عصيد لحميش : الأمازيغية مسلسل مؤسساتي..وأنت أجنبي حين تنعتنا بالبربر
في ردّه على بنسالم حميش كتب أحمد عصيد مقالا مطولا عنونه بـ: ” رد لطيف على كلام عنيف” من أجل تجاوز الماضي والعودة إلى الراهن. ننشره كاملا تعميما للفائدة.
“من شأن الاكتشافات الجديدة أن تنقض دائما النظريات السابقة حتما، والتي انتهى إليها الباحثون بطبيعة أبحاثهم”
شارل أندري جوليان
أحمد عصيد:
لست أدري وأنا أقرأ مقالة السيد بنسالم حميش حول “جذور القرابة بين العربية والأمازيغية” ، لماذا تذكرتُ “غزوته” الغريبة وغير المبرّرة، ضدّ الراحل محمد أركون، الذي قام بجلده في قبره ذات يوم، في نزوة أثارت استغراب المشتغلين بالفلسفة آنذاك، وما لم نفهمه وقتئذ هو أن السيد حميش يقع بين الفينة والأخرى ضحية انفعالات ظرفية، سرعان ما يُحوّلها إلى مواقف تبعده عن جادة الصواب، وتحجُب عنه رؤية موطئ قدميه.
وجدَنا الأستاذ مهمومين منشغلين بمصير بلدنا في عزّ أزماته الخانقة، التي فاقمها وباءٌ لا يبدو أنه قد أنسى الرجلَ أحقاده القديمة. فلنبدأ من البداية، وربّ ضارة نافعة.
أسباب النزول:
أولا أستسمح القراء في أن أخبرهم بأن هذا النقاش مع أستاذنا العزيز سّي حميش نقاش متقادم مكرور جرى بيننا لأكثر من مرة على صفحات الجرائد وفي وسائل الإعلام والندوات الفكرية قبل سنوات طويلة، ولم أعُد متحمسا للخوض فيه لولا إلحاح الناس، وسبب ذلك أن أستاذنا ما زال يعتمد نفس أسلوب التفكير بل ونفس العبارات التي استعملت قبل عشرين سنة من هذا التاريخ . إنه نقاش سبعيني ـ ثمانيني بامتياز، امتدت أصداؤه إلى عتبات الألفية الثالثة 2000 – 2003، وإذا كان السيد حميش يُصرّ على الاستمرار فيه ونحن في سنة 2020، فبسبب عدم رغبته في استيعاب التحولات التي عرفها هذا الموضوع منذ بدء مسلسل مأسسة الأمازيغية وتهيئتها، حيث يفضل مثل الدعاة السلفيين تماما، التغاضي عن التحولات المحيطة بنا، أو لنقل إنه يجسّد المثل المغربي الدارج: “الراجل هو اللي يبقى في كلمتو”، والذي يقابله عند العامة “الراس للي ما يدور كدية”، لكن في جميع الأحوال، يبدو أنه من البديهي أن من لم ينخرط في تحولات عصره لن يستطيع المشاركة في بناء المستقبل.
في جريدة الأحداث المغربية وبتاريخ 28 فبراير 2003، كنتُ قد وجهت رسالة ثانية مفتوحة إلى الأستاذ حميش الذي نشر مقالا يحتجّ فيه على استعمال كلمة أمازيغ عوض “بربر” و”برابرة” التي اعتبرها التسمية “الأصحّ”، والتي على الأمازيغ أن يتقبلوها في رأيه ما دامت هناك شعوب كثيرة تتقبل أسماء قدحية سُميت بها (كذا !)، ولأن كلمة “بربر” أطلقت على الأمازيغ من طرف الأجانب، فواضح أنّ الأستاذ اختار أن يقف في صفّ الأجنبي في مقابل سكان بلده، وهذا اختياره الذي يجب أن نحترمه، لأن كل واحد يختار الموقع الذي يشعر فيه بالطمأنينة والسعادة.
وحتى نضع الأمور في سياقها التاريخي علينا التذكير بأن موقف الأستاذ المذكور من التسمية كان تعقيبا منه على قرار الدولة التي أعلنت رسميا آنذاك “المصالحة الوطنية” بعد انتقال العرش، والتي من بين عناصرها المصالحة الثقافية والهوياتية، فكان “خطاب أجدير”، وكان أن استعمل الملك محمد السادس لأول مرة من موقع رئاسة الدولة، كلمة “أمازيغية”. فمع تغيير السياسة جاء تغيير التسمية، ففي عهد الملك الراحل الحسن الثاني كانت سياسة الإقصاء منسجمة تماما مع معجم الوصاية الأجنبية (البربر ـ اللهجات)، وعندما صارت السياسة وطنية منطلقها الذات، تغير المعجم، ويظهر هذا خطورة التسمية التي ليست أبدا مجرد إلصاق كلمات بأشياء، بل هي تعبير عن تصور ورؤية وحكم على الشيء الذي نسميه وعلى قيمته.
جاء في مطلع رسالتي الثانية المذكورة إلى الأستاذ حميش ما يلي:
“لم أكن أقصد برسالتي التي وجهتها إليكم عبر جريدة “الأحداث المغربية” الإساءة لشخصكم، لا بوصفكم مثقفا ومبدعا، ولا باعتباركم مناضلا حزبيا، إذ بيني وبينكم خصومة فكرية لا شخصية، وإنما كنت أنوي توجيه النقد لأفكاركم التي اقترحتموها في موضوع الأمازيغية، والتي بدت لي خارج السياق الحالي الذي يجتازه المغرب، كما أنها تمسّ في الصميم بهوية المغاربة وكرامتهم، وكان قصدي أيضا من وراء ذلك لفتُ انتباهكم، وأنظار بعض أعضاء النخبة المغربية الذين يشاطرونكم نفس وجهات النظر، إلى أن ما عبّرتم عنه لا يحمل أية قيمة مضافة بالنسبة لما يتأسس في مغرب يتجه بإرادة وإصرار نحو حلّ مشاكله وتدبير أزماته المتفاقمة، بروية وحكمة، بعيدا عن مزالق الفتنة ومطباتها” . وما أشبه اليوم بالأمس.
غير أنني وأنا أعود إلى هذا النوع من النقاش، سأتجنب كليا اللمز في شخص أستاذنا أو الإساءة إليه بغليظ الكلام كما فعل، لأنني ـ علاوة على أن ذلك ليس هدفا نبيلا ـ ليس لي أية حسابات شخصية مع السيد حميش ولا أكنّ له أية ضغينة.
من آيات التقادم استمرار الأستاذ في الحديث عن “أصول السكان” و”أعراقهم”، وعن حرف كتابة الأمازيغية، ولجوؤه إلى بعض مؤلفات القوميين المتشدّدين التي هي بمثابة تراث ميّت في معظمه، وحديثه عن الأمازيغية كما لو أنها ما زالت خارج أي اعتراف رسمي أو مسلسل مؤسساتي، بينما هي اليوم قضية دستورية لم يعد جائزا نسبتها إلى شخص أو حركة أو اعتبارها ذريعة لتصفية حسابات من أي نوع، لأنها قضية لا تنفصل عن قضايا الانتقال نحو الديمقراطية، وليست بذات صلة بمشاعر شخص أو حالاته النفسية.
إن الموضوعية والنزاهة الفكرية تقتضيان النظر في كل ما يجري من تمظهرات الفعل السياسي والثقافي التي يُعبر عنها النقاش العمومي في بلدنا، وأعتقد أنه ليس من المصداقية في شيء أن يتحدث المرء عن قضايا آنية من خلال الهروب إلى أمور لم يعُد لها وجود اليوم، حيث طواها الزمن بسبب زوال أسبابها أو سياقاتها.
ولعل واجب الأستاذ الذي كان في يوم ما أستاذ فلسفة بالجامعة ـ عوض أن يتهجم على الأشخاص وينعتهم بنعوت مشينة ـ أن يطرح السؤال عن الأسباب التي جعلت مثلا استمرار بعض النقاشات لدى المواطنين مع قدر من العنف اللفظي (الذي وقع فيه الأستاذ نفسه) يطغى على الفكر بعد تعديل الدستور سنة 2011، مما حال دون أن يتجه النقاش وجهة علمية بهدف تدقيق أساليب أجرأة وتنفيذ مكتسبات ذلك الدستور، وألقى به عكس ذلك نحو مزيد من التصعيد. وأحيل السيد حميش على مقالي التحليلي المعنون بـ “الأسباب الخمسة لعودة الصراع حول الهوية بعد أن حسم فيها الدستور” المنشور في الصحف والمواقع الإلكترونية المغربية، فلعله واجد فيه ما يشفي الغليل في هذا الباب، كما سيجد فيه كل العوامل التي ساهمت في تزايد التوترات والسجالات بين الأطراف المختلفة، والتي أبرزها استمرار عقليات ما قبل دستور 2011، وعدم وفاء الدولة بالتزاماتها الدستورية في مختلف القضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية.
ما هي مشكلة السيد حميش تحديدا مع الأمازيغ والأمازيغية ؟ إنها في الحقيقة لا تتعدى حيز المشكل الشخصي، فهو يرى أن التنوع اللغوي والثقافي يُشكل تهديدا حقيقيا لوحدة البلاد وانسجامها، وأنه “مؤامرة” آتية من الخارج لإضعافنا ولخلق ما سماه الأستاذ “البعثرة والتفكيك”، وهذه الفورة من المشاعر مصدرُها وطنية الأستاذ وغيرته على وحدتنا، وهي نفس الغيرة التي وُجدت من قبل لدى الوطنيين الأوائل الذين تماهوا مع نموذج الدولة الوطنية المتمركز، ووجدوا ضالتهم في اليعقوبية الفرنسية التي تعتبر التنوع إضعافا لقوة الدولة، فجعلوا العربية لغة وحيدة للدولة، والعروبة هوية خالصة ماحقة، والإسلام دينا وحيدا والمالكية مذهبا أوحدا والأشعرية اختيارا كلاميا فريدا والجُنيد نبعا يتيما للتصوف والعرفان الصوفي، وقد قرروا ذلك في بلد يطبعه التنوع الشديد منذ آلاف السنين، ولعل هذا النهج كان له ما يُبرره في العقود الأولى التي تلت استقلال البلاد بسبب حاجة الدولة إلى اكتساب القوة الضرورية لكي تستطيع لمّ شتات الجهات والقبائل والأصول والألوان واللغات، لكنه نزوع سرعان ما اقترن برغبة أكيدة في ترسيخ الاستبداد، فصار آلية من آليات تجميد النسق السياسي وإغلاقه. لكن الدولة المغربية شعورا منها بإكراهات الزمن والتاريخ والجوار الإقليمي والدولي، والضغط الداخلي من القوى المدنية والسياسية، وبمسؤوليتها الجسيمة في تدبير تنوعها الخلاق تدبيرا عقلانيا متوازنا، كانت ملزمة بالتطوير التدريجي لنموذجها بالانتقال السلس من الأحادية الاختزالية إلى إقرار التعددية والتنوع دستوريا سواء في اللغة أو الهوية، ما أدى إلى حدوث نوع من الانسداد النفسي والذهني لدى العديد من المثقفين Blocage psychologique ، حيث ظلوا عند فكرتهم القديمة في الوقت الذي تطورت فيه الأحداث في اتجاه آخر، فصار بعضهم أشبه بـ”أهل الكهف”، الذين استفاقوا بعد مئات السنين ليجدوا عالما آخر لا يعرفون كيف يواجهونه، ويجدوا بحوزتهم عملة متقادمة لم تعُد تصلح لشيء.
إن الفكرة التي ظلّ السيد حميش محتفظا بها حتى الآن والتي تعوقه عن التفكير الموضوعي هي فكرة الدولة الوطنية المركزية في نموذجها التقليدي، الذي أنجب لنا في فترة ما مثقفين لا يفكرون إلا في إطار وعي تنميطي ينشدُ التجانس المطلق، لكنه لم يعُد يكفي لتفسير التحولات المتلاحقة.
وعلى ذكر هذه الفكرة، أودّ أن أشدّد على مبدأ جوهري يُشكل عاصما للذهن من الجمود والتكلس، وهو المبدأ القائل: ” إن كل فكرة لم تعُد تكفي لتفسير ما يجري في الواقع هي فكرة ميتة أو منهكة، ينبغي تجاوزها وابتكار فكر جديد بمفاهيم جديدة” ، نقول هذا للفقهاء والمحافظين، كما نقوله لبعض مثقفينا الذين ينتمون عمليا من خلال مواقفهم إلى التيار المحافظ.
بعد 63 سنة من التعريب الإيديولوجي،، أمية في الأمازيغية:
على ضوء ما ذكرناه أعلاه، طلب مني الأستاذ حميش في ما يشبه التحدي أن أقوم بـ”تفعيل الطابع الرسمي للأمازيغية” بشكل شخصي، رغم أنه من المضحك أن يتحدّى المرء غيره في مجال اختصاصه، إذ أن مهنتي اليومية في مؤسسة أكاديمية هي جمع وتدوين التراث الأدبي الشفوي وقراءة وتصحيح النصوص المكتوبة بالأمازيغية وبحرف تفينياغ العريق وإعدادها للنشر، في صيغة أنطولوجيات للأدب تدعم تدريس اللغة، وكذا تشجيع الأدباء الشباب على نشر إبداعاتهم بوصفهم يمثلون مستقبل اللغة الأمازيغية، فالسيد حميش ما زال لا يعرف ربما بأن الأمازيغية قد انتقلت من الهامش المنسي إلى لغة الدولة والمدرسة، وأنها قد صارت لها قواعد إملاء وصرف ونحو وتركيب مُمعيرة ومعاجم متخصصة، وبسبب الانفعال والتوتر النفسي ربما ـ الذي انعكس على أسلوبه في التعبير ـ لم ينتبه السيد حميش كعادته إلى أنه يضع شخصه في موقع لا يُحسد عليه، فهو يطالب غيره بالكتابة بلغة وحرف لا يفهمهما، رغم أنهما يتعلقان بلغة رسمية، أي لغة الدولة والمؤسسات، في الوقت الذي يهدف فيه النقاش العمومي إلى التفاهم والتبادل، ما يعني أننا في حالة ما إذا وجهنا للسيد حميش نصا بالأمازيغية سيضطر إلى البحث عمن يقرأه له ويشرحه، تماما كما يفعل جميع الأميين في بلدنا، ذلك أن من بين تعريفات الأمية كما يعلم الجميع، أنها عدم القدرة على القراءة والكتابة باللغة الرسمية، أي لغة المؤسسات المعتمدة في المدرسة، وهذا يُعلمنا أنه لا جدوى من مخاطبة شخص ما بلغة لا يعرفها، ويجعل بعض نخبنا تدرك المعاناة التي عاشتها الفئات الشعبية في البوادي والحواضر مع من يخاطبهم أو يكاتبهم بلغة لا يعرفونها.
ومن المعلوم أنه عندما يتم إقرار لغة ما دستوريا، سيكون متعذرا التفاهم بها مباشرة بدون تعميم تدريسها وإكسابها للأجيال المتعاقبة، واعتمادها في وسائل الإعلام وتحسيس المجتمع بأهميتها، وهذا ما تم بالنسبة للعربية منذ الاستقلال، ولكنه لم يكن من حظ الأمازيغية حتى الآن للأسف، لأسباب منها استمرار عقليات لا تعترف بالدستور ولا بالمكتوب أصلا.
لقد كتب السيد حميش في مقالته الهجائية معبرا عن استغرابه من استعمالي للغة العربية وعدم كتابتي بالأمازيغة، والحقيقة أن العجب العُجاب هو استغرابه من أمر بديهي تماما، فالعربية أولا لغتي كما هي الأمازيغية لغتي الأصلية، وقد كتبتُ الشعر بهما معا منذ سنّ الرابعة عشرة، ونظمت الشعر العربي على بحور الخليل التقليدية جميعها، وكنت أجدُ في ذلك يُسرا عجيبا، كما كتبتُ قصيدة التفعيلة وقصيدة النثر، وفيما بين 1979 و1992 نشرتُ 32 نصا شعريا بالعربية في الملاحق الثقافية للصحف المغربية وحتى في مجلات شرقية كـ”الثقافة” العراقية و”المعرفة” السورية، أما في الأمازيغية فقد حاورت 168 شاعرا في فنّ “أنعيبار” العريق والصعب على مدى 41 سنة، هذا غير القصائد التي لا تعدّ ولا تحصى. فكتابة الشعر بلغة ما هي غاية العشق لهذه اللغة، ولا يُشوش على ذلك العشق إلا الإيديولوجيات الإقصائية التي ترمي إلى اختزال وجودنا في بُعد يتيم.
هذا العشق للغتين الرسميتين لا يعني أبدا أن نتخذ بشأنهما مواقف خرافية أو غير متوازنة، فإذا سُئلت شخصيا عن تدريس العلوم بهما مثلا فسيكون جوابي بالرفض، ليس لقصور فيهما، بل لأننا لم نقم بما يلزم لإعدادهما لتلك المهمة الجسيمة.
هذا من جهة، أما من جهة ثانية فبعد 63 سنة من سياسة التعريب، يطالبنا الرجل بأن نحادث أنفسنا فقط، بينما مهمتنا أيضا أن نخاطب أمثال السيد حميش بلغتهم رحمة بهم، وهم الذين لا يفقهون شيئا في اللغة الأصلية الأولى الأكثر عراقة بشمال إفريقيا، إننا نخاطبهم بلغتهم تماما كما خاطب القرآن “قريشا” بلغتهم ليكون ذلك حُجة عليهم، حتى لا يقولوا “لولا فُصلت آياته أأعجمي وعربي؟”، فحتى لا يقول السيد حميش ومن على شاكلته إننا لا نفهم ما تريدون وما تقصدون، ويبقوا على “كفرهم” وعنادهم، عمدنا إلى استعمال لغتهم حتى نتفاهم، خاصة وأن الدولة المغربية حَرمتهم من حقهم في تعلم اللغة الأمازيغية التي أقصتها من التعليم منذ الاستقلال.
يتعلق الأمر هنا بالنقاش بين النخب، ذلك أننا نستعمل الدارجة المغربية كما نستعمل الأمازيغية في غفلة من السيد حميش لمخاطبة الفئات العريضة التي لا يعرف الأستاذ حتى كيف يتوجه إليها بالخطاب. وبالواضح : إننا نستعمل الأمازيغية يوميا كتابيا وشفاهيا مع الذين يفهمونها، ونتوجه إلى غيرهم من ضحايا التعريب الإيديولوجي باللغات الأخرى التي عملت الدولة على نشرها طوال عقود الاستقلال، وهدفنا المساهمة في إنجاح الانتقال نحو الديمقراطية في بلدنا، (والتي تعني المساواة قبل كل شيء، وتدبير التعددية والاختلاف بشكل سلمي)، حتى لا يشعر أحد بالإقصاء في وطنه، هذا الانتقال الذي يظل مستحيلا بدون إكساب الناس الوعي الديمقراطي المطلوب.
على السيد حميش إذن أن يُقر بالامتياز الذي نحظى به إزاءه، فنحن قادرون على الانتقال من مخاطبة سكان العالم القروي إلى الأحياء الشعبية والراقية بالحواضر إلى مدرجات الجامعات والقاعات العمومية إلى النقاش مع النخب الحزبية والفكرية والطبقة السياسية، وخلال ذلك نستطيع الانتقال من الأمازيغية إلى الدارجة، عبر العربية الفصحى ثم الفرنسية، وهي ملكة قد لا يتمتع بها السيد حميش، الذي يعرف ربما أكثر من لغة أجنبية، لكنه لا يعرف اللغة الأعرق على أرض بلده، والتي صارت بقوة الأشياء واتجاه التاريخ لغة رسمية في الدستور. وأن يكون المرء أميا في لغة ما ليس عيبا في حدّ ذاته إذا كانت لديه إرادة التعلم، لأنه في الواقع مجرد ضحية للدولة التي لم تعلمه في الوقت المناسب.
أعتقد إذن أن هذا الأمر مفهوم ولا عجب هنالك.
وحتى نخرج من نقاش قد لا يفيد القراء في شيء، نودّ التذكير بأن استعمال لغة ما وتفعيل طابعها الرسمي، واعتماد أبجدية ما، يتوقف بالدرجة الأولى على تعميم تعليمها في المدارس، كما حدث بالنسبة للغة العربية الكلاسيكية التي لم يكن يعرفها قبل الحماية أكثر من 5 في المائة من المغاربة، وصارت اليوم لغة يعرفها نسبيا كل من نال حظا من التعليم. فإذا كان السيد حميش غيورا على مستقبل الأمازيغية مُصرا على تفعيل طابعها الرسمي، فليس له إلا أن يُساعدنا على جعل الدولة تقر بتعميمها الأفقي والعمودي في التعليم، باعتبارها لغة إلزامية لجميع المغاربة كغيرها من اللغات، وهو ما لم يتحقق حتى الآن رغم أن القانون التنظيمي للغة الأمازيغية قد أشار إليه ونصّ عليه.
ثم حتى نكون أكثر صراحة مع السيد حميش، أليس العجب العُجاب فعلا هو أن يتحدث شخص ما منافحا عن العربية، بينما ألف كتبه بالفرنسية ودرّس أبناءه في البعثة الأجنبية، وتجده في محافل الفرنكوفونية يوزع ابتسامته بسخاء ؟
ومن النكات ما كتبه السيد حميش متحدثا عن كاتب هذه السطور ” إلى متى وهو يستعمل اللغة العربية في مجمل خرجاته التأليفية والإعلامية معتمدا مقدراتيها البيانية والبلاغية، مع أنه يداوم على التقريع في اللسنان العربي وذم أهاليه؟ ” .
والحقيقة أن النقد الشديد الذي ما فتئتُ أوجّهه منذ أربعين سنة لإيديولوجيا التعريب المطلق لا علاقة له باللغة العربية، التي تتواجد على أرض المغرب منذ قرون طويلة، ولم يسبق للأمازيغ أن اتخذوا منها أي موقف سلبي، بل استعملوها وما زالوا بدون عُقد، كما استعملوا غيرها من اللغات، وإنما عملنا على نقد سياسة فاشستية ما زالت تستوطن أدمغة البعض رغم تقادمها.
ويعلم الجميع كذلك ـ وكتاباتنا شاهدة على ذلك ـ بأن النقد الشديد اللهجة الذي وجهناه لمقترحات قوانين “تعريب الحياة العامة” التي تقدم بها الحزبان المحافظان “الاستقلال” و”العدالة والتنمية”، والتي تهدف إلى “تجريم استعمال أية لغة أخرى غير العربية “، بل والحكم بالغرامة 100 مليون سنتيم والسّجن خمس سنوات على من استعمل لغة أخرى (كذا !!)، إنما هو نقد موضوعي مؤسّس ومبني قبل كل شيء على التزامات الدولة المغربية وعلى الدستور المغربي، ما جعل تلك المقترحات الغريبة غير مقبولة لا عندنا ولا عند غيرنا من الديمقراطيين.
إنّ تحريف النقاش لن يكون له من هدف سوى التعمية والتشويش على مطالبنا الديمقراطية، التي تقول بصريح العبارة: نعم للغة العربية التي هي لغتنا بجانب لغتنا الأمازيغية الأصلية، ولكن لا لإيديولوجيا التعريب المطلق، ولا لأية سياسة تهدف إلى حظر أية لغة أخرى أو محاصرتها أو محوها. فخدمة اللغة العربية ممكنة بدون تجريم استعمال غيرها أو محاولة تحجيمها، و نقدنا للقوانين والسياسات العنصرية ليس موقفا سلبيا من اللغة العربية أو أية لغة أخرى.
ولقد قمنا كذلك بنقد من يدافع عن اللغة العربية باستعمال الخرافات والأكاذيب وأنواع التهريج التي لا أساس لها في العلم ولا في الواقع، كمثل القول إن العربية “لغة فضلها الله” أو “لغة أهل الجنة”، و”لغة مقدسة”، وكمثل اعتبارها “لغة آدم منذ بدء الخليقة”، واعتبارها “ركنا سادسا من أركان الدين”، وكمثل القول إن جميع الدول العظمى تعمل في السرّ ليل نهار على نقل جميع منتجاتها الحضارية إلى العربية (كذا)، بعد أن اكتشفت بأن جميع اللغات ستنقرض وستبقى العربية وحدها لأنها “ثابتة لا تتغير”، إلى غير ذلك من الأقاويل الباطلة والعبارات الطائشة التي تنشر الجهالة والتجهيل ولا تنفع في علم ولا معرفة صحيحة.
بصدد “المغرب العربي”:
ما فتئ القوميون العرب يشتكون من رفضنا لعبارة “المغرب العربي”، وشكواهم اليوم موقف غريب عن قوانين البلاد ودستورها، خاصة بعد التشطيب على هذه العبارة من القانون الأسمى للبلاد سنة 2011، كما أنه غريب عن الحسّ السليم والمعطيات العلمية الموضوعية، فنحن لا نرفض عبارة “المغرب العربي” لأننا نرفض العربية، بل لأننا نشعر بعدم احترام لوجودنا، كما نشعر بإهانة مواطنتنا ووطنيتنا المغربية، وبعدم اعتبار اللغة والهوية الأكثر عراقة على أرض المغرب، فبينما يُقر الدستور باللغتين الرسميتين، ويُقر بتعدد مكونات الهوية المغربية التي يذكرها بالنص، يعمل القوميون العرب على الاستمرار في اعتماد تسميات وعبارات تختزل تلك الهوية المتعدّدة في مكون واحد وحيد هو “العروبة الخالصة”، وأذكر السيد حميش بهذا الصدد بأن الدكتور سعد الدين العثماني رئيس الحكومة الحالي، الذي لا ينتمي إلى الحركة الأمازيغية، عندما كان وزيرا للخارجية، دعا جميع وزراء المغارب إلى عدم استعمال عبارة “المغرب العربي” لما فيها من اختزال وإقصاء، ولقد كنا واضحين كل الوضوح في رفض هذه التسمية التي ستزول من التداول لا شك قريبا بعد أن زالت من النص، وسيكون ذلك لأسباب أربعة:
ـ لأنها مرتبطة بسياق تاريخي لم يعد موجودا.
ـ لأنها لا تعبّر عن تعدّد مكونات المغرب.
ـ لأن الدستور المغربي استعاض عنها بعبارتي “الاتحاد المغاربي” و”المغرب الكبير”.
ـ لأنها عبارة ما فتئت تثير الاعتراض وتبعث على الصراع والخلاف عوض الوحدة.
التعريب الأكاديمي والتعريب الإيديولوجي:
نفس الشيء يُقال عن رفضنا لسياسة التعريب، والذي هو موقف لا يتعلق بالتمكين للغة العربية في الإدارة أو التعليم، فكل لغة رسمية لا بدّ لها من ذلك، وإنما نميز تمييزا واضحا بين التعريب اللغوي الأكاديمي، وهو عمل يقوم به اللسانيون يوميا، وبين المفهوم الثاني الذي هو التعريب السياسي ـ الإيديولوجي الذي يُقصد منه تعريب التاريخ والشخصية المغربية وتعريب أسماء الأماكن وتعريب أسماء المواليد ونشر الوعي القومي العربي الإقصائي عبر النظام التربوي ووسائل الإعلام وخطاب السلطة ونخبها، وقد لا نحتاج إلى التذكير بمضامين الكتب المدرسية التي نَشرت على مدى 45 سنة معطيات أقل ما يمكن أن يقال عنها أنها مغرقة في الإيديولوجيا والعنصرية، ولا علاقة لها بالتاريخ الفعلي لبلادنا، وقد أدت بنا سنة 2004 إلى حدّ أن رفعنا دعوى قضائية ضدّ وزارة التربية الوطنية. وقد دخلت هذه المضامين في طور التصحيح التدريجي في السنوات الأخيرة، وستنمحي كليا بعد زمن وجيز، بسبب طابعها الاختزالي والإقصائي.
بصدد حرف تيفيناغ: حقائق مغيّبة
في مناقشة سي حميش نجدنا مضطرين إلى التمييز بين الآراء الشخصية والأخطاء المعرفية، فالخطأ المعرفي ليس “رأيا” بل هو خطأ يجب تصحيحُه لأنه يمثل تغليطا للرأي العام، ومن ذلك قول الأستاذ إنّ حرف تيفيناغ أقره المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية في 31 يناير 2003، والصحيح أن المعهد المذكور ليس من صلاحياته أن يُقرر أصلا، بل هو مؤسسة استشارية “يُبدي الرأي” للملك، وعندما أبدى رأيه حول حرف كتابة الأمازيغية، لم يوافق الملك محمد السادس على ذلك الرأي مباشرة، بل استدعى الأحزاب السياسية إلى الديوان الملكي عن طريق المستشارين الراحل مزيان بلفقيه ومحمد معتصم، وكانت نتيجة تلك المشاورات أن من بين جميع الأحزاب التي استدعيت لم يكن ثمة من عارض حرف تيفيناغ ما عدا الحزبان المحافظان “الاستقلال” و”العدالة التنمية”، اللذان طالبا بالحرف العربي، وهم أقلية صغيرة في المجتمع السياسي المغربي. ولقد أقرّ الملك محمد السادس مباشرة بعد ذلك حرف تيفيناغ حرفا رسميا لكتابة اللغة الأمازيغية وتدريسها بتاريخ 10 فبراير 2003، كما بعث برقية تهنئة إلى المجلس الإداري للمعهد الملكي للثقافة الأمازيغية الذي كنت عضوا فيه آنذاك، نشرتها الوكالة المغربية للأنباء، وعمّمتها على جميع المنابر الإعلامية. ولعل ما نشرته بعض الصحف الأجنبية كان أكثر دقة عندما قالت إن الدولة المغربية قد أقرت حرف “تيفيناغ” لتدريس اللغة الأمازيغية.
وسيفهم القارئ اللبيب دلالات هذه الوقائع من الناحية السياسية، إذا علم بأن من بين أدوار الملكية المغربية الحفاظ على التوازنات بين الفرقاء المختلفين، عبر نوع من التحكيم الملكي الحاسم، ومن هذا المنطلق فدُعاة العودة إلى فرض الحرف العربي على الأمازيغية هم دعاة فتنة حقيقيون، لأن نتيجة موقفهم هي فقط العودة إلى الصراعات القديمة التي طوينا صفحتها منذ 17 سنة.
وقد تلا هذا الاعتراف الوطني التاريخي بحرف تيفيناغ اعتراف دولي سنة 2004 من المعهد الدولي لمعيرة الأبجديات Iso unicode ، كما دخل في أكتوبر 2012 إلى نظام Windows 8 المعلوماتي، ثم إلى الـ”فيسبوك” سنة 2014، ثم محرك البحث Google سنة 2015.
وابتداء من سنة 2012 تم تأليف أول كتاب مدرسي لتعليم اللغة الأمازيغية بليبيا الشقيقة بعد سقوط معمر القذافي، وقد اختار أمازيغ ليبيا حرف “تيفيناغ إركام” لتدريس لغتهم، هكذا انتقل هذا الحرف من الاستعمال الوطني إلى المجال المغاربيّ خاصة بعد أن ظهرت الكثير من الجمعيات الأمازيغية بتونس بعد سقوط نظام بنعلي، وكذا الفرق الموسيقية التي احتفلت بحرف تيفيناغ أيما احتفال.
أما بالنسبة للذين ناضلوا على مدى نصف قرن من أجل مكان للأمازيغية تحت الشمس، فيعلمون قيمة الاعتراف بحرف كان محظورا لدى السلطات يُعاقب مُستعمله بالسجن، ليصبح حرفا وطنيا ثم مغاربيا ثم دوليا. وعلى الذين ما زالوا يقترحون علينا الحرف العربي لكتابة اللغة الأمازيغية أن يعملوا على الخروج من إيديولوجيا الوصاية والأبوة الثقافية التي لم يعد لها من معنى في عصرنا. وإذا كان الدستور يُقر باللغتين الرسميتين، دون أن يجعل إحداهما تحت وصاية الأخرى أو تابعة لها أو مشتقة منها أو خادمة لها، فإن ذلك لا يعني أنهما ليس لهما تاريخ مشترك، تمخضت عنه الدارجة المغربية، التي ترمز لتفاعل وتبادل حضاري عميق بين اللغتين.
وعلى الذين قالوا غير ما مرة بضرورة كتابة اللغة الأمازيغية بالحرف العربي حتى تبقى في إطار المنظومة العربية ـ الإسلامية للثقافة، أن يتفهموا أمرين اثنين:
ـ أن هوية الأمازيغ عبر تاريخهم الطويل هي رفض الوصاية والرغبة في التحرّر.
ـ أنه لم توجد قط لغة نهضت وازدهرت وحافظت على وجودها تحت وصاية لغة أخرى.
ثالوث الغلو القومي: سعدي العرباوي وخشيم
في الوقت الذي تشيع فيه على شبكات التواصل الاجتماعي مواقف وآراء صادرة عن مواطنين من بلدان الخليج العربية ينكرون فيها أن يكون الأمازيغ عربا ويدعونهم إلى الكفّ عن انتحال هوية غير هويتهم، وفي الوقت الذي اكتشف فيه علماء الآثار بقايا أقدم إنسان عاقل بالمغرب سنة 2017، في جبل “إغود” تحديدا، والذي يعود إلى 315000 سنة ، ما يؤكد مرة أخرى بأن إفريقيا هي مهد البشرية و”أم الدنيا”، وفي الوقت الذي يطلع علينا بين الفينة والأخرى مواطن مغربي أو مواطنة يُعبر أو تعبر في فيديو مصوّر عن اندهاشه من نتائج تحليل حمضه النووي، والتي يعتبرها غير متوقعة بالنظر على ما تعلمه في المدرسة وما قيل له في عائلته، حيث يكتشف أن لا علاقة له بجزيرة العرب وأن تركيبته الجينية موزعة بين شمال إفريقيا وشبه الجزيرة الإيبيرية بل وأعماق إفريقيا السوداء أحيانا، بل هناك من يعثر على الدم التركي والروماني ولا يجد له أصلا في اليمن أو لدى الكنعانيين، إلا من نسبة ضئيلة أو منعدمة، في الوقت الذي يحدث فيه كل هذا عاد بنا السيد حميش إلى أخبار “نسب البربر” و”أصولهم” اليمينة، وهو لا ينتبه إلى أن هذا النقاش القديم لم يكن قط نقاشا علميا، بقدر ما كان صداما إيديولوجيا سببه عدم الاعتراف بواقع موجود، والسعي إلى تكريس سياسة الاستيعاب، وهكذا اهتم المستعمر بالنسب الأوروبي الشمالي للأمازيغ ، بينما اعتبرهم القوميون العرب والوطنيون (تماما كما اعتبروا الكرد والأقباط والأشوريين والزنوج إلخ..) عربا أقحاحا، ونظروا إليهم بوصفهم مشكلة مؤرقة للدولة المركزية الحديثة، التي اختارت “العروبة والإسلام” عقيدة سياسية للتنميط، في الوقت الذي يعكس واقعها هوية مختلفة، وكان لا بد من البحث عن حلول لتذويب تلك الأقوام واستيعابها، كان التذويب يتم عبر الهجرة نحو المدن وعبر التعليم والإعلام، وكذلك عبر تزوير التاريخ، وهو ما قام به أستاذنا عندما عمد إلى تحريف مواقف ابن خلدون وكابرييل كامب Gabriel Camps ومحمد شفيق وليون الإفريقي بشكل غريب، ليجعلهم جميعا يقولون بالنسب العربي اليمني الخالص للأمازيغ، بل إنه قام بالتشويش على آراء “باسي” André Basset و”غالان” Lionel Galant وجعلهما يكرسان أطروحة القومية العربية، بينما مجموعة اللغات الحامية ـ السامية (أو الأفروـ أسيوية التي منها الفرعونية القديمة والقبطية حاليا والأمازيغية والكوشية) لا علاقة لها بإثبات نسب عربي خالص للأمازيغ، إن هذا النوع من الخلط هو الذي يفقد بعض المرافعات الإيديولوجية كل مصداقية. فالعلماء المتخصصون الذين نحتوا هذه المصطلحات أرادوا منها الدراسة العلمية لهذه اللغات وليس خدمة أجندة سياسية معينة تهدف إلى تصفية لغات لصالح أخرى، من أجل إثبات عروبة البشر والحجر والشجر. وإن استعمال أسماء باحثين لتقويلهم ما لم يقولوه هو أمر غير محمود، وإذا أعوز المرء الدليل فما ذلك إلا لضعف في أطروحته.
لكن رغم ذلك نهنئ الأستاذ حميش على قبوله تصنيف الأمازيغية ضمن اللغات الأفرو – أسيوية بعد أن كان القوميون العرب يعتبرون هذا التصنيف “استعماريا”، ويضعون الأمازيغية ضمن مجموعة “اللغات السامية” معتبرين إياها مجرد “عربية قديمة”، وهذا تقدم ملموس وصحوة محمودة، وعليه اتخاذ الخطوة الموالية بأن يدرك بأن الجذور البعيدة إن وُجدت فهي لا تعني وحدة اللغات، ذلك لأن لكل لغة مسار تاريخي تطوري مختلف، حسب الجغرافيا والوقائع التاريخية والتأثيرات الحضارية المجاورة والتجارب الإنسانية، ولا يوجد عاقل يقول إن هذه العوامل كلها متطابقة متجانسة بين شمال إفريقيا وجزيرة العرب.
وقد نسب الأستاذ للحسن الوزان المعروف بـ”ليون الإفريقي” استعماله لعبارة “أقوال أمازيغ” للدلالة على اللغة الأمازيغية نقلا عن علي فهمي خشيم، والحقيقة أنه لا أحد من أمازيغ شمال إفريقيا ينطق أوال بـ”أقوال”، ونحن نجد حتى لدى فقهاء سوس من الذين تركوا منظومات فقهية منذ قرون يستعملون كلمة “أوال” أي اللغة، والدليل على ذلك ما ورد في كتاب “وصف إفريقيا” نفسه والذي أخفاه الأستاذ حميش وسكت عنه أو أنه لم يقرأ الكتاب، حيث يقول الحسن الوزان في كتابه المذكور متحدثا عن اللغة الأمازيغية: “وهي اللغة الافريقية الأصيلة الممتازة والمختلفة عن غيرها من اللغات” وهذه شهادة واضحة لا تدعُ مجالا لأي لبس.
بل إن هذا المؤرخ لم يغفل ما كان في عصره من نقاش حول اللغة الأمازيغية ومعجمها، إذ أشار إلى أن هناك من اعتبر المفردات العربية الموجودة في الأمازيغية قد تسربت إليها في الفترة الإسلامية فقط .
إننا في لغتنا الأمازيغية نستعمل كلمة “أكوال” Agwal للدلالة على الطرب والرقص والغناء، كما أن كلمة “إكوالن” Igwalen تعني أيضا الآلات الموسيقية الإيقاعية، ولكن لا أحد ينطق “أقوال” على أنها أصل “أوال” إلا في كتابات القوميين العرب المتشدّدين.
أما الأستاذ محمد شفيق فقد كان كلامه واضحا فيما يخص أساطير “نسب البربر” حيث أشار في كتابه “لمحة عن ثلاثة وثلاثين قرنا من تاريخ الأمازيغيين” إلى ما يلي:” “أنّ المؤرخين العرب كادوا يجزمون، في العصر الوسيط، أن” البربر” من أصل يماني، أي من “العرب العاربة” الذين لم يكن لهم قط عهد بالعُجمة، وعلى نهجهم سار المنظرون للاستعمار الفرنسي الاستيطاني في القرن الماضي وأوائل هذا القرن، فأخذوا يتمحلون
البراهين على أن “البربر” أوربيو المنبت، خاصة الشقر والبيض منهم. ومن الواضح أن الحافز في الادعاءين كليهما سياسي، سواء أكان صادرا عن حسن نية أم كان إرادة تبرير للاستيطان”.
ويضيف الأستاذ شفيق:”وقد عُمل بجدّ، خلال الأربعين سنة الأخيرة، على استغلال الامكانيات الاركيولوجية والانثروبولوجية واللسنية في البحث عن أصل الأمازيغيين، أو عن أصول المغاربة على الأصحّ. والنتائج الأولى التي أفضت إليها البحوث أن سكان أفريقية الشمالية الحاليين، في جملتهم لهم صلة وثيقة بالإنسان الذي استقر بهذه الديار منذ ما قبل التاريخ، أي منذ ما قُدر ب 9.000 سنة”.
ويختم الأستاذ شفيق هذا الحديث عن الأصول بقوله:”وبناء على هذا، يمكن القول إن من العبث أن يبحث لـ” البربر” عن مواطن أصلية غير التي نشأوا فيها منذ ما يقرب من مائة قرن. ومن يتكلف ذلك البحث يستوجب على نفسه أن يطبقه في التماس مواطن أصلية للصينيين، مثلا، أو لهنود الهند والسند، أو لقدماء المصريين، أو لليمانيين أنفسهم وللعرب كافة، ليعلم من أين جاؤوا إلى جزيرة العرب “.
ويقع أستاذنا حميش في تناقض كبير وهو ينسب أطروحة الأصل اليمني لكابرييل كامب Gabriel Camps ثم يعود فيأتي بنص لعبد الله العروي يستند إلى كامب ليقول: “إن المغرب فقدَ وحدته الأصيلة منذ العهد الحجري الصقيل، أثناء الألف الثاني ق.م. تحت تأثير حضارات غازية مختلفة: الحضارة الإيبيرية في القسم الغربي، والإيطالية الجنوبية في القسم الشرقي، والصحراوية المصرية في الجنوب، وبقي المغرب الأوسط منطقة مرور بلا ضفاف» (مجمل تاريخ المغرب، ص 41). وهو كلام لا يعني بأية حال وجود أصل مشرقي خالص، لأن البقعة الجغرافية التي خضعت لكل تلك التأثيرات لا يجوز نسبتها إلى الشرق حصرا، خاصة بعد أن أثبتت الدراسات العلمية وجود استمرارية لإرث العصور القديمة كما سنبين.
ولأنه لا يمكن إثبات الأصل اليمني للأمازيغ باعتماد نصوص العلماء الحقيقيين، فإن أستاذنا لم يتورع عن اللجوء إلى آراء بعض القوميين الغلاة الذين ليست لهم مصداقية علمية مشهود بها، بل تعرضوا للكثير من السخرية ومنهم الثلاثة المعروفون عثمان سعدي بالجزائر ومحمد العرباوي من تونس وعلي فهمي خشيم من ليبيا، وليسمح لي القارئ الكريم قبل أن أعرض لنصوص المؤرخين أن أنيره في ما يخصّ مصير هؤلاء الثلاثة:
فبالنسبة لعثمان سعدي فهو أمازيغي جزائري انخرط في إيديولوجيا القومية العربية وأنشأ جمعية للدفاع عن العربية بالجزائر، وهو هدف نبيل لم يعمل من أجله، حيث قاده غلوه القومي إلى السقوط في صراع مرير ضدّ الأمازيغية والأمازيغ، إذ صوّر له العمى الإيديولوجي بأن لا نهضة للعربية إلا بموت الأمازيغية وتحقيق التعريب المطلق، لكن حظه العاثر شاء أن تشرع الدولة الجزائرية في الاعتراف بمكونها الأمازيغي خلال سنوات التسعينيات، فبدأ في شنّ هجومات عنيفة ضدّ الأمازيغية انتهت إلى إنشاء الدولة الجزائرية لـ”المحافظة السامية للأمازيغية”، فاشتدّ لغطه وقوي شغبه إلى حدّ إخراج كل من يعمل في حقل الأمازيغية من دائرة الوطنية وتصنيفه ضمن القوى الاستعمارية الساعية إلى تقسيم البلاد، فكان أن دخلت الجزائر في العشرية الدموية ليس بسبب الأمازيغ أو الأمازيغية بل بسبب الإسلام السياسي الذي صنعه وغذاه الاستبداد العسكري، وعندما شرع الجزائريون في المصالحة الوطنية أعلنت الدولة الجزائرية انطلاق النقاش حول الاعتراف الدستوري بالأمازيغية فخرج سعدي عن طور التعقل وبلغ غاية الخبل عندما قام سنة 2002 بالاتصال بالشيخ زايد بن سلطان آل نهيان يرجوه التدخل لدى الرئيس الجزائري للحيلولة دون دسترة الأمازيغية، وهو خطأ قاتل يمسّ بسيادة الدولة الجزائرية، ولذلك خاب ظنه عندما تم إقرارها لغة وطنية فنادى بالويل والثبور وعظائم الأمور وحذر من تقسيم الجزائر التي كانت ما تزال تئن تحت خناجر الغدر الإسلاموي. ثم ما لبث أن كانت صدمته كبيرة مرة أخرى عندما تقرر سنة 2009 إقامة تمثال عظيم للملكة الأمازيغية “ديهيا” (التي سمّاها العرب “الكاهنة”)، اعترافا بها بطلة وطنية محرّرة ومدافعة عن أرض الجزائر ضدّ الغزاة الأمويين، ما جعل صاحبنا يصدر تصريحا هذيانيا للصحافة قال فيه إنّ ” تمثال الكاهنة التذكاري في باغاي بـ”خنشلة” سُوي في إسرائيل بطلب من “البربريست”، وبقي ستة أشهر بروما ينتظر من الدولة الجزائرية إذن الدخول”، وقد وقع في شر أفعاله عندما طالب المواطنون الدولة الجزائرية بالتحقيق في الموضوع ليتبين بأنّ التمثال مصنوع بالجزائر العاصمة وبالمال العام، وقد أشرف عليه الأستاذ بوخالفة علي، مدرس بمدرسة الفنون الجميلة بالجزائر العاصمة وتحت الرعاية السامية للسيد والي ولاية “خنشلة” آنذاك؛ وتحت إشراف مديرية الثقافة الممثلة في الأستاذ غندور عبد القادر، بل تمّ تنصيب التمثال بحضور رئيس الجمهورية عبد العزيز بوتفليقة.
وقد استمر السيد عثمان سعدي على نهجه يعيش على تكرار نفس عباراته القديمة حول “عروبة الجزائر” ومعتمدا نظرية المؤامرة، إلى أن كانت صدمته الكبرى بإقرار اللغة الأمازيغية لغة رسمية في دستور الجزائر سنة 2014.
ولعل حُب الأستاذ حميش وإعجابه بعثمان سعدي يعود إلى سنوات طويلة خلت، فما زلت أذكر أنه في سنة 1996 التقيت بالإعلامي الراحل عبد الكبير العلوي الاسماعيلي الذي كان يصدر جريدة “الزمن” آنذاك، فسألته عن نشر جريدته لمقال غريب للسيد عثمان سعدي عن “الأصول العربية للبربر والبربرية” واتهام الحركات الأمازيغية بالعمالة للاستعمار وغير ذلك من المواقف المضطربة التي لا ترسو على أساس، وقلت له إن المقال نُشر في جريدة “الشرق الأوسط” ثم أعيد نشره في جريدة “أنوال” اليسارية المغربية، وأن نشر جريدة “الزمن” له أمر مستغرب مع ما فيه من تحامل مجاني وبُعد عن الموضوعية العلمية، فقال لي: ” لا علم لي بأن المقال نُشر عدة مرات، وإنما طرق بابي في وقت متأخر من الليل جاري السيد بنسالم حميش وأمدّني به مطالبا بنشره، وإذا كان لديك تعقيب عليه فمرحبا”، وهكذا كان، فقد كتبتُ مقالا مطولا بهوامش ومراجع نشرته جريدة “الزمن” في العددين 53 و54 في شهر أبريل من سنة 1996، تحت عنوان “الأمازيغية ، العروبة والاستعمار : عن شطحات عثمان سعدي”.
أما علي فهمي خشيم فكان مُنظر القذافي في “عروبة البربر”، ألف كتاب “سفر العرب الأمازيغ” الذي حاول فيه بشيء غير قليل من المبالغة المثيرة إعادة مفردات اللغة الأمازيغية إلى العربية، هو الذي ألهم الزعيم الليبي الكثير من الأفكار العدوانية التي أدّت بالحاكم المجنون إلى إلقاء خطاب دعا فيه علانية إلى “إبادة البربر” في حالة ما إذا استمروا في المطالبة بحقوقهم، وقد تزايدت تحركات “خشيم” في اتجاه المغرب والجزائر بعد أن لاحظ المعسكر القومي تصاعد النقاش حول الحقوق الثقافية واللغوية الأمازيغية، وما زلت أذكر النقاش الفكري الذي أجريناه معه بمقر “المجلس القومي للثقافة العربية” التابع للقذافي، وهو نقاش صدر ضمن منشورات المجلس الذي كان مقره بحي “أكدال” بالرباط، والذي كان يؤدي مبالغ مالية لكل مغربي كتب عن اللغة العربية أو التعريب أو عن “المؤامرة الأمازيغية” وخطرها على وحدة البلاد.
ومن الطرائف التي نذكرها أنّ قناة “الجزيرة” قبل أن ينكشف مشروعها الإخواني كانت سباقة إلى بث لقاء متلفز حول القضية الأمازيغية في التسعينيات عند بداية انطلاقها، ودُعي للتحاور الدكتور خشيم والمحامي المغربي الرئيس المؤسس لأكبر منظمة أمازيغية بالمغرب، وهو حسن إذ بلقاسم، وفي مستهل الحلقة شرع الأستاذ إذ بلقاسم يتكلم بالأمازيغية فنظر إليه خشيم مشدوها ثم طالب مُقدم البرنامج بإيقافه لأنه لا يفهم ما يقول، فكان ردّ الأستاذ إذ بلقاسم: بما أن الأمازيغية “عربية قديمة” فلماذا لا نتحاور بها ونتفاهم ؟.
كانت نتيجة مساعي الراحل خشيم بالمغرب أن ألقى الملك محمد السادس خطاب “أجدير” التاريخي في 17 أكتوبر 2001، الذي أنصف فيه الأمازيغية بوصفها “مسؤولية وطنية لجميع المغاربة”، وقد اختلطت أوراق خشيم وزعيمه القذافي عند إنشاء المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية ثمّ إدراج اللغة الأمازيغية في المدرسة سنة 2003، ثم في الإعلام سنة 2006، ثم ترسميها في الدستور سنة 2011، وكانت قاصمة الظهر بالنسبة له سقوط نظام القذافي ونهايته المأساوية في نفس السنة.
وقد كان من سوء حظه وهو الذي آمن حتى النخاع بـ”دولة العرب الواحدة” وبـ”وطن عربي من المحيط إلى الخليج” أن شهد بأم عينه قبل وفاته وطنه ليبيا وهو يتعرض للتخريب والتمزيق على يد مليشيات السلفيين والإخوان مدعومين من قطر وتركيا، وعصابات العسكري الفاشل “حفتر” مدعوما من مصر والإمارات، وهو الذي ما فتئ يقول إن الأمازيغية تشكل خطرا على وحدة البلاد. أما الأمازيغ ففي ظل الفتنة المستعرة، عمدوا إلى حماية مناطقهم بـ”جبل نفوسة” و”زوارة”، وأدرجوا لغتهم الأمازيغية في التعليم، وكما أحدثوا وسائل إعلامهم بلغتهم بعد طول حصار واضطهاد، في انتظار قيام الدولة الليبية الموحدة، التي يأملون أن يعترف بهم دستورها ومؤسساتها.
أما محمد العرباوي فهو قومي عربي تونسي ألف كتابا عنوانه “البربر عرب قدامى”، وقامت هيئات القومية العربية بالدعاية له بأموال كثيرة، لكنه بدوره سرعان ما صُدم عندما برز الصوت الأمازيغي قويا لدى الشباب التونسي، كما أنّ تطور البحث المختبري أدى إلى إعلان نتائج تحليل تسلسل الحمض النووي للتوانسة، والتي أثبتت بأن 88 في المائة من جينات سكان تونس لا علاقة لها بجزيرة العرب مطلقا، كما أن نسبة جينات الانتماء إلى روما وشمال المتوسط أكثر من نسبة الانتماء إلى الشرق الذي لم يتعدّ 4 في المائة. والغريب أننا لم نسمع صوت السيد العرباوي آنذاك، حتى يشرح لنا علميا كيف يمكن لسكان قدموا من الشرق ألا يحمل حمضهم النووي من جينات جزيرة العرب إلا النزر اليسير جدا أو المنعدم أحيانا.
سوف لن أتحدث عن طيب الذكر أستاذنا الجليل محمد عابد الجابري، والذي كان بدوره منخرطا في نفس التوجه المتشدد للقومية العربية، والذي دعا في كتابه “أضواء على مشكل التعليم بالمغرب” الصادر سنة 1973 إلى “إماتة اللهجات البربرية ” لكي يتحقق تعميم التعريب، والسبب في استثنائي له أن له فضل تأليف كتب أخرى في تخصصه الفلسفي الأكاديمي كان لها إشعاع ودور كبيران في فهم إشكالات التراث الفكري الإسلامي وأسباب التخلف الفكري والاجتماعي الذي ما زلنا نتخبط فيه. فإذا لم يخلف القوميون الآخرون إلا رمادا من الكتب الميتة في مهدها، فإن للأمازيغي ابن فكيك ما يَخلد به ذكره لقرون طويلة.
يجمع بين هؤلاء الغلاة الثلاثة أنهم لم يقبلوا واقع بلدانهم ولا تطوراتها الديمقراطية، وحاولوا تكريس سياسات الإقصاء والقهر وشرعنتها باعتبارها سياسة القبضة الحديدية للدولة المركزية ضدّ التنوع الثقافي واللغوي. فاختاروا في تبرير ذلك أن اجتهدوا ـ وأي اجتهاد ـ بإرجاع الأمازيغية من حيث معجمها وبناها الصرفية والنحوية إلى العربية بنوع من التعميم أوقعهم في أخطاء فادحة، وقد لاحظ ذلك أحد الكتاب المشارقة من فلسطين وهو عز الدين المناصرة في كتابه “المسألة الأمازيغية في المغرب والجزائر” حين كتب يقول عن كتابات خشيم: “لكن علي فهمي خشيم بذل جهدا زائدا عن حدّه في دحض أفكار محمد شفيق”، كما انتقد محاولات ما سماه بـ”التجسير” اللغوي ” أي مدّ الجسور بشكل متعسف بين كلمات أمازيغية وأصول عربية متوهّمة حيث يقول:”يبقى أن نشير إلى أهمية “سفر العرب الأمازيغ” من زاوية جهد المقارنة اللغوية التي تترك الاحتمالات مفتوحة (… ) مع تحفظنا أحيانا على بعض أساليب “التجسير اللغوي” خلال عملية المقارنة” .
ومن الطرائف المسلية أن يعلم القارئ بأن السيد “خشيم” كان يعتبر أن كلمة “أغروم” التي تعني الخبز إنما اشتقت من “كرم”Garam وهي كلمة يمنية قديمة تعني الغطاء الذي يوضع على النار، وبما أن الخبز يطبخ فوق النار فـ”أغروم” من أصل “كرم”، واعتبر أيضا أن “الساروت” التي هي من “تاساروت” التي نفتح بها الأبواب ونغلقها إنما اشتقت من الجذر العربي “سرر” أي أخفى الشيء (كذا)، ومن فتوحاته العلمية أيضا أن “تاجرومت” أي النحو هي من الجذر العربي “جرم” الذي يعني “نزع وسلب”. بل امتد الشغب العروبي لدى السيد خشيم حتى إلى البرتغال التي اعتبرها كلمة عربية من “البرتقال”، ما أثار تحفظ عز الدين المناصرة نفسه . أما كلمة “آيت” التي تبدأ بها أسماء العائلات الأمازيغية فأصلها عند خشيم من “عيلة” و “عائلة”. وهكذا….
ومن الأخطاء المعرفية الفادحة التي وقع فيها أستاذنا سي حميش بسبب ثقته العمياء في المقدُرات “العلمية” لمنظري القومية العربية، وبسبب عدم إلمامه بجذر الكلمات الأمازيغية وإصراره رغم ذلك على الإفتاء فيها، أنه بدأ يستشهد بآراء هؤلاء في المعجم الأمازيغي على أنها حقائق علمية، وقد ذكرني بعدد من النكات والطرائف التي يُتندّر بها في المجالس والتي تُروى عن بعض فقهاء سوس الذين انخرطوا من باب المزاح في هذا اللغو كقول بعضهم: “ويقولون أغروم وهو من الغرام لشدة حُبهم له” أو قول بعضهم “ويقولون إغرضم أي العقرب، وهي كلمة مركبة من “غار” و”دم” لأنها تسكن الغيران وتسيل الدماء”. ويمكننا أن نضيف إليها ما تبناه سي حميش من أنّ “تامطوطت” هي من “الطمث” ليكتمل المشهد الهزلي.
ومن الطرائف التي نذكرها من ماضينا الدراسي ما كان معلمونا يقولونه عن جهل تام باللغة الأمازيغية وجذر الكلمات وأصولها، مثل أن مراكش تعني “مُرّ – كش” بالعربية، وكمثل أن إسم مدينة أسفي آتية من وقوف عقبة بن نافع القائد العسكري الأموي إزاء البحر المحيط وقوله “وا أسفي لو كان هذا البحر برا لغزوته !” ما يجعل الضحك أقرب إلى البكاء كما قال المتنبي: “وكم ذا بمصرَ من المضحكات ولكنه ضحكٌ كالبُكا”.
لا شك أن التفاعل العميق بين العربية والأمازيغية لقرون طويلة قد أدّى إلى مرور نسبة هامة من المعجم العربي إلى المعجم الأمازيغي، وهو مسلسل تعريب كان بطيئا وتزايدت وتيرته مع نشأة دولة التعريب الحديثة، ويعرف المختصون في اللسانيات الأمازيغية اليوم الكلمات التي تصنف ضمن الدخيل L’empreint كما يعرفون الكلمات الأصلية، وما لا يصحّ هو اعتبار كل المعجم الأمازيغي عربيا كما زعموا، أو أنّ “الأمازيغية عربية قديمة”، وقد أدى بهم ذلك إلى ارتكاب الحماقات التي وقع في فخها أستاذنا معرضا نفسه لسخرية العادي والبادي.
نفس الشيء يقال عن حرف ” تيفيناغ” الذي اجتهد كثيرون وتعبوا في محاولة نسبته إلى أقوام أخرى غير أهله، وإلى خرائط أخرى غير موطنه بشمال إفريقيا، لكن مقارنة دقيقة بين أبجديات أخرى كالبونيقية والفينيقية واليونانية وأبجدية تيفيناغ ستظهر وجود تبادل وتفاعل تاريخي في بعض الحروف، لكنها لن تثبت أبدا بأن حرف “تيفيناغ” هو نفس الحروف الأجنبية، إذ يظهر هذا الحرف العريق فروقا جوهرية في مقابل الحرف الهيروغليفي أو الحرف اليوناني القديم أو الحرف الفينيقي أو البونيقي أو حرف “المسند” اليمني القديم. ويجد القارئ في النص التالي لأحد الباحثين المختصين في التاريخ القديم وعلم الآثار ما يفسر ذلك:” ربطت الأسطغرافيا الأوروبية استعمال الكتابة بشمال إفريقيا القديم خلال الفترة البونية بتأثير فينيقي أو بوني، ومفاد تلك الأطروحة – التي كان لها حظ وافر من الرواج بين المختصين في علم الكتابات القديمة – أن سكان شمال إفريقيا قد انتظروا مجيء الفينيقيين لتدوين لغتهم واستعمال الكتابة، غير أن الاهتمام بالكتابة الليبية المنقوشة على اللوحات الصخرية وفر للمهتمين بالموضوع معطيات جديدة في ما يخص تأريخ أقدم آثار الكتابة الليبية، ومكن تدريجيا من إعادة طرح مسألة أصل الكتابة الليبية، وعلاقتها بالكتابتين الفينيقية والبونية” (الكتابتان البونية والليبية بشمال إفريقيا القديم إشكالية الأصل ومسألة التفاعل، عبد اللطيف الركيك، مجلة “أسيناك” العدد 11 ). ويستنتج الباحث في نفس الدراسة بعد استعراض العديد من الوثائق الأثرية القديمة: “وبناء على إفادات نقائش الرسوم والنقوش الصخرية بالصحراء، يمكننا الاستنتاج بأن الكتابة الليبية في الصحراء تتزامن مع أقدم آثار الكتابة الفينيقية في الشرق، والتي لا تتعدى القرن 13 ق م. وهذا يعني بأن الكتابة الليبية قديمة هي الأخرى إذا ما قورنت بالفينيقية، وتبعا لذاك لا يمكن أن تتفرع عنها خصوصا وأن أقدم آثار الكتابة الليبية قد عثر عليها بالصحراء، أي بمجال بعيد عن التأثير الفينيقي الذي اقتصر على السواحل “. ويضيف الباحث مدققا بأن اختلاف الحرف الليبي الأمازيغي عن غيره ” لا يعني إلغاء إمكانيات التفاعل والتأثير عندما يتعلق الأمر بتلاقي نوعين من الكتابة في نفس المجال”.
وعلى ذكر الخلط بين “تيفيناغ” و”فينقيا” فمن يجهل الأمازيغية لن يعلم بأن جذر “فنق” موجود في الأمازيغية ومنه “أفنيق” الذي يعني الصندوق، كما يعني الكتابة على الرمل. ولهذا دلالة عميقة.
حول أساطير “أصول البربر” تصحيحات وتدقيقات
اعتبر السيد حميش في تحايل لفظي ظاهر بأن ابن خلدون ينسب صنهاجة وكتامة إلى اليمن، والحقيقة أن ابن خلدون لم يعتبر صنهاجة وكتامة من “البربر” أصلا، حيث يقول في “كتاب العبر” : “وقال الكلبي إن كتامة وصنهاجة ليستا من قبائل البربر، وإنما هما من شعوب اليمانية”، ويضيف قائلا:”وهذه جُماع مذاهب أهل التحقيق فيهم”. لكنه بالمقابل اعتبر أن نسبة الأمازيغ إلى اليمن من أكاذيب النسابة العرب، بل وسماها “ترهات”، وأدعو القارئ إلى قراءة النص التالي من “كتاب العبر” الذي يعرض فيه ابن خلدون روايات النسابين العرب قبل أن يقوم بنقدها نقدا شديدا، يقول:”وأما إلى من يرجع نسبهم من الأمم الماضية فقد اختلف النسابون في ذلك اختلافا كثيرا، وبحثوا فيه طويلا، فقال بعضهم إنهم من ولد إبراهيم عليه السلام من نقشان ابنه (…) وقال آخرون البربر يمنيون (…) وقال المسعودي من غسان ومن غيرهم (…)، وقيل تخلفهم أبرهة ذو المنار بالمغرب، وقيل من لخم وجذام كانت منازلهم بفلسطين (…) وقال علي بن عبد العزيز الجرجاني في كتاب الأنساب: لا أعلم قولا يؤدي إلى الصحة إلا قول من قال إنهم من ولد جالوت (…) وذكر آخرون ومنهم الطبري وغيره أن البربر أخلاط من كنعان والعماليق (…) وقيل إن البربر من ولد حام بن نوح (…) وقال الصولي هم من ولد بربر بن كسلوجيم بن مصرائيم”.
أما ما نسبه ابن خلدون إلى مالك بن المرحل فهو أشبه بـ”الجوطية” التي من حقك أن تختار منها ما تشاء يقول:” وقال مالك بن المرحل البربر قبائل شتى من حمير ومضر والقبط والعمالقة وكنعان وقريش تلاقوا بالشام ولغطوا فسماهم “أفريقش” البربر لكثرة كلامهم”.
وتبلغ السريالية غايتها في قول ابن خلدون نقلا عن النسابين العرب :” وقيل أيضا إن حام لما اسودّ لونه بدعوة أبيه فرّ إلى المغرب حياءً واتبعه بنوه وهلك عن أربعمائة سنة، وكان من ولده بربر بن كسلاجيم فنسل بنوه بالمغرب”. يتضح من هذه الروايات الأسطورية أربعة أمور من الناحية العلمية:
ـ عدم إلمام النسابين العرب بأصل كلمة “بربر” اليونانية ـ اللاتينية Barbarausse و Barbari، مما جعلهم يختلقون منها أساطير شتى.
ـ عدم انتباههم إلى أن نسبة الأمازيغ إلى غير موطنهم الجغرافي الأصلي الذي استقبلوا فيه كل الوافدين يطرح عليهم مشكلة إثبات فرضية “الأرض الخلاء”. وهو أمر مستحيل لأن جميع المؤرخين الذين درسوا بعمق منطقة شمال إفريقيا شهدوا بكثافة ساكنتها عبر العصور.
ـ أن أساطير الأصول تعتمد دائما وجود جدّ أكبر وشعب متجانس منحدر منه، وهو أمر لا يمكن تصديقه بحال، إذ تكذبه الدراسات الأركيولوجية والأنثروبولوجية والتحليلات الجينية المختبرية.
ـ أن أساطير الأصول تكرس الانتماء إلى الشرق أو إلى الشمال الأوروبي، حيث ساد الاعتقاد بأن الغرب تعمه البحار، يقول كابرييل كامب “لقد جرت العادة في النصوص القديمة على العودة بأصول سائر الأقوام إلى المشرق، نظرا للاعتقاد الذي كان لدى القدامى بأن لحضارتهم جذورا في شرق المعمور Œkoumène (أي الأرض المأهولة)”.
لقد استعمل ابن خلدون كلمات التشكيك “زعموا” و”يزعمون” وهو يورد كل تلك الأخبار العجيبة، ولكنه كان واضحا تمام الوضوح عندما انبرى إلى نقد تلك الروايات بقوله:”وافريقش الذي يزعمون أنه نقلهم قد ذكروا أنه وجدهم بها، وأنه تعجب من كثرتهم وعجمتهم، وقال ما أكثر بربرتكم، فكيف يكون هو الذي نقلهم وليس بينه وبين أبرهة ذي المنار من يتشعبون فيه إلى مثل ذلك أن قالوا إنه الذي نقلهم” هكذا رصد ابن خلدون بذكائه تناقضات روايات النسابين العرب، وأضاف في نقد الفكرة التي تبناها الأستاذ حميش خطأ وهي الأصل اليمني للأمازيغ: “وأما القول أيضا بأنهم من حمير من ولد النعمان أو من مضر من ولد قيس بن عيلان فمُنكر من القول”. ثم قال وهو يتحدث عن ماذغيس الملقب بالأبتر “وهو أبو الترهات في شأن أوليتهم”. أي الذي روج الأكاذيب الباطلة في شأن نسب “البربر”. كما كتب في نقد النسابين العرب ورواة الأخبار والمفسرين “ثم وقفوا على تلك الحكايات التي هي أشبه بالأقاصيص الموضوعة التي هي أقرب إلى الكذب المنقولة في عداد المضحكات”.
وحتى يكون واضحا في إنكار الأصل اليمني للأمازيغ أورد ما ذكر في كتاب “الجمهرة” لابن حزم حين قال: “ادعت طائفة من البربر أنهم من اليمن ومن حمير، وبعضهم يُنسب إلى بر بن قيس، وهذا كله باطل لا شك فيه، وما علم النسابون لقيس بن عيلان ابنا إسمه “بر” أصلا، وما كان لحمير طريق إلى بلاد البربر إلا في تكاذيب مؤرخي اليمن”.
ويضيف ابن خلدون في نقد ما كتبه ابن قتيبة:” وأما ما ذهب إليه ابن قتيبة أنهم ولد جالوت، وأن جالوت من ولد قيس بن عيلان فأبعد عن الصواب”.
بعد هذا النقد تبنى ابن خلدون نسبتهم إلى كنعان، ما يجعل الرغبة في إيجاد نسب يمني خالص للأمازيغ مجرد تهويمات أسطورية.
والغريب أنه إذا كان ابن خلدون قد اهتدى إلى ما في أخبار النسّابين العرب من تلفيق قبل ستة قرون، فإن أستاذ الفلسفة ما زال في القرن الواحد والعشرين يعتمد تلك الأخبار على أنها حقائق، ورواة الأخبار الأسطورية على أنهم مراجع موثوقة.
لكن ابن خلدون سرعان ما يتدارك كل ما قاله في الفقرة التالية البليغة الدلالة، والتي أدعو القراء الأعزاء إلى تأملها: “لم تزل بلاد المغرب إلى طرابلس بل وإلى الاسكندرية عامرة بهذا الجيل ما بين البحر الرومي وبلاد السودان منذ أزمنة لا يُعرف أولها ولا ما قبلها”، وهو كلام واضح يعني بلغة اليوم عراقة العنصر الأمازيغي على أرض شمال إفريقيا منذ “ما لا تعرف بدايته”. فكيف لا أحد يعرف حقيقة هؤلاء السكان في ماضيهم البعيد، ثم يُنسبون بإطلاق إلى اليمن أو الكنعانيين أو غيرهم ؟
وقد انتبه ابن خلدون إلى السبب الذي جعل بعض الأمازيغ يصطنعون لهم أنسابا من الشرق وإن لم تكن صحيحة قائلا: “ولكنهم لما أصابهم الفناء وتلاشت عصابتهم بما حصل لهم من ترف الملك والدول التي تكررت فيهم، قلت جموعهم وفنيت عصابتهم وعشائرهم وأصبحوا خولا للدول وعبيدا للجباية واستنكف كثير من الناس عن النسب فيهم لأجل ذلك” وهذا كلام واضح يفسر حتى تشدّد بعض الأمازيغ المصابين اليوم بلوثة القومية العربية أو الإسلام السياسي، بل ويفسر جذور اصطناع الأمازيغ لشجرات النسب إلى آل البيت بعد أن صار المرينيون الأمازيغ يُخصصون رواتب وأعطيات لمن اعتبروا “شرفاء” ويمتلكون تلك الشجرات الوهمية.
أما ما نسبه السيد حميش لكابرييل كامب Gabriel Camps فهو أيضا لا يخلو من تدليس، ذلك أن كامب في كتابه Les berbères mémoire et identité قد عمد إلى تفنيد الكثير من الأساطير التي تنسب الأمازيغ إلى شعوب أخرى بإطلاق، إذ أن المعروف عن كامب هو تشكيكه في النظريات التي تكثر من الحديث عن الهجرات ودعوته إلى دراسة الآثار المادية للإنسان القديم عوض ترويج الروايات المختلفة، ومن أهم أقواله في هذا الباب قوله “وماذا لو أن البربر لم يأتوا من أي مكان ؟”. وحتى عندما يتحدث عن شواهد تثبت علاقة سكان شمال إفريقيا بهجرات سابقة من الشرق، فهو لا يقرأ تلك الشواهد على أنها أدلة على أصل مطلق كما يفعل التعريبيون. بل هي علامات على وجود تأثير من هجرات قديمة، هذه الهجرات التي كانت من جهات مختلفة.
فحسب Gilles Boetsch و Jean Noel Ferrie في « Le paradigme berbère » الشعوب التي ذكرها المؤرخون على أن الأمازيغ انحدروا منها كثيرة جدا ومنها السريان واليهود والعرب والكوشيون والأريان والفينيقيون والكنعانيون والإيبيريون والوندال والإغريق واللاتين والزنوج دون ذكر السلتيين والغاليين وشعوب شمال أوروبا، لكن اللغز المحيّر الذي يضع كل هذه الفرضيات موضع شك هو كيف تجتمع كل هذه الجنسيات في الأمازيغ دون أن يكون ثمة خيط رفيع رابط يجعل منهم “أمازيغ” بالذات وليسوا غيرهم، وكيف لم تسلب منهم هذه الأقوام كلها خصوصيتهم اللغوية التي لا تنتمي إلى أي من الشعوب المذكورة، فإذا كانت ثمة تشابهات في بعض المكونات المعجمية فإنه رغم ذلك لا يجوز مطلقا اعتبار أن هذه اللغة هي نفسها تلك، أو جاءت منها بإطلاق، لأن في ذلك مجازفة غير مقبولة في البحث العلمي. وهذه هي مشكلة المنظرين القوميين العرب ومنظري الحركات الاستعمارية، كمثل العبارة الخرقاء التي نقلها الأستاذ حميش عن أحد غلاة القومية العربية والتي قال فيها “إنه تكاد لا توجد كلمة بالبربرية إلاّ ولها وجود في لسان العرب”. وهو كلام لا يقوله عاقل.
لقد تحدث القوميون العرب عن النسابين العرب وعن الأصل اليمني والكنعاني وهم لا يعلمون بأن مؤرخين قدامى قبل ظهور العرب على مسرح التاريخ نسبوا الأمازيغ إلى الأصل الفارسي والميدي والهندي والموسيني، ومنهم سالوست Sallust وبروكوبيوس Procopius وسترابون Strabon وبوليبوس Polypus وغيرهم، وذلك تمشيا مع العادة التي ذكرها كامب وأوردناها سابقا والتي تعتبر الغرب نهاية العالم التي يحدّها البحر وأن كل الحضارات قادمة من الشرق. وقد أورد ستيفان كزيل Stephane Gsell في كتابه الشهير “تاريخ شمال إفريقيا القديم” أخبار تلك الأساطير القديمة باعتباره من أكبر العارفين بذلك التاريخ، حتى أن جُل المؤرخين أخذوا عنه واعتمدوه.
إن من يستعرض النظريات الكثيرة جدا لـ”أصول البربر” دون أن ينتبه إلى الخلاصات والتحفظات التي ينتهي إليها الباحثون، سيجد بأن الأمازيغ شعوب قادمة من كل صوب إلا من موطنهم الأصلي الذي عُرفوا به، وهذا يتعارض مع بديهية علمية كونية تقول إن لكل شعب تراب ووطن نشأ فيه، وطور خبراته في التعامل مع محيطه ومع مختلف الأجناس والشعوب المحيطة به أو المجموعات المهاجرة التي تفاعل وتعايش معها مباشرة.
ولقد كان من أفدح عواقب هذه النظرة التي تنسب سكان شمال إفريقيا إلى جهات بعيدة وخليط من الأقوام أن أصبح تاريخنا تاريخ أجانب، وحتى تتضح هذه الفكرة أذكر القراء بالمنهجية التي درسنا بها تاريخ المغرب في المدرسة خلال الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، وهي التالية: “جاء الفينيقيون وجاء الرومان ثم جاء الوندال فالبيزنطيون، ثم جاء العرب،، ثم جاء الاستعمار الفرنسي …”، بل أكثر من ذلك يروي الأستاذ محمد شفيق دائما عن أول كتاب مدرسي لتاريخ المغرب بعد الاستقلال كان مفتتحه درس يحمل عنوان “جزيرة العرب” ( !؟) متسائلا هل يجوز التأريخ لبلد ما انطلاقا من جغرافيا أخرى بعيدة عنه ؟
السؤال الذي نطرحه بعد هذه الجولة في الأصول الأسطورية المختلفة هو: ما هي الخلاصة العلمية التي يمكن أن نخرج بها من الأخبار المتضاربة للهجرات والتبادلات الحضارية التي درسها الدارسون وتحدث عنها المؤرخون ؟
في الواقع لن نجد أفضل من هذه الفقرات التي صيغت بتحفظ علمي رصين، بعيد عن الرغبة في إشباع الجموح الإيديولوجي لهذا الطرف أو ذلك، كما أنها فقرات تستجيب بأمانة للقرائن العلمية المختلفة التي يسوقها الدارسون المعاصرون، ويؤكدها التحليل المختبري الدقيق.
يقدم النص التالي نموذجا للنظرة العلمية المتوازنة والمحايدة في هذا الموضوع: “إن الفينيقيين والرومان والعرب على الخصوص أغنوا كثيرا دون أدنى ريب القاعدة الحضارية لشعوب إفريقيا الشمالية، إلا أن هذا الإسهام لم يكن على ما يبدو كثيفا من الناحية السُلالية، إذ تم التهامه بسرعة حيث أن ظاهرة الاستيعاب تقع في هذا البلد على مستويين اثنين كلما سنحت لها فرصة التكون:
ـ فعلى المستوى السُلالي يؤول مصير المهاجرين الذين يمثلون الأقلية إلى الذوبان في الكيان الأصلي السائد والمهيمن.
ـ وعلى المستوى الحضاري فإن الأمر يختلف إذ تصل المساهمة الجديدة الأكثر فعالية والأشد طاقة إلى فرض نفسها دون أن تستطيع طمس المعالم القديمة، وإن أولائك الذين كانوا يعتبرون أنفسهم كنعانيين وقرطاجيين أو رومانيين، كما هو الشأن بالنسبة للذين يعتبرون أنفسهم اليوم عربا، يساهمون جميعا في هذه البنية الليبية الإفريقية أو البربرية، التي كان التاريخ قد وجدها مكتملة التكوين في إفريقيا الشمالية الممتدة من خليج سرت إلى المحيط الأطلسي” (مصطفى أوعشي، أصل أهالي شمال إفريقيا، عن موسوعة مذكرات من التراث المغربي ص 103).
ويقول المؤرخ شارل أندري جوليان Charles André Julien في كتابه “تاريخ إفريقيا الشمالية ” des origines à 1930 Histoire de l’Afrique du nord ، في هذا النص الذي هو أفضل جواب ربما على الأستاذ حميش والقوميين العرب:”لا شك أنه منذ أوائل عصور التاريخ استقرت ببلاد المغرب شعوب مختلفة شديد الاختلاف، وإذا نحن استثنينا الشعوب التي لم تمتزج بصفة عامة بالسكان الأصليين أو المندمجين، مثل الأوروبيين الذين استقروا منذ ما يقرب من قرن، أو اليهود الذين أتوا في دفعات متتالية منذ العصور القديمة، فإننا نلاحظ استيطان الساميين (الفينيقيين والعرب) والهنديين الأوروبيين (اللاتين والوندال واليونان) والأتراك والزنوج، غير أن هذه العناصر المختلفة، وإن هي امتزجت بالسكان المستقرين، فقد أتت في عدد ضئيل جدا بحيث تعذر عليها تغيير المقومات الجنسية بإفريقيا الشمالية، فالوندال كانوا ثمانين ألف، وكذلك العرب المستوطنون فعددهم لم يكن كبيرا جدا”.
ويضيف جوليان بتعبير أوضح قائلا:”وفي الجملة لا نرى أن واحدا منها (أي من تلك الأجناس) أمكن أن يكون له مفعول قوي فيما يخصّ واقع البلاد الجنسي”.
وينتهي الباحث المؤرخ إلى الخلاصة التالية:”هذه الملاحظات تدعونا إلى التفكير في أن السكان الذين يعمّرون بلاد البربر ـ مع اعتبار بعض عمليات التوليد ـ هم أنفسهم الذين كانوا يعمرونها في أوائل عصور التاريخ”.
ولا يعرف هذا المؤرخ الفرنسي الذي يرقد الآن في قبره، والذي كتب ما كتبه قبل 90 سنة من اليوم، بأن التحليلات الجينية والمختبرية للحمض النووي والشريط الوراثي قد أثبتت في القرن الواحد والعشرين، بما لا يدع مجالا للشك، وبدقة عجيبة، ما ذهب إليه. فقد أكدت نتائج الدراسة المنشورة في دورية “كرنت بايولوجي” في الخامس من نوفمبر2019 بأن الهجرات نحو شمال إفريقيا من مناطق أخرى مثل أوروبا والشرق الأوسط وأفريقيا جنوب الصحراء لم تمحُ أبدا الآثار الجينية لشعوب شمال أفريقيا القديمة.
وجاء في كتاب تاريخ المغرب Histoire du Maroc لهنري تيراس Henri Terrasse:”إن البيربير Les berbères الذين كانوا يقيمون في المغرب في بداية العصور التاريخية والذين يشكلون اليوم أساس سكانه، يمثلون وحدة ثلاثية في السلالة واللغة والحضارة”. وهو هنا لا ينفي الهجرات المختلفة بل يتحدث بعمق عن تلك التوليفة الحضارية التي تتحدث عنها النصوص أعلاه، والتي نتجت عن استيعاب السكان الأصليين للوافدين عليهم.
ويقول ج سيليرييه Jean Célérier الذي أتيح له أن يدرس بعمق البنيات السوسيوـ ثقافية للسكان الأمازيغ في علاقتها بالتأثيرات الجغرافية:”بوساطة اللغة والمؤسسات الاجتماعية يمثل العالم البيربيري Le monde berbère وحدة حقيقية وروحية لكن من الناحية المادية تنقطع هذه الوحدة ويحُل محلها الصراع القبلي واختلاف المصالح المادية”.
وقد كتب شارل أندري جوليان في كتابه المشار إليه:” إن مؤرخ العصور القديمة يقيم بناءه الضعيف على أرض لا استقرار لها، مثله في ذلك كمثل منازل اليابان يهدّدها الزلزال دائما”. فما يعتبره البعض حقائق ثابتة ونهائية هو مجرد فرضيات تهتز عند كل اكتشاف جديد، ولعل أهم ما نتعلمه من عصرنا هذا هو ميزة “اللايقين” التي بفضلها تطورت المعارف الإنسانية بشكل سريع، لتصبح أكثر دقة.
يتضح مما سلف ذكره أن مكمن العطب في الأطروحات التعميمية للأصل الشرقي أو الأوروبي للأمازيغ، إنما يكمن في طابعها المجازف الذي يرمي إلى جعل عموم السكان من أصل واحد في تجاهل تام للعناصر الأخرى المختلفة. لكنها في الحقيقة مشكلة الشعوب التي لم تكتب تاريخها، وكتبها بدلا عنها الآخرون وفق مصالحهم وأهدافهم، وهي ليست مشكلة الأمازيغ وحدهم بالتأكيد. لكن النظر الثاقب والنزيه سوف يلمس بلا شك بأن البقعة الجغرافية التي انتمى إليها الأمازيغ عبر تاريخهم قد سميت في المصادر العربية نفسها باسمهم “بلاد البربر”، كما سُمي موطن العرب بـ”جزيرة العرب” وسمي موطن الشعب الصيني بالصين. وهذا معناه أن ثمة عملية تكثيف حضاري هام حدث عبر القرون الطويلة وانتهى إلى صناعة هذا الكيان الذي نسميه اليوم “أمازيغ”، كما أشارت النصوص أعلاه.
من جانب آخر فهذه الآراء التي تنسبنا إلى جميع الأقوام القديمة تجعلنا في النهاية “هبة للكونية”، فهل يفسر هذا سبب انفتاحنا على كل الثقافات واللغات والحضارات عبر العصور؟
إن ما أشار إليه الباحثون من وجود هجرات بشرية هو أمر علمي لا شك فيه، ولكنهم تحدثوا عن هجرات من مختلف الاتجاهات، كما أنهم لم يقولوا أبدا إنه لا وجود لبشر في أرض شمال إفريقيا إلى أن جاء أناس من الشرق فعمّروها، والخلاصة التي يمكن أن ينتهي إليها من قام بمقارنة مختلف النظريات في هذا الموضوع، أن شمال إفريقيا كان مسرحا لهجرات سواء من شمال المتوسط وشبه الجزيرة الإيبيرية أو من الشرق الكنعاني واليمني أو من أواسط إفريقيا السوداء جنوب الصحراء، لكن هذه الهجرات لم تحدث في اتجاه “أرض خلاء” بل للتمازج مع تركيبة سكانية أصلية عريضة وكثيفة ، وبنيات ثقافية موجودة في هذه البقعة من الأرض، ولأن الكثافة السكانية الأصلية تنتهي دائما إلى تذويب القادمين، فقد كان لهذا انعكاس سواء على المستوى السلالي أو الحضاري.
بين التمازج والعرق الخالص
ليس هناك من تضرّر من هذا النبش في الأصول البعيدة ونسبة تاريخنا إلى الأجانب أكثر من الأمازيغ والأمازيغية، فإذا كان التمازج بين البشر حقيقة تثبتها اليوم الحفريات الأركيولوجية ومختبرات البحث الجيني بشكل لا يبعث على الريبة والشك، إلا أن المشكل يظلّ في قراءة هذا التاريخ وتأويله، فهناك من يعتبر أن التمازج والتصاهر يعني تذويب الكل في بوتقة “العروبة الخالصة” وجعلهم عربا أقحاحا، فعندما كنا نقول قبل عقود إن للأمازيغية حقها في المؤسسات والمال العام لأننا مواطنون دافعو ضرائب، كان يقال لنا “كفى من العنصرية ! لا توجد أمازيغية عرقية خالصة لأننا “تمازجنا”، وكأن تعليم الأمازيغية في المدارس واستعمالها في التلفزيون والمحاكم كان يحتاج إلى إثبات أصل خالص، وعندما كنا نقول إنه لا يوجد “عرق خالص” وأنّ تمازُجنا لا يحرمنا من حقوقنا اللغوية والثقافية الأساسية، كانوا يجيبون “ما دُمنا قد تمازجنا فالعربية تجمعنا”، وهكذا يعيدوننا إلى “الثقافة الخالصة”، حتى أضعنا الكثير من الوقت في نقاش عبثي مع من لم يكن تهمه الحقيقة العلمية أصلا، ما دام الهدف هو المراوغة وتبرير سياسة الاستيعاب.
وكان بعض الظرفاء من الرياضيين يقولون إن معادلة العروبة الخالصة هي على الشكل التالي: أ + ع = ع ، و ع + أ = ع، فالنتيجة هي نفسها. بينما الحقيقة أن أ + ع ينبغي أن تعطي تركيبا لهما معا، وينبغي لهذا التركيب أن يتمظهر في المقررات والبرامج الدراسية وفي وسائل الإعلام وأن يتربّى عليه المواطنون ويتشبعوا به باعتباره هويتهم الوطنية الجامعة.
وعلى ذكر العرقية لنتأمل هذا النص لنفهم مقدار التخبط الفكري الذي عكسته مثل هذه الأطروحات المحض إيديولوجية، وهو نص كتبه الراحل عبد الكريم غلاب بعنوان “عروبة هذا المغرب” ونشره في مجلة خليجية :يقول النص “إن بلاد المغرب تنتمي إلى العروبة عن طريق السلالة، فقد هاجرت إلى المغرب قبل الميلاد مجموعات من القبائل العربية اليمنية والكنعانية والفينيقية، ومع هؤلاء كثير من أهل الشام، وإذا عدنا إلى النسابين العرب، نجد أن بعضهم يؤكد أن البربر من السلالة الحامية، وبعضهم يؤكد أنهم ساميون، وبعض الباحثين يؤكد أن أصلهم من اليمن، بينما يؤكد آخرون أنهم من فلسطين” (مجلة الدوحة فبراير 1977).
كُتب هذا النص ذو التوجه العرقي الواضح أيام كان النزوع القومي العربي في قمة غليانه وفورته الإيديولوجية، لكن السيد عبد الكريم غلاب صاحب النص نفسه كتب بعد 12 سنة فقط، عكس ما قاله في النص أعلاه، وهو يُعقب على كتاب أصدره الأستاذ محمد شفيق بعنوان “لمحة عن ثلاثة وثلاثين قرنا من تاريخ الأمازيغيين” سنة 1989 مؤاخذا إياه على “نزعته العرقية” التي وجدها في قوله إن الأمازيغ هم أبناء شمال إفريقيا. حيث قال الراحل في عموده بجريدة “العلم بتاريخ الأربعاء 1 نونبر 1989:”أيجوز في عصرنا هذا أن نفكر عرقيا لنبني على أساس هذا التفكير وحدات لغوية عرقية بعد أن أزال الإسلام هذا التفكير من أذهاننا بالقرآن ؟”. والسؤال الذي طرحناه آنذاك هو أين كان إسلام الأستاذ غلاب عندما كتب في مجلة الدولة الخليجية قبل 12 سنة بأن الأمازيغ عربٌ بالعرق والسلالة ؟ وأن المغاربة ينتمون جميعا إلى عرق واحد خالص هو العروبة ؟ فأن تعتبر المغاربة عربا بالعرق موقف وطني شريف، بينما أن تعتبر أنهم أبناء موطنهم شمال إفريقيا نزعة عرقية .
لكن للتاريخ ومن باب الإنصاف أن نشير إلى أن الراحل عبد الكريم غلاب قد صحّح كليا موقفه ذاك بالدعوة في كتابه “اللغة والفكر” إلى تدريس اللغة الأمازيغية في المدرسة المغربية، وأكد على ذلك في الندوة العلمية التي نظمها اتحاد كتاب المغرب سنة 1992 بالرباط حول “الكتابة بالأمازيغية”.
أما الحركة الأمازيغية فلم تهتم في الحقيقة بموضوع أصول السكان لأنها كانت من الذكاء بحيث تجنبت النقاش العرقي نحو خطاب أقوى وأكثر راهنية، وهو خطاب “الحقوق الثقافية واللغوية”، وأعطت الموضوع طابعا علميا بالتركيز على البحوث الجامعية والتآليف وعقد الندوات الفكرية والقيام بالحملات الإعلامية والاتصال المباشر بالمسؤولين وبالنخب الحزبية والترافع الحقوقي وطنيا ودوليا والدعوة إلى إعادة قراءة تاريخ المغرب بنظرة متوازنة، مبتعدة عن أساطير الأعراق والأصول الخالصة، ولهذا نجحت في جعل الأمازيغية مسؤولية وطنية، وفي انتزاع الاعتراف السياسي والدستوري، دون أن تثير الشنآن أو تهدّد السلم الاجتماعي.
كيف نواجه التهديدات الخارجية
تحدث الأستاذ حميش عن المقومات الوطنية التي مكنت المغرب من مواجهة الأخطار والهزات التاريخية القوية والمتنوعة، والتي منها ” الغزو الأيبيري لساحليه الأطلسي والمتوسطي طوال القرنين 15 و16 م، ومنها التهديد العثماني على حدوده الشرقية، هذا فضلا عن حلقات صدمة الحماية والاستعمار الفرنسيين”، لكنه لم ينتبه إلى أن الأخطار التي تحدث عنها توجد اليوم في ذمة الماضي، رغم كل الآثار التي ما زالت تلقي بظلالها علينا حتى اللحظة الراهنة، وأن الأخطار الجديدة التي تواجهنا اليوم أشدّ تهديدا وأشرس بسبب التحافها برداء الدين والمعتقد، مما أدى إلى شرعنة الكثير من آثارها المدمّرة للشخصية المغربية ولمقومات التلاحم الوطني، أقصد هنا تحديدا إيديولوجيتين دينيتين أجنبيتين فتاكتين بكل ما هو وطني، “الوهابية السعودية ـ الباكستانية ـ الأفغانية” و”الإخوانية المصرية ـ القطرية”، اللتين أصابتا بلوثتهما بعض مواطنينا وكادتا أن تعصفا بمقومات الأسرة المغربية والتدين المغربي السّمح، وجعلتا من النظام التربوي المغربي مشتلا للغلو الذي يعوق كل تنمية ، كما يضادّ قيم المواطنة والبناء.
إن مواجهة الأخطار الخارجية لا يكون بنظرية المؤامرة واستعداء المواطنين والأطراف السياسية والثقافية ، بل بترتيب البيت الداخلي عن طريق تحقيق الاعتراف المتبادل وتقوية أسُس العيش المشترك عبر التربية على الحق في الاختلاف واحترام التنوع وتفعيل مكتسبات الدستور التي ما زالت حبرا على رق.
بصدد “أسلم تسلم” وقضايا أخرى
ومن أخطاء الأستاذ أنه تناول قضايا لا يعرف سياقها ولا حقيقة مواقفي منها، بل اتبع فيها ما قاله الخصوم مما صادف هوى في نفسه، ومن ذلك حديثه عن رسالة “أسلم تسلم” واتهامي للرسول بالإرهاب، والحقيقة أنني أربأ بالأستاذ حميش أن يتناول الموضوع بنفس فكر البداوة الذي تناوله به مجانين السلفية، فأستاذ الفلسفة القريب من عالم العلوم الإنسانية والذي كان وزيرا للثقافة سيعلم بلا شك بأن هذه الرسالة “منسوبة” إلى الرسول وغير موجودة كوثيقة تاريخية، إلا إذا كان الأستاذ حميش يعرف المتحف الذي تقبع فيه بعد تحليلها بالكاربون 14 والتدقيق في خطها ورموزها من طرف أهل الاختصاص، وهذا كله غير موجود على الإطلاق، فقبل العملة النقدية لعبد الله بن الزبير التي ضُربت في بلاد فارس، والتي تعود إلى العصر الأموي، لا يوجد أي أثر مادي لعصر النبوة والخلفاء الأوائل، بما في ذلك القرآن نفسه الذي تقول المصادر إن الخليفة الثالث عثمان قد أمر بجمعه، والذي لا أثر له اليوم، إذ أن أقدم نسخة للقرآن (نسخة صنعاء) تعود إلى ما بعد عصر الخلفاء بعقود طويلة. ولهذا لم يقل أحد من علماء المخطوطات وأهل الاختصاص إن النبي قد ترك أية رسالة من رسائله، ومن تمّ فرسالة “أسلم تسلم” من الأخبار التي تم تلفيقها بعد العصر النبوي بأزيد من 150 سنة، وإذا كان العرب قد بعثروا كل أثر لهم بسبب عدم اهتمامهم بالتوثيق والكتابة، فإنه بالمقابل لا يوجد أي أثر لهذه الرسالة في أرشيف الدول التي زعمت رواية الفقهاء أن النبي قد قام ببعث رسائله إليها. مع العلم أن هذه الدول قد احتفظت في أرشيفها بوثائق تعود إلى ما قبل الإسلام بقرون.
هذه الرسالة إذن شبيهة بأحاديث البخاري الذي أتحفنا بأخبار من نوع “جئتكم بالذبح” و”نُصرت بالرعب” و”أمرت أن أقاتل الناس” و”لا يفلح قوم ولوا على أمرهم امرأة” وغيرها كثير، والتي جمعها الرجل بعد 220 سنة من وفاة الرسول، والتي ساهمت بشكل كبير في تشويه صورة النبي وصورة الإسلام في عصرنا.
من جانب آخر لم ينتبه الكثيرون إلى أن نقاشي حول الرسالة المنسوبة إلى النبي هو نقاش بيداغوجي تربوي وليس دينيا، لأن الأمر يتعلق بكتاب مدرسي مُوجّه للأطفال، حيث لا يجوز أبدا تدريس مضامين غير تربوية تتضمن عنفا أو تحريضا على الكراهية، ولست أدري إن كان الأستاذ حميش قد تابع ما حدث بعد حملة السلفيين ضدّي، وسأذكره لعل الذكرى تنفعه في فهم ما يكتب ويقول، فبعد حكاية رسالة “أسلم تسلم” دعوت إلى مراجعة تفسير الفاتحة الذي يُدرس للأطفال والذي يقول إن “المغضوب عليهم” هم اليهود و”الضالين” هم النصارى ، وتعرضت لنفس الحملة ، وشاءت الصدف الجميلة أن يقوم الملك محمد السادس بإلقاء خطاب في فبراير من سنة 2016 دعا فيه إلى مراجعة كتب التربية الإسلامية لما تتضمنه من عنف وإرهاب، وكلف بذلك لجنة ملكية قامت بحذف الكثير من المضامين منها الرسالة المعلومة وكذا التفسير المذكور للفاتحة. ولم أسمع صوتا للذين تسابقوا على الشتم والسبّ والتحريض قبل ذلك، ولا ظهر لهم ذكر. فهل يعلم الأستاذ أن الموضوع الذي يتحدث فيه قد قامت الدولة بتسويته على أحسن وجه ؟
ولست أدري إن كان الأستاذ حميش يقوم بدراسة المقررات الدراسية للابتدائي والإعدادي ليعرف ما تُعلمه المدرسة المغربية لأبنائنا، أم لأنه كان قد سجل أبناءه في البعثة الأجنبية لا يهمّه ما يؤرقنا ولا مصير أبناء الشعب المغربي. لكن فيما يخصني أقوم كل خمس سنوات بهذا التمحيص النقدي بغرض معرفة مقدار التطور الذي يحصل في مجال قيم المنظومة التربوية. بل إنني سبق لي أن عقدت ندوات صحفية لإبلاغ نتائج عملي للرأي العام ولوزارة التربية الوطنية بهذا الشأن. وقد نبهت في شتنبر 2019 إلى وجود درس جديد في مقرر التربية الإسلامية موجه للأطفال، يتحدث عن طرد يهود “بني النضير” من ديارهم وتخريب بيوتهم وقطع أشجارهم ونخيلهم، وللأستاذ أن يحكم على “القيمة البيداغوجية” و”الأهداف التربوية” لنص من هذا النوع.
غزوات الأمويين، الغنيمة، الجنس والمال
أنكر علينا الأستاذ حميش أن نعتبر أن غزوات العرب الأمويين لشمال إفريقيا كانت بغرض الغنائم والجواري والأموال، شخصيا لا أحبّ العودة إلى هذه المواضيع التي نشرنا فيها الكثير وقلنا الكثير، كما لم يُفهم هدفنا منها من طرف المحافظين، والذي هو نزع القداسة عن شخصيات تاريخية غير مُقدسة، وعن مرحلة كتب عنها القدامى بشكل موضوعي وقرأها المعاصرون لنا قراءة أسطورية عاطفية لا تثبت أمام النقد التاريخي، ولعل النصوص الغزيرة التي خلفها لنا المؤرخون المسلمون القدامى كفيلة بإظهار ما نقول، فقد رسم هؤلاء صورا كالحة لقادة عسكريين أمثال عمرو بن العاص ومعاوية بن حديج وزهير بن قيس البلوي وعقبة بن نافع وحسان بن النعمان وابن الحبحاب وابن عبد الله المرادي وموسى بن نصير الذي بلغ به حبّ المال والغنائم أن سجن طارق بن زياد وعذبه متهما إياه بإخفاء الأموال، ولأن المجال لا يتسع ها هنا لإيراد جميع النصوص المتوفرة، أترك أستاذنا وجها لوجه مع واحد من أكثر النصوص إفصاحا عن حقيقة الغزو الأموي، وهو ما رواه ابن عذاري في كتابه “البيان المُغرب في أخبار الأندلس والمغرب”، حيث يذكر أنهم “خمّسوا” الأهالي، أي اعتبروهم ضمن الغنائم التي يتم تقسيمها إلى خمسة أقسام، وهذا رغم إسلامهم، يقول المؤرخ المذكور عن عُبيد الله ابن الحبحاب الذي تولّى سنة 734 : “وأساء السيرة، وتعدى في الصدقات والعشر، وأراد تخميس البربر، وزعم أنهم فيء المسلمين. وذلك ما لم يرتكبه عامل قبله. وإنما كان الولاة يخمسون من لم يجب للإسلام. فكان فعله الذميم هذا سبباً لنقض البلاد ووقوع الفتن العظيمة المؤدية إلى كثير القتل في العباد. نعوذ بالله من الظلم الذي هو وبال على أهله”.
وحقيقة هذا الفعل الشنيع أن خليفة العرب الأمويين في الشرق كان قد عزل الوالي السابق لما رفض أن يبعث له نفس عدد الرقيق والغنائم التي كانت تصل إلى الخليفة السابق عليه، حيث أجابه الوالي بأن البربر أسلموا ولم يعد يمكن استرقاقهم، فعزله وعين مكانه من عُرف بغلظته وبطشه وعنصريته ضدّ غير العرب، فكانت ثورة الأمازيغ الذين تحولوا إلى المذهب الخارجي، المعادي للأمويين، الثورة التي أنهت حكم العرب في شمال إفريقيا إلى الأبد، وأسست لاستقلال المغرب عن المشرق سياسيا، وفتحت الباب أمام تأسيس الأمازيغ لممالكهم وأمبراطورياتهم الكبرى في إطار الإسلام نفسه. أما الذي قاد هذه الثورة المظفرة فقد لقبه العرب بـ”ميسرة الحقير”، كما لقبوا من قبل زعيما آخر بـ”كسيلة اللعين”، لأنه رفض عنصرية عقبة وبغيه وتطاوله عليه وهو زعيم في قومه، ما جعله يخطط لقتله وإبادة جنده معه.
أما عن العوامل التي جعلت غزوات الأمويين لشمال إفريقيا غزوات غنيمة واسترقاق وجنس ومال فموجودة في الجزء الثالث من “نقد العقل العربي” بتفصيل، والذي عنونه الدكتور الجابري بـ”نقد العقل السياسي العربي”، ويمكن للأستاذ الإطلالة عليه لما فيه من فائدة في هذا الباب، كما يمكنه الاطلاع على الصورة القبيحة لولاة العرب بشمال إفريقيا في كتاب “البربر عرب قدامى” للسيد محمد العرباوي نفسه. هذا إن كان الأستاذ لا يطيق ما ورد في أمهات الكتب القديمة، وكان يطمئن أكثر إلى مؤلفات القوميين العرب.
معنى الدولة الفدرالية
تناول الأستاذ موقفي من الدعوة إلى الدولة الفدرالية كما لو أن ذلك شُبهة أو جريمة، بينما هذا موقف جزء من اليسار المغربي بجانب الحركة الأمازيغية والعديد من الشخصيات الوطنية، وله مسوغ في اختيارات الدولة المغربية نفسها كاقتراح الحكم الذاتي في الصحراء وإعلان الجهوية الموسعة والمتقدمة، فهل يعتقد الأستاذ بأن إقرار الحكم الذاتي في أقاليمنا الجنوبية سيظل مجرد حلّ محدود مشروط بقضية الصحراء ؟ الحقيقة أن ذلك لن يكون إلا بداية مسلسل تطوري نحو نموذج دولة أرقى من النموذج المتمركز، لحصول المناطق الأخرى على وضع الحكم الذاتي في ظل الوحدة المغربية الجامعة، فما دامت الدولة الوطنية المركزية عاجزة عن إنجاح مشاريع التنمية والتوزيع العادل للثروة وتطبيق الجهوية الفعلية والحدّ من الهجرة في اتجاه المدن الكبرى، فلن يكون التجاوز إلا بالانتقال من النموذج التقليدي إلى نموذج أكثر مرونة وانفتاحا كدولة الجهات ثم الفدرالية. ولا علاقة لهذا الأمر ب”التفكيك والبعثرة” اللذين يخشاهما الأستاذ، إذ من أعظم النماذج الناجحة في العالم نماذج الدول الفدرالية. كما أن الخطر الحقيقي هو في البقاء على وضعية مؤذنة بالانفجار بسبب التردّي العام وسوء الحكامة وقوة السلطوية الجامحة وضعف الثقة في المؤسسات.
كلمة شكر
أشكر الأستاذ حميش الذي أتاح لي أن أكتب ما كتبت، والذي بلا شك سيفيد قراء كثيرين، وسوف لن أردّ ثانية على أي مقال أو تصريح لأستاذنا، لكن حبل الودّ لن ينقطع، ففي حالة ما إذا احتاج الأستاذ المحترم لمراجع أو وثائق أو دراسات أو تقارير رسمية وغير رسمية حول مسلسل مأسسة الأمازيغية، أو إلى الجلوس مع أهل الاختصاص لمساءلتهم عن أمور يريد تدقيقها، أو أراد تعلم اللغة الأمازيغية حتى يُميزها عن لغات أخرى، فسنكون رهن إشارته. أما توعّده بكتابة مقالات “يُفحمنا” بها ويقضي علينا قضاء مُبرما، فرغم أنه سيُسعدنا أن نحظى باهتمام وزير ثقافة سابق صار متخصصا في هجائنا، فإننا نشفق عليه من التعب والإنهاك الذي لا طائل من ورائه، لكن يمكنه دائما المحاولة إن كان يشعر في ذلك بمتعة ما، دون أن ينسى أن “المُفحم” الأكبر هو التاريخ. أما جيل دولوز فقد كتب يوما: “إن الكتابة من أجل التحطيم والدحض هي أحط أنواع الكتابة”.
حاشية
إذا ظل في نفس الأستاذ حميش شيء من حتى، وكان بحاجة إلى تفريغ نفسي، أدعوه إلى مناظرة مُصورة، حتى يتمكن من “إفحامي” بشكل ماحق لا يُبقي ولا يذر، وحتى يستفيد جمهور أوسع من علمه وحكمته، وله أن يختار القناة التي يريد، حتى يطمئن قلبه.
اكتشاف المزيد من azulpress.ma
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
التعليقات مغلقة.