أن مواضيعه المتشابكة لا زالت راهنية، واقع التمايز الطبقي، الفقر، الفساد، التطرف الديني، الانحراف، صدر الفيلم سنة، ويحكي عن أحداث تعود الى 2003 وما قبلها، لكن السؤال الاجتماعي لا زال مطروحا: من يتحمل المسؤولية؟ أين يكمن الخلل حقيقة؟ هل هو فردي مرتبط بالأفراد وهم يمارسون”حريتهم” في أن يختاروا طريقهم، أم ان الإشكال بنيوي مسؤوليته ملقاة على الجميع، أو -لنكن أكثر دقة- مرتبط بالنظام العام الاجتماعي والاقتصادي والسياسي !
كما أنني اعترف أنني ولو كتبت ما كتبت فإنني لست أقدم للفيلم قيمته، فالصورة بألف كلمة، وأنصح كل من توفرت له الفرصة ان لا يضيع ما يقارب ساعتين من فيلم مغربي بمواصفات عالمية تقنيا وفكريا .
اكتشاف المزيد من azulpress.ma
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
التعليقات مغلقة.