قراءة في قصة الدكتورة فاطمة الديبي : “على رصيف الغياب” :
ــ مقدمة :
تقدم قصة “على رصيف الغياب” لوحة وجدانية مكثفة، فهي لا تسرد ألم الفقد والغياب بقدر ما تغوص في أعماق التجربة الإنسانية للغياب والحضور. فمن خلال لغة شاعرية مشبعة بالاستعارات، وبناء سردي متقن يزاوج بين الوصف الخارجي والداخلي، تنجح الكاتبة في تحويل حكاية شخصية عن فراق الأب إلى تأمل فلسفي في طبيعة الحب والذاكرة. فالقصة لا تقتصر على استفزاز المشاعر، بل تبتكر عالما رمزيا غنيا – حيث تصير الغرفة ذاكرة، والرسالة جسرا، والرصيف حالة وجودية – لتطرح رسالة أخيرة عن التوازن الدقيق بين إكراهات الماضي وإمكانيات الحياة الجديدة. فهذا التحليل يتتبع خيوط هذه الأنسجة الفنية المعقدة، لكشف آليات اشتغال النص وقوة تأثيره.
ــ في أحضان القصة :
1 ــ دراسة العنوان :
العنوان “على رصيف الغياب” يعد مفتاحا أساسيا لفهم القصة، لما يحمله من دلالات نحوية ورمزية عميقة تهيئ القارئ للأجواء العاطفية والفلسفية للقصة.. فهو عبارة عن شبه جملة من الجار (على) والمجرور (رصيف) والمضاف إليه (الغياب): وهو خبر مقدم لمبتدإ نكرة غير مخصصة محذوف، والتقدير مفتوح على خيارات متعددة مثل : (ابنةٌ ـ ذكرى ـ روحٌ …) مما يعطي العنوان بعدا فلسفيا، ويجعل القصة تتجاوز تجربة البطلة لتصبح تجربة إنسانية عامة. فحرف الجر “على” يفيد الاستعلاء، إلا أن الاستعلاء ليس مكانيا بالضرورة، بمعنى أنه ليس حقيقيا لأن الرصيف هنا ليس حقيقيا، بل هو مجازي، بمعنى أن الشخصية/الابنة تقيم في حالة نفسية معينة وهي حالة الغياب.
و”رصيفٌ” جمعه : أَرصِفة ورُصُف ورُصْفان، وهو مكان مرتفع قليلا على جانبي الطريق للمشاة، ويدل على مكان الانتظار والعبور. وهذا الاختيار ليس عشوائيا، فهو يوحي بأن الشخصية ليست في قلب الحدث “الشارع”، وليست في مكان مستقر تماما كالمنزل، إنما هي في حالة انتظار وترقب.
و”الغياب” جوهر العنوان، فهو ليس اسما عاديا بل هو مصدر، مما يضفي عليه دلالة الحدث المستمر. فالغياب ليس مجرد حالة بل هو عملية قائمة بذاتها.
فالبنية الخبرية للعنوان تعطينا إحساسا بالثبات والاستمراية، بحيث أن البطلة موجودة في حالة انتظار، عالقة على هذا الرصيف، والخبر كما سبق الذكر ليس مجرد حدث عابر، بل هو حالة وجودية مستمرة تعيشها.
وحذف المبتدإ ليس عبثيا، فهو تقنية أسلوبية بالغة الأهمية، وعدم تحديده يحاكي الفراغ الهائل الذي تتحدث عنه البطلة في رسالتها، لأنه فراغ لا يمكن تعريفه بكلمة واحدة. ويجبرنا على أن نملأ هذا الفراغ بأنفسنا، مما يخلق مشاركة وجدانية مع البطلة، فنبدأ في طرح السؤال ذاته : أي جزء منها بالضبط هو المتبقي على ذلك الرصيف؟
فلو كان العنوان : “على رصيفِ الغيابِ ابنةٌ” لكانت القصة محددة بتلك الشخصية. لكن حذف المبتدإ يجعل العنوان أكثر شمولا وعمقا، ويمكن لأي قارئ عانى من الغياب والفقد أن يرى نفسه في هذه العبارة، وأن يضع مبتدأه الخاص. فعدم الاستقرار النحوي للعنوان يعطي انعكاسا لعدم الاستقرار النفسي للبطلة، فالعبارة غير مكتملة نحويا، مثل حياتها غير المكتملة بعد الغياب. وهذا التناغم بين البنية النحوية والمشاعر الداخلية للبطلة يضفي على العنوان قوة تعبيرية فائقة.
ومن الناحية الدلالية فالعنوان بليغ في تكثيفه لموضوع القصة الرئيسي، بحيث يمهد للأجواء العاطفية التي تتناولها، ويشير إلى أن القصة ليست مجرد رحيل شخص، بل عن الوقوف على حافة الحياة في عالم من الانتظار والفقد والوحدة؛ فالرصيف هو مكان الانتظار، سواء كان رصيف الطريق في انتظار اجتياز الطريق، أو رصيف القطار أو رصيف الحافلة في انتظار ركوب القطار أو الحافلة. فالشخصية تقف على رصيف الغياب في انتظار من لن يعود أبدا، وهذا يرمز إلى الشوق الأبدي والانتظار الذي لا نهاية له. كما يرمز إلى الوحدة والعزلة، فالرصيف مكان عام لكنه في الوقت نفسه مكان فردي، حيث يقف كل شخص لوحده.
والغياب هنا ليس مجرد فراغ، إنما هو كيان له رصيف خاص به، وهذا التشبيه يشخّص الغياب ويحوّله من مفهوم مجرد إلى مكان ملموس، مما يعطيه ثقلا وجوديا. فالغياب ليس مجرد غياب شخص، بل هو غياب للحياة والدفء والأمان، وهو ما تؤكده القصة.
وهذا يثبت أن الكاتبة لم تختر العنوان جزافا، بل صاغته بعناية فائقة لتحمل في طيات تركيبه النحوي كل ثقل المعنى العاطفي والنفسي الذي تنطوي عليه القصة.
2 ــ الأحداث :
تصوّر القصة لحظة وجدانية حميمة لابنة في الذكرى السنوية الرابعة لرحيل والدها، حيث تتجلى المعاناة النفسية للغياب والفقدان من خلال وصفها للغرفة التي تحمل بقايا وجوده، واسترجاعها للذكريات، وانتهاء بكتابتها رسالة إليه تبوح فيها بألم الفراق ومدى تأثيره على حياتها، وتختم بوضع الرسالة في درج مكتبه، في طقس رمزي للوداع والوفاء.
3 ــ الشخصيات :
ــ البطلة : هي الشخصية المحورية والوحيدة تقريبا، لا نعرف عنها الكثير من حيث المظهر أو المهنة، لأن النص يركز على عالمها الداخلي. وتُقدَّم كشخصية متألمة، لكنها ليست سلبية. فكتابتها للرسالة هو مقاومة للحزن وعدم استسلامها للألم الذي حولته إلى طاقة تعبيرية. ورحلتها في القصة تظهر تحولا نفسيا؛ من استسلام للغياب إلى محاولة للتواصل مع الذاكرة، ثم إيداع الرسالة كفعل أمل وبداية جديدة.
ــ الأب : غائب جسديا، إلا أنه حاضر حضورا طاغيا من خلال تأثيره، وصفاته (السند، الملاذ الآمن، المرشد)، وصورته. فهو رمز للأمان والقوة التي فقدتها الابنة، والعلاقة بينهما هي محور النص.
4 ــ الزمان والمكان :
١ ــ الزمان : هناك تداخل ما بين الزمن الحاضر والماضي؛ فالزمن الحالي هو التاسع والعشرين من غشت، حيث الذكرى الرابعة لوفاة الأب، وهو زمن ثقيل وثابت. والزمن الماضي يغزو الحاضر من خلال الذكريات والحواس (الرائحة، الصور، الصوت المتخيل)، فهذا التداخل يخلق إحساسا بالحنين والألم الذي لا ينقطع.
٢ ــ المكان : المكان مغلق ومشبع بالذكريات (الغرفة، ومنزل الأب). فهو ليس مجرد مكان فيزيائي وخلفية للأحداث، إنما هو فضاء نفسي وشخصية صامتة تعكس حالة الابنة النفسية.
5 ــ اللغة :
تستخدم الكاتبة لغة سلسلة ،بليغة، مشحونة بالعاطفة تلامس مشاعر القارئ. كما أن الاستعارة تثري النص وتضفي عليه بعدا عاطفيا، مثل : “اخترق قلبي كالسهم”، “قلبي ينزف ألما”، “يمزقني من الداخل”؛ فالكاتبة تصور الألم كعدو خارجي مفاجئ وقاتل (السهم)، وكجرح نازف لا يلتئم (النزف)، وكقوة مدمرة من الداخل (التمزيق). هذه الاستعارات تنقل الألم من مشاعر مجردة إلى ألم جسدي ملموس، مما يعمق إحساس القارئ بوطأة الفقد.
“بحر لا أعرف شاطئه”؛ فالاستعارة هنا ترمز إلى الضياع والوحشة والغرق في مشاعر الحزن دون أمل في النجاة أو الوصول إلى بر الأمان، فالبحر الواسع مقابل الضآلة الإنسانية يعكس الشعور بالعجز والوحدة في مواجهة الفقدان.
“صار الحزن رفيقي الدائم”، “ألما لا يمحوه الزمن”؛ هنا يُجسَّد الحزن ويصبح كائنا حيا يرافقها، مما يؤكد فكرة أن الفقد لم يعد حادثة ماضية بل تحول إلى حالة وجودية دائمة. كما أن نسبية “الزمن” الذي لا يقوى على محو الألم تتعارض مع فكرة أن الزمن يشفي كل جراح، مؤكدة على استثنائية هذا الفقد ودهريته.
فاستخدام الاستعارة يسمح للكاتبة بتجاوز الوصف المباشر والتعبير عن أعماق التجربة الإنسانية للفقدان بطريقة تجعل القارئ لا يفهم ألم البطلة فحسب، بل يختبره معها.
6 ــ أساليب السرد :
لقد اعتمدت الكاتبة كعهدها في سردها على تقنية الرؤية من الخلف باستخدام ضمير الغائب، مما أتاح للقصة بعدا موضوعيا، ومنح القارئ مساحة لرؤية المشهد من الخارج، ككاميرا سينمائية ترصد الغرفة والجو والأفعال الخارجية للبطلة (تجلس، تتأمل، تلمس، ترفع عينيها). ووفر للكاتبة رؤية واسعة ومهيمنة على الأحداث والبطلة، مما سمح لها بالإفصاح عن دواخل البطلة وأفكارها ومشاعرها. لتنتقل الكاتبة إلى ضمير المتكلم على لسان البطلة حين كتابتها للرسالة الموجهة للأب المتوفي في ذكرى رحيله وغيابه الرابعة. مما جعل القارئ يتماهى مع البطلة والانغماس معها في آلام فقدها وكأن ضمير المتكلم بات ضميره خاصة إذا عانى الفقد.
لقد كان أسلوب الكاتبة سردي تأملي مزج بين الوصف الداخلي والخارجي، مما خلق جوا من الحميمية والصدق وأضفى واقعية على القصة.
7 ــ الرموز :
ــ الغرفة : هي أكثر من مجرد مكان، فهي رمز للذاكرة، والماضي الذي لا يزال حاضرا.
ــ الرائحة : دلالة على الحنين، وهي تختزل الذاكرة وتستثيرها بأقوى طريقة حسية.
ــ الرسالة : هي رمز للتعبير عن الألم والتنفيس، وللتواصل المستحيل بين الحي (الابنة) والميت (الأب)، وللحب الذي لا يموت رغم الفراق.
ــ الدرج : هو رمز الأسرار والمستودع الذي يُحفظ فيه ما هو ثمين، في إشارة إلى أن ذكرى الأب ليست مجرد ذكرى عابرة، بل هي سر مقدس. وإغلاق الدرج هو إيذان بانتهاء الطقس وإعادة كبت المشاعر حتى الذكرى القادمة.
ــ النافذة المفتوحة : ترمز إلى الحاضر المؤلم الذي لا يحمل سوى ذكريات مؤلمة.
ــ الهواء الحار : يرمز إلى حرارة الألم التي لا تخمد.
ــ الكتاب القديم : يرمز إلى الماضي والذكريات التي تحاول الابنة استعادتها والتمسك بها.
ــ الكرسي الخشبي القديم : رمز للانتظار والثبات والصبر، والصمود في مواجهة العزلة.
ــ الفراغ/ الصمت: رموز سلبية طاغية تعكس حالة النفس بعد فقدان من كان يضفي على الحياة حيوية ومعنى.
ــ الظرف الأبيض : هو وعاء الرسالة، ويرمز إلى التغليف والاحتواء حيث يغلف المشاعر الهشة والعميقة التي تحتويها الرسالة، ويحميها من العوامل الخارجية. فهو محاولة لإضفاء طابع “الرسمية” والاحترام على هذه المشاعر. وبياضه دلالة على أن الرسالة عمل مقدس، وكأنها مناجاة صادقة وطاهرة لا تشوبها شائبة، فهو يعكس نقاء حب الابنة لأبيها وطهارة مشاعرها.
8 ــ الرسائل :
تقدم الكاتبة من خلال قصتها مجموعة من الرسائل العميقة التي تتجاوز مجرد سرد قصة عن الفقد والغياب، لتلامس جوهر التجربة الإنسانية. حيث تؤكد على أن الحب الحقيقي لا ينتهي بالموت، فرغم غياب الأب الجسدي، إلا أنه حاضر بقوة في حياة الابنة. بالإضافة إلى إبراز قوة الكتابة من خلال الرسالة في معالجة الألم النفسي، فبينما تعجز الابنة عن التعبير عن مشاعرها بصمت، تصبح الكتابة وسيلتها الوحيدة للبوح بما في قلبها. فتحويل الألم إلى كلمات هو خطوة أساسية نحو التحرر من أعبائه، وأن الكتابة يمكن أن تكون جسرا للتواصل مع الغائبين. كما أن ترك الرسالة في الدرج بغرفة الأب وبالتالي منزله (الماضي) والعودة إلى منزلها(الواقع) يؤكد لنا أنه لا يمكننا أن نستمر في العيش في الماضي، مع ضرورة عدم نسيانه وإكمال طريقنا في الحياة، في إشارة إلى أن التوازن بين الأمرين هو سر الاستمرار.
ــ خاتمة :
قصة “على رصيف الغياب” نجحت في أن تكون مرآة لكل من عانى الفقد والغياب، فهي ليست مجرد سرد عاطفي، بل هي عمل فني مكتمل الأركان؛ لغويا من خلال لغة شاعرية مشحونة بالاستعارات التي تجسد المشاعر. وبنيويا من خلال توازن بين السرد الخارجي والداخلي، وبين ضمير الغائب والمتكلم. ورمزيا من خلال شبكة معقدة من الرموز التي تحمل الدلالات النفسية (الغرفة، الرسالة، الظرف الأبيض…). وفكريا من خلال تقديم رؤية عميقة عن الحب، والذاكرة، والكتابة، والتوازن في الحياة.
اكتشاف المزيد من azulpress.ma
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
التعليقات مغلقة.