جاء الجدل الواسع الذي أحاط بالفيلم الأمريكي نوح في مصر ليثير التساؤل مجددا حول مدى قدرة الأعمال الفنية على اختراق محظورات دينية مترسخة في المجتمعات العربية والإسلامية.
شغلت أزمة فيلم نوح اهتمام الساحة السياسة والفنية مؤخرا حتى قبل عرضه، لتذكر بما حدث في أعمال سينمائية سابقة طالها مقص الرقيب أو منعت لأسباب دينية، وكان تجسيد الأنبياء القاسم المشترك بينها جميعا.
“الطوفان” و”نهاية العالم” و”إنقاذ البشرية” و”سفينة نوح” محاور أساسية جاءت في خلفية الموقف المعارض للفيلم والتأكيد على تحريم تجسيد الأنبياء وضرورة منعه، بينما كان “التطور التكنولوجي” و”الانفتاح العالمي” و”حرية التعبير والإبداع” سلاح المؤيدين في دفاعهم عن عرضه.
تقييد للرسالة السماوية”
طالب الأزهر في مصر، المؤسسة الأبرز التي تمثل المرجعية الرسمية في القضايا الدينية، بمنع عرض الفيلم باعتبار أن تجسيد الأنبياء يخالف الشريعة الإسلامية.
يتركز اعتراض الأزهر في أن الفيلم يمس الجانب العقائدي للمسلمين لأن الأنبياء لا يجوز تصويرهم .
وقال محمد مهنا مستشار شيخ الأزهر لبي بي سي إن تجسيد الأنبياء في مثل هذه الأعمال “فيه تقييد للرسالة والوحي، الذي هو غير مقيد”.
ولم يستبعد مستشار الأزهر رفع دعوى قضائية لوقف الفيلم حال عرضه، مؤكدا في الوقت نفسه أن دور الأزهر هو التذكير وبيان الحكم الشرعي .
نظرة قاصرة”
كانت حرية الرأي والتعبير هي المنطلق الرئيسي الذي استند إليه المدافعون عن الفيلم، وأن هناك وسائل تكنولوجية أخرى أصبحت متاحة تجعل منع الفيلم مسألة غير مجدية.
وقالت الناقدة السينمائية ماجدة خير الله لبي بي سي إن الموقف الذي يتبناه الأزهر ينطوي على “تقييد شديد للحرية ، وهذه وجهة نظر قاصرة وسطحية، فهم لم يشاهدوا الفيلم، وليس لهم علاقة بالسينما”.
ورأت أنه “حتى لو تم وقف عرض الفيلم، فإنه سيكون متاحا على الانترنت والملايين سيشاهدونه”.
وتساءلت ” لماذا يتصورون أن الغرب يسيء إلى نوح من خلال هذا الفيلم أو غيره؟ “هم يعتقدون أنهم أوصياء على الأنبياء، والغرب له في الانبياء مثلهم”.
“الطوفان”
يسلط الفيلم، الذي بلغت تكلفته 125 مليون دولار، الضوء على حادثة “الطوفان” وإنقاذ البشرية من الفناء.
يؤدي دور البطولة في الفيلم النجم العالمي راسل كرو إلى جانب نجوم آخرين من بينهم إيما واتسون وجينيفر كونولي ولوغان ليرمان وآنتوني هوبكينز، وهو من إخراج دارين أرونوفسكى.
وبذل المخرج وفريق العمل جهودا كبيرة لتوفير جميع أنواع الحيوانات، التي اضطر النبي نوح لحملها على متن سفينته للحفاظ على أنواعها من الفناء، بحسب الرواية الدينية المعروفة.
وتم تصوير “نوح” في أيسلندا ونيويورك، واستخدم أرونوفسكي أحدث برامج المونتاج والغرافيك لإظهار الطوفان كما تخيلته عقول البشرية عبر آلاف السنين.
حظر الفيلم
مشاكل عرض الفيلم لم تتوقف عند مصر وحدها، فقد حظرت قطر والبحرين والإمارات العربية المتحدة الفيلم لأسباب دينية حتى قبل عرضه الأول في أنحاء العالم.
وقال جمعة الليم مدير إدارة المحتوي الإعلامي في المجلس الوطني للإعلام في الإمارات “هناك مشاهد تتناقض مع الإسلام والإنجيل، ولذا قررنا عدم عرضه”.
وأقرت شركة “باراماونت بيكتشرز” المنتجة للفيلم مؤخرا أن الفيلم يتمتع “برخصة فنية”.
وأكد الليم أنه “من المهم احترام هذه الأديان وعدم عرض الفيلم”، حسبما نقلت عنه وكالة اسوشيتد برس.
في تونس، قال فيصل روخ المتحدث باسم وزارة الثقافة إن الوزارة لم تتلق أي طلبات من شركات التوزيع السينمائي المحلية لعرض الفيلم.
لكنه أشار إلى أن الوزارة عادة لا تعرض الأفلام التي تجسد الأنبياء.
من جهة أخرى، أقرت إحدى دور السينما في الضفة الغربية عرض الفيلم.
وقال قدس المناصرة مدير سينما “كلاك” في الضفة الغربية إن “حقيقة أن بعض الدول في المنطقة تحظر الفيلم يزيد من متعة مشاهدته”.
وأضاف “إنه إنتاج ضخم، والقصة رائعة”.
واستبعدت دول إسلامية أخرى إمكانية الموافقة على عرض الفيلم.
وقال محمد ظريف عضو الهيئة المركزية للرقابة على الأفلام في باكستان إنهم يتجنبون الأفلام التي تحمل أفكارا دينية.
وأضاف “لم نر الفيلم بعد، لكن لا أعتقد أنه سيجد طريقه إلى دور السينما في باكستان”.
توقيت العرض
يعرض الفيلم في دور السينما المصرية قبل يومين من عرضه بالولايات المتحدة.
وأعلنت الشركة المنتجة للفيلم أن “نوح” سيعرض في مصر 26 مارس/آذار الجاري، بينما سيعرض في دور العرض الأمريكية يوم 28 مارس/آذار، بالإضافة إلى كل من كندا وكولومبيا والهند والمكسيك.
من جانبه، أكد مدير غرفة صناعة السينما سيد فتحي أن مصير الفيلم لا يزال معلقا، ولم يحسم بعد.
وتساءل في تصريح لبي بي سي “كيف سيعرض الفيلم في ظل اعتراض الأزهر؟ لم تصرح الوزارة (وزارة الثقافة) بعرض الفيلم”.
وردا على سؤال حول مغزى توقيت عرض الفيلم في مصر حتى قبل عرضه في دور السينما الأمريكية، قال فتحي “ليس عندي معلومة، ولا يوجد لدي تفسير معين لذلك”.
“أزمة مبالغ فيها”
واعتبرت هيئة الرقابة على المصنفات الفنية، الجهة الحكومية المسؤولة عن إقرار محتوى الأعمال الفنية والسينمائية، أن الأزمة التي أثيرت حول الفيلم”مبالغ فيها”.
وقال عبد الستار فتحي، مسؤول الأفلام الأجنبية في الهيئة، إن أزمة الأزهر مع فيلم “نوح” والمطالبة بمنعه “أخذت أكبر من حجمها”.، وإنه يؤيد عرض الفيلم.
وأوضح أن الفيلم بعيد تماما عن شخصية النبي نوح، ويمثل “رؤية لعهد قديم ولم يستوح أحداثاً أو قصصاً من القرآن أو التوراة”.
وكان الدكتور أحمد عواض رئيس الرقابة على المصنفات الفنية صرح في وقت سابق أن شركة التوزيع تقدمت فقط قبل أيام قليلة بطلب لعرض الفيلم في مصر.
جدل في وسائل الإعلام الاجتماعي
امتد الجدل حول الفيلم إلى منصات التواصل الاجتماعي ولاسيما بعد رفض الأزهر عرضه.
واستغرب أحد المستخدمين على موقع تويتر ويدعى إبراهيم الجارحي موقف الأزهر من الفيلم.
وقال إن الأزهر “يحاول أن يمنع عرض فيلم يحكي قصة نبي من أنبياء الله، ولكنه لم يحاول أن يمنع عرض فيلم واحد من الأفلام التجارية الهابطة”.
أما محمد شعير فتساءل على تويتر إذا كان من حق الأزهر منع عرض الفيلم.
لكن مستخدما آخر على موقع فيسبوك يحمل اسم “مصري” كان له موقف آخر معارض للفيلم.
وقال “اليوم تجسيد لسيدنا نوح في فيلم أمريكي، وغدا قد يجسدون سيدنا محمد ومش هتقدر تفتح بقك ساعتها، اعترض على تجسيد الأنبياء”.
وتساءل مينا فايق على حسابه في تويتر عن السبب الذي يجعل الأزهر يصر على عدم عرض الفيلم.
وقال “على الرغم من أن عام 2004 شهد عرض فيلم “آلام المسيح”، كما عرض التليفزيون المصري مسلسل الفاروق الذي يجسد شخصية الصحابي عمر بن الخطاب”.
يذكر أن الضجة التي أثيرت حول الفيلم ليست الأولى من نوعها حيث عصفت بالساحة الفنية والسياسية في مصر أزمة مشابهة حينما عُرض فيلم “المهاجر” للمخرج الراحل يوسف شاهين لتناوله قصة مأخوذة عن حياة النبي “يوسف” من إنتاج عام 1997.
وأثيرت اعتراضات مماثلة ضد أعمال سينمائية أجنبية أبرزها فيلم “آلام المسيح” لميل غيبسون إنتاج عام 2004 و”الوصايا العشر” إنتاج عام1923 الذي يجسد قصة النبي “موسى” للمخرج سيسيل بي ديميل، والذي أعيد إنتاجه عام 1956 وأخرجه ديميل أيضا.
عن شبكة بي بي سي
اكتشاف المزيد من azulpress.ma
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
التعليقات مغلقة.