عزالدين عناية : الاختزال الأيديولوجي للإسلام قد مثّل ضربة قاصمة لرحابة الدين الحنيف (حوار)
أزول بريس – توصلنا بنسخة من هذا الحوار من الدكتور عزالدين عناية، هو حوار معه حول “الأوضاع الدينية العربية”،حاورته حنان عقيل لجريدة الدستور- المصرية، نعيد نشره تعميما للفائدة
الحوار :
الإسلاميون على غرار غيرهم من التيارات السياسية العربية لديهم رصيد هائل من العواطف الهوجاء تجاه فلسطين وإسرائيل
في كتابك “العقل الإسلامي.. عوائق التحرر وتحديات الانبعاث” قلت إن “تيارات الإسلام السياسي هي الكارثة الصامتة التي هزّت وعي الفرد في العالم العربي”، ودعوت إلى فحص آثارها على الواقع العربي.. في ظل ما آلت إليه الأوضاع العربية جراء تصدر تلك التيارات.. هل يمكن القول بأن ثمة وعيًا مُدرِكا لإشكالات تلك التيارات قد نما في العالم العربي بما يؤذن بتجاوز أطروحاتها ومجافاتها؟
يعود ارتهان التصورات الدينية لدى العرب، في الحقبة المعاصرة، لباراديغم الإسلام السياسي، إلى وهن الطروحات النقدية في الفكر الديني. وسيظلّ هذا الارتهان ما ظلّ الفكر النقدي والتفكير العقلاني واهنين في الساحة الثقافية العربية. والحال أنّ الاختزال الأيديولوجي للإسلام قد مثّل ضربة قاصمة لرحابة الدين الحنيف. ولذلك يبقى الإسلام الحضاري بأبعاده الشاملة هو الردّ الواعي على محاولات الاختزال. فمعضلتنا الدينية الكبرى في البلاد العربية أن الإسلام السياسي الذي يناهز حضوره في أوساط المجتمعات القرن قد جرّب كل تجارب التغيير (الانتفاضات، الانقلابات، الاغتيالات، اغتنام السلطة واحتكار تسييرها، صناديق الاقتراع، التحالفات، الوفاقات) إلا تجربة الرهان على التغيير الفكري والروحي البعيد الغور. وحين نقول الفكري والروحي نقصد التعويل على مرجعية تراهن على الطروحات المعرفية القادرة على إحداث نقلة نوعية في عمق المجتمعات بعيدا عن التجييش والتحشيد الخاويين.
فما من شك أنّ ثمة عوامل موضوعية بدأت تفعل فعلها في المجتمعات العربية، بما يؤذن بتجاوز أطروحات الإسلام السياسي، وتتمثّل تحديدا في الإدراك الجمعي أن عملية النهوض أكبر من قدرات الإسلام السياسي، لأن كل عملية نهوض -وببساطة- تقوم على مخطط عقلاني وعلى مسار واقعي وعلى استراتيجيا مقاصدية، وهذا دونه خرطُ القتاد -كما نقول- إذا ما عوّلنا على الإسلام السياسي.
في هذا الصدد، ما توقعاتك لمستقبل الإسلام السياسي في العالم العربي انطلاقًا مما حدث خلال السنوات العشر الأخيرة؟
طَبعت البلاد العربية مع الإسلام السياسي حالة صراع دورية، امتدّت على مدى عقود، هُدرت فيها طاقات جبارة وأُتلفت فيها جهود هائلة وقد طالت جل البلدان تقريبا. يشبه العود المتكرّر للسقوط في دائرة الصراعات مع الإسلام السياسي العود الأبدي الذي يتحدث عنه كلود ليفي ستروس. وقد كان بالإمكان تلافي تلك الانشقاقات الاجتماعية لو تسنى شيء من النقد الذاتي لدى الأطراف المتصارعة.
وقد تسنّى في العشرية المنقضية، بعد طول صراع، وضْع تجربة الإسلام السياسي في تونس والمغرب على المحك. خاض فيها تجربة مخبرية، عبر المشاركة في اللعبة السياسية، وهي ذات دلالات عميقة ليس في البلاد المغاربية فحسب بل في بلاد العرب بأسرها. حيث أدركت الأطراف السياسية على اختلاف توجهاتها الأيديولوجية في ذينك البلدين عبثية النفي المتبادَل، والعيش في مناخ مأزوم محكوم بالغلبة والاحتدام الدائمين، إلى محاولة إيجاد حد أدنى لأرضية مشتركة تضع نصب عينيها المصلحة الوطنية وتقدّر الحاجة الماسة إلى السلم الاجتماعية لغرض التوجه للتنمية والنهوض الاجتماعي. استطاع فيها الإسلام السياسي أن يتطهّر من عديد المساوئ، إن لم نقل الأوهام والأحلام، في النظر للحياة السياسية وللأطراف الشريكة في العملية السياسية ولمفهوم التغيير الاجتماعي برمّته. وليس من الهين بلوغ تلك المعادلة، لأن الأمر يتطلّب تنازلات من جميع الأطراف للنجاة بأوطاننا من التفتت في ظرف عصيب تمرّ به البلاد العربية.
إذ بَيّن حصاد السنوات العشر الماضية التي شارك فيها الإسلام السياسي في اللعبة السياسية، في بلدان مختلفة وبأشكال متنوعة، أن الإسلام السياسي على مثال غيره من التوجهات هو نتاج بنية مهترئة، وأنه لا يتميز كثيرا عن غيره من طروحات التغيير السياسي. الأمر الذي جعل جملةً من المتابِعين الغربيّين لظاهرة الإسلام السياسي يتقاسَمون توصيفه “بالقلق البنيويّ” (Stress strutturali) في حديثهم عن الظاهرة. وما جعل الشارع يستفيق على خفوت بريق الإسلام السياسي وعلى تراجع آمال التغيير الملقاة على عاتقه. فهو تجربة سياسية عرضة للنجاح والفشل مثل سائر التجارب، العلمانية والقومية والاشتراكية. وربما السنوات القادمة ستثبت بشكل أوضح انتهاء طهرانية الإسلام السياسي، ودخول المجتمعات العربية حقبة نزع القداسة ونزع الأسطرة عنه.
هل يمكن القول إن الخطاب الديني السائد حاليًا يستند إلى أيديولوجيا الإسلام السياسي بدرجة ما؟ وكيف يمكن تصحيح مساره؟
نفتقر في البلاد العربية إلى أرضية معرفية عميقة للفكر الديني، تستند إلى الطروحات العلمية والمعرفية المتأتية من حقل العلوم الإنسانية والاجتماعية. ولذلك غالبا ما نغرق في الجدل الأيديولوجي بشأن الدين وفي منظور لاهوتي أثناء التعامل معه. وسرعان ما يقع الخطاب لدينا في براثن التأدلج والتوظيف والتلاعب من سائر الأطراف الساعية لاحتكار الرأسمال القداسي. إذ لا يزال الفكر الديني -في مجمله- في بلاد العرب مرتهنا للنظر الكلاسيكي، وهو ما يقلّص من قدراته. إذ تبدو القطيعة التي يعانيها الفكر الديني العربي مع نداءات التجدد الداخلي جلية وواضحة. كان لفيف من المفكرين المسلمين والعرب قد تطرّقوا للأمر، على مدى القرن الفائت، بحزم وعمق، سواء مع محمد إقبال، أو مع علي شريعتي، أو مع مالك بن نبي، أو مع حسن حنفي، أو مع احميدة النيفر وغيرهم، ولكن الآثار لا تزال ضئيلة ودون ما هو مأمول. فما من شك أن خطورة الأدْلَجة حين تتحكّم بالخطاب الديني، أن تطبع العالم بثنائية مانَوية مؤثرة، نحن وهم، حقّ وباطل، صواب وضلال، والحال أن ساحة الفكر وتعقّدات الواقع هما أوسع من تلك الثنائيات وأشمل.
قلت إن تحرير العقل الإسلامي من الغيبية والأسطورية والعاطفية شرط أساسي لتطوير العقلانية الإسلامية.. لِم عجز العقل الإسلامي على مدار قرون عن التخلص من ذلك المثلث رغم الأطروحات الفكرية الجادة في هذا الصدد؟
ليس ثالوث الغيبية والأسطورية والعاطفية المتربص بالعقل الإسلامي بالشيء الهين، فهي مكونات متجذرة بقوة في تمثّل الدارس المؤمن للدين ووعيه بالعالم، وكما يتشبع المرء بها من خلال درس العلوم الشرعية يستبطنها أيضا من خلال الرؤية المؤسطَرة عن الكون. نحن أمام حاجة ملحة إلى إقامة ورشات للنقد الديني للتخلص من براثن اللامعقول المستحكم بالعقل الإسلامي، وهو ما يمكن بلوغه سوى بإعادة ردّ الاعتبار إلى ما بين الشريعة والحكمة من اتصال على النمط الرشدي. فقد تسنّى للفكر الديني الخامل، على مدى القرن الفائت، إحداث فرز خطير، حوَّلَ بموجبه، كل من لا يقبل بالتفكير الغيبي والأسطوري والعاطفي، إلى خارجي، وصنّف منجزات التيار العقلاني وأعلامه ضمن ما هو ضال وهدّام ومنحرف. وهكذا فقد عقل المسلم تواصله مع الحداثة، ومع العقلانية، ومع المقاربات العلمية، وهو يحسب أنه يحسن صنعا.
ولو شئنا لقلنا إنّ المسألة أبعد من ذلك، فالعقل الإسلامي في رحلته المترنّحة منذ عصر النهضة، بين الانغلاق والانفتاح، لم يراهن بما يكفي على عَلْمَوَة الفهم الديني. أقصد الاعتماد على المقاربات العلمية في فهم الوقائع الدينية وتحليل الظواهر بتجرّد وإعطاء سند منطقي للمقول الديني. الأمر الذي جعل الفكر الديني لدينا تكراريا اجتراريا ومنفعلا لا فاعلا. إن إعادة بناء العقل الإسلامي ليتواصل مع منجَز الفكر العالمي في وعي قضايا الدين والاجتماع هو مما يتطلّب إيمانا عميقا بسموّ طرحنا الحضاري وأصالته. أحاول من جانبي، بوصفي ابن جامعة دينية عربية قبل التحاقي بالغرب، أقصد جامعة الزيتونة في تونس، أن أرسخ تقليد المناهج العلمية الحديثة في قراءة الظواهر الدينية بالترجمة والكتابة، وتحديدا المنهج السوسيولوجي. فسوسيولوجيا الدين وسوسيولوجيا الأديان يمكن أن تسهم كلتاهما في مقاربة الأوضاع الدينية لدينا، وأن يكون لهما إسهام في دمج الوعي الديني في سياق فاعل ومسئول، لا مغترب ولا مضطرب.
إلى أي مدى يمكن القول إن الفكر العربي مُكبّل بسؤال الموقف المفترض من التراث لا سيما الديني دون أن يُنتج ذلك تغييرًا على أرض الواقع فيما يتعلق برؤية حضارية للدين وموقعه في الحياة؟
نحن على الأغلب نعيش برؤى السلف في فهم تمثّلاتنا للدين، ولذلك سرعان ما نهرع للمقايسة والمقارنة مع ما مضى مع كل طارئ يطرأ على حياتنا. وفي ضوء ذلك من الصعب أن نخوض عملية تفكيك حقيقية لموروثنا في غياب توظيف أدوات جديدة. ففي كثير من الأحيان نعيش علاقة مغتربة مع التراث، نحاول أن نبذل قصارى جهدنا في إبراز أنّ موروثنا قائم على الكمال، في حين يطالعنا حاضرنا الطافح بشتى أنواع النقص. ونصرّ على أنّ لدينا من الرصيد الكافي والشافي في سائر المجالات، وبما يفوق تجارب أُمم أخرى، والحال أن مجتمعاتنا الراهنة من أكثر المجتمعات تردّيا على كثير من الأصعدة. والواضح أن الفكاك من دوّامة الالتباس تلك مشروط بقراءة نقدية للأمور تتقلّص منها النظرة الطهرية للتاريخ.
وبالإضافة إلى ذلك لدينا عطلٌ مستشرٍ في الفكر الديني وهدرٌ للطاقات في مسالك كلاسيكية غير مجدية، كان من الأحرى تحويل القدرات فيه باتجاه مسارات فيها نفعٌ للناس، لأن المعرفة معنية بأن تواكب حاجات الناس لا أن تغترب عنهم، وكمْ لدينا من حاجات ملحة ولكنّنا نتلهى في كلياتنا الدينية بفنطازيا الغيبيات؟! أضرب أمثلة سريعة حتى لا نبقى في نطاق العموميات (الباحثة فرانشيسكا روزاتي خبيرة في حاضر الإسلام وماضيه في الصين، والباحثة باولا بيزّو خبيرة في المسيحية الفلسطينية، والباحثة أريانه دوتوني خبيرة في المخطوطات اليمنية، ويمكن الاطلاع على أبحاثهن القيمة في الشأن وهنّ من الباحثات الإيطاليات الشابات) فهل في البلاد العربية ثمة انشغال في جامعاتنا بهذه المجالات وغيرها مما يمسّ حضورنا في هذا العالم؟ لا شك أن لدينا تراث عظيم بَيْد أن ذلك التراث ينبغي ألا يَحُول بيننا وبين اندماجنا في هذا العالم، وألا يشكّل عقبة لدينا أمام إعادة بناء تمثلاتنا للقضايا والمفاهيم وانطلاقتنا المستمرة في الكون.
فما نتطلّع إليه وهو أن تقوم علاقتنا بالتراث ضمن إطار جدلي لا إطار حميمي، وتتأسس على منهج موضوعي لا على نزعة قدسية، أقصد ذلك المنهج القائم على الوعي بآليات تشكّل المعرفة وبشروطها الاجتماعية. فنحن حين نستعيد الحديث عن مؤسسة “أهل الذمة” -على سبيل المثال- لا نعيد النظر فيها ضمن التطرق للشروط الاجتماعية والدينية التي ولّدتها، ومدى مشروعية حضورها وغيابها اليوم، وضمن أي تعقل تاريخي؟ بل نستعيد أفكار الماضي ومؤسساته وتنظيماته بنوع من القداسة. بإيجاز ثمة تاريخانية في النظر للمؤسسات والوقائع والأفكار والفتاوى تغيب عن ذهن الدارس المسلم.
كيف ترى التوجهات الأوروبية لتحجيم ومحاربة الإسلام السياسي؟ هل يتزامن مع تكثيف تلك التحركات تعزيز الإسلاموفوبيا؟ ولِم؟
ينبغي ألا نهوّل الأمور بشأن الإسلام السياسي في الغرب، وأن يأخذ الموضوع حجمه الحقيقي لدينا. فنحن كأوروبيين مسلمين لا نَعدّ الإسلام السياسي عنصرا شاغلا بالنسبة إلينا، لأننا تعيش وضعا مغايرا لأوضاع البلدان العربية فيه “السوق الدينية” مشرّعة الأبواب على العديد من العارضين، ويتقلّص فيها الاحتكار والمونوبول من أي طرف كان. صحيح يطبع هوية المسلم الأوروبي مَلْمح شفّاف عربي أو إسلامي، يطالب من خلاله بحقوقه الثقافية على غرار سائر التقاليد الدينية الأخرى، ومن داخل ما تسمح به قوانين تلك البلدان. ومن ثَمّ هناك مساحة مدنية ينشط فيها الإسلام المهاجر تُمثّلها الجمعيات والمراكز والمساجد والمصليات، بَيْد أن تلك المساحة المدنية بدأت تتسرب إليها الشكوك والريبة تحت مبررات أمنية وتهديدات إرهابية وهجرة فوضوية، وهو ما قاد بالنهاية إلى أشكال من التضييق والنفور والتخوف تلخّصت في ما يُعرف بالإسلاموفوبيا. وهي بالأساس نتاج تقصير المسلمين الغربيين في الحضور في المجال العام، وعدم إيلائهم الجانب الثقافي أهمية. فلا ننسى أن السواد الأعظم من المسلمين في الغرب هم من الشرائح العمالية الكادحة التي لا يعنيها كثيرا العمل الثقافي والمعرفي والفني. وبالتالي يسهل الإيقاع بتلك الحشود. ومما لا ريب فيه أن الإسلام الأوروبي ينطوي على العديد من عناصر الوهن بداخله، وأنه لا يزال إسلاما فولكلوريا، على الأغلب، ولم تشقه تحولات فكرية وتلونات ثقافية، تسمح له ببناء منظور منسجم مع مجتمعات معلمَنة وذات مخزون ثقافي كِتابي ترعاه جامعات ومؤسسات أبحاث ووسائل إعلام مؤثرة.
تعرّضت في كتابك “الدين في الغرب” لإشكالية الإسلاموفوبيا وشددت على أهمية بناء تعددية ثقافية حقيقية لمواجهة تلك الظاهرة ولمجابهة “الاستعلاء الغربي” كذلك.. كيف يمكن تحقيق ذلك في ظل القراءات الدينية الإقصائية؟ ما السبيل للخروج من ذلك المأزق؟
ما من شك أن هناك توجهات متصلّبة في الغرب ما فتئت تنكر أن الغرب قد اخترقته التعددية الدينية والثقافية، وباتت المجتمعات فيه ذات طابع كوسموبوليتي، وهي بالأساس توجهات يمينية وكَنَسيّة، وعادة ما تحرّض على المسلمين أو تختلق المبررات لتعطيل اكتسابهم حقوقهم، مثل الاعتراف بدينهم على غرار سائر التقاليد الأخرى، أو حصولهم على عائدات الخصوم الضريبية مثلما يُعرف بـ “الثمانية من الألف” في إيطاليا لتطوير أوضاعهم الثقافية والتعليمية، مع أنهم يمثلون الديانة الثانية في كثير من البلدان.
تساهم تلك العناصر وغيرها في خلق مناخات الإسلاموفوبيا وتدفع للتوتّر، ولكن يبقى الشرط الرئيس للخروج من تلك الأجواء هو في إقامة شراكة ثقافية حقيقية بين مسلمي الغرب والمجتمعات الحاضنة، ويمكن أن ينضمّ إليها الساعون بصدق إلى حوار الحضارات والثقافات من خارج. ولكن أن تُحارَب الإسلاموفوبيا بالتعنت والتناقض مع الغرب على مستوى الزي والمظهر والهيئة إنما ذلك ينمّ عن سطحية في فهم أبعاد الدين الحضارية.
هل يمكن اعتبار الحل العلماني، العلمانية الشاملة كما طرحها المسيري، ركيزة يمكن من خلالها تجاوز أزمات الواقع الديني في العالم العربي؟ أم أن ثمة إشكاليات تحول دون تحقيق ذلك؟
العالم العربي قادر على أن يشقّ مساراته في التاريخ بيسر إن آمن بقدراته الحضارية، في صوغ مخارج وحلول لقضاياه السياسية والاجتماعية والدينية، لأن الاتكال على تجارب الغير واستيرادها، من علمانية شاملة أو ناقصة ومحاكاتها، مدعاة لمفاقمة حالة الاغتراب. وحتى لو توهّم الساعون أنّ الحل في العلمانية، فالعلمانية علمانيات، وقد بلغنا إلى ما بعد العلمانية بحسب عبارة أرباب التنظير لها: شارل تايلور وجوزي كازانوفا وبيتر لودفيغ بيرجر. ولذا من المجدي ألا نعلّق آمالا كبرى على تجارب الآخرين، لأن العلمانية في فحواها العميق هي نمط عيش، -سمّه ما شئت علمانية أو حكمانية- تواضَعَ عليه القوم ليحفظوا السلم الاجتماعية في مجتمعاتهم.
وبالتالي العلمانية لها أوجه متعددة، ونحن كمسلمين في الغرب نعيش في كنف العلمانية وننعم بمزاياها. ولْنَكن صرحاء، نحن كشريحة اجتماعية ذات أصول عربية وإسلامية، أقرب إلى العلمانيين الغربيين منه إلى المتديّنين، في اختياراتنا الحزبية والانتخابية، ولله في خلقه شئون!
كيف تقرأ مواقف الإسلاميين من القضية الفلسطينية لا سيّما في ظلّ تأرجح مواقفهم حاليّا إزاء توجه بعض الدول للتطبيع مع إسرائيل؟
الإسلاميون على غرار غيرهم من التيارات السياسية العربية لديهم رصيد هائل من العواطف الهوجاء تجاه فلسطين وإسرائيل، ولا يحرّكهم في غالب الأحيان الوعي بالقضايا التاريخية والسياسية والدينية للمنطقة، بل الحماس وردود الأفعال. والواقع أنه ليست هناك مواقف ثابتة ما إن تدخل الأحزاب معترك التنافس والحكم. تتحول المبادئ إلى مواقف براغماتية وتتراجع الشعارات الكبرى أو تغدو جوفاء. وأحزاب الإسلام السياسي إن دخلت اللعبة السياسية صعب أن تثبت على مواقفها التقليدية من التطبيع وإسرائيل، وربما تلك التي تبقى منها خارج العملية السياسية يمكن أن تتابع التواصل مع الجماهير بخطاب طهري رافض للتطبيع.
صحيح لو تتبّعنا تحولات الخطاب الإسلاموي خلال العشرية الأخيرة نلحظ الطابع الوطني الجليّ في ثناياه، ناهيك عن خفوت نزعة الأمة الواحدة منه، لكن ذلك لا يعني أن الروابط الروحية الجامعة قد امّحت بين سائر مكوّناتهم. ما نستشرفه، حتى وإن جرف التطبيعُ مع إسرائيل الإسلاميين ورضوا به، فإنّ ذلك لا يعني تفريطا في الحق الفلسطيني أو تنازلا عن القدس الشريف، في ظل موازين القوى المختلة. وأقدّر أن الإسلاميين وغيرهم من المكونات السياسية الفاعلة في الساحة العربية لن يقبلوا بإسقاط ذلك الحقّ.
اكتشاف المزيد من azulpress.ma
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
التعليقات مغلقة.