فهل أفلست مقاربة الأخلاق أم تعرت العورات؟

كغيري من المواطنين الذين اكتوت جيوبهم بغلاء الأسعار، شدتني حملة أطلقها “نشطاء” في مواقع التواصل الاجتماعي من أجل مقاطعة سلع حُرِّرت أسعارها، لتعرف تصاعدها مهولا، ضاربة عرض الحائط قدراتنا الشرائية. لكني قررت أن أشارك بشكل استفزازي، عبر أخذ صور مع هذه المنتوجات وأنا أستهلكها، نكاية في كل من خذلني يوم خرجت أحتج ذات يوم فبرايري قبل سبع سنوات.
استيقظت باكرا وأنا أتأبط بهم شرا، لأغيظهم وأخلد ذلك عبر صور أنشرها بدوري على حائطي الفيسبوكي، واستمتع بتعذيبهم كما سخروا مني ذات يوم. أسرعت إلى ثلاجتي، التي لم أسدد بعد أقساطها، وفتحت بابها في ابتسامة ماكرة وفي يدي هاتفي ذو الماركة الصينية، ومرادي أن أنقض على علبة الحليب ذات الماركة الفرنسية. وقت عيني على علبة مسحوق الحليب الرخيص والمهرب، والذي أستعيض به لمنح بعض كميات الكالسيوم لِإِبْنَايَ الصغيرين، كتمت غيضي ثم توجهت إلى حيث البراد الأصفر، وضعت فيه حبات من الشاي الأخضر، انتظرت حتى طبخ، ورشفت منه كأسين كبيرين على غير عادتي، نكاية بعلب الحليب التي لم أجدها في ثلاجتي.

لم أيأس فالمعركة لم تنته بعد، نزلت درج منزلي وأنا كُلِّي أمل في إثبات انخراطي في هذه الحملة “الشعبية” بطريقتي. توجهت نحو مرآب المنزل لأخرج سيارتي وأذهب لمحطة البنزين، وآخذ صورة مع العامل كما فعل مدرب الأسود. ولألتقط صورة مع مضخة البنزين، لكن هيهات.. هيهات.. فبمجرد فتح باب المرآب لم أجد أمامي غير دراجتي ابني الصغير ومجموعة من الأثاث المستغنى عنه. فقد نسيت أني قد أجلت التفكير في شراء السيارة إلى ما بعد الانتهاء من أداء أقساط قرض السكن. أغلقت الباب وطأطأت رأسي، إنها إهانة لي وأنا المواطن الذي ولج الوظيفة من ثلاث وعشرين سنة، ولا يتوفر ولو على عربة بعجلتين. تمنيت لو استطعت استعارة سيارة لأكون في الموعد، وفي خضم ذلك تحسست جيبي لأتأكد من حملي لبطاقة “إخلاص” ذات الدفع المسبق، والتي تتيح لي فرص ركوب الحافلة بثمن أقل. وعلى طول الطريق الوطنية رقم 1، مررنا بمجموعة من محطات البنزين لشركات متعددة، أقطب حاجبي وألعن في قرارة نفسي كل من هم مثلي. تساءلت عن المحطة التي تزودت منها الحافلة قبل أن تبدأ يومها، لكني لم أجد جوابا.

اقتربت من الوصول إلى مقر عملي، بعد أكثر من ساعتين، وبعد استعمال حافلتين وسيارة أجر وسيارة للنقل السري. لم يتبق أمامي إلا قطع ثلاث كيلومترات ونصف وأكون أمام فرصتي الأخيرة لأغيض أصدقائي المتحاملين. قطعت هذا المسلك الجبلي الوعر بعد 45 دقيقة من العرق. بحثت عن قارورة ماء لعينة، لكن القدر يأبى إلا أن يعاكسني، فهنا لا توجد لا قارورات ماء ولا صنابير. ومن حسن حظي أن المنطقة استقبلت كمية هامة من الأمطار، أعفتني وأعفت زملائي استجداء صهريج ماء، لتعبئة مطفية المدرسة، من رئيس المجلس الجماعي.
ألقيت جسمي فوق الحصير، شمخت بنظري إلى الأعلى، حذقت بتركيز، ثم تساءلت، منذ متى وأنا مقاطع لهذه المنتوجات؟ أوبالأحرى، منذ متى وهي تقاطعني؟ ومن وراء هذه الفكرة الجهنمية لمعاقبة هؤلاء الجشعين؟ أتكون المقاطعة ذات خلفية أخرى؟
ابتسمت ابتسامة ماكرة، وتوجهت إلى محرك البحث مغيث الباحثين، لم أطل البحث وجاء الفرج.
فالنظام الجزائري واجه مقاطعة الشعب للسيارات بالدين، وأوردوا الحديث:
(عن أنس رضي الله عنه قال: غلا السعر في المدينة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال الناس: يا رسول الله غلا السعر، فسعر لنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إنّ الله هو المسعر القابض، الباسط، الرازق، وإني لأرجو أن ألقى الله وليس أحد منكم يطلبني بمظلمة في دم ولا مال”، رواه الخمسة إلا النسائي وصححه ابن حبان).

أ يكون مقاطعة السلع والاحتجاج على غلاء الأسعار حراما. إذن، فما ذهب إليه تفكيري كان خاطئا، فلا علاقة للسياسة بهذا. ربما أصبحت أفقد حاسة الاستشعار. لم يطل شرودي حتى جاءني الغيث من صديق، فقد جاء في الأثر:
جاء الناس إلى عمر بن الخطاب (ض) وقالوا: غلا اللحم فسعره لنا، فقال: أرخصوه أنتم؟
فقالوا: نحن نشتكي غلاء السع واللحم عند الجزارين ونحن أصحاب الحاجة فتقول: أرخصوه أنتم؟ وهل نملكه حتى نرخصه؟ وكيف نرخصه وهو ليس في أيدينا؟
قال: اتركوه لهم..

قد تجد الشيء ونقيضه، وقد يكون الحل كما درسونا في الرجوع لأسباب النزول. تذكرت عرضا ذات لقاء بالمركب الثقافي بالدشيرة للأستاذ عبد الله زارو، حينما شبه التراث الفقهي بجراب الحداد (أقراب ن ءومزيل)، تجد فيه كل ما تحتاج إليه الشيء ونقيضه، وهذا ما برع فيه إخواننا حيث يجدون تبريرا لكل سلوكاتهم.

وبين هذا وذاك، سرحت بنظري إلى الأمام، هذه ليست إلا البداية، فهل أفلست مقاربة الأخلاق أن تعرت عوراتهم؟ وهل تم تعوضها بالحرب الاقتصادية؟
جميل جدا أن يثور المواطن ضد من يستغله، وجميل أن يعاقب ويحاصر جشع الرأسمالية المتوحشة. لكن من غير المقبول أن يساق في قطيع بمبرر المصلحة الجماعية، مع العلم أن المسؤولين عن هذا الوضع هم من يطبلون لهذه المقاطعة.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. الموافقة قرائة المزيد