عبد السلام الرجواني: لا يمكن بناء نظام تعليمي ناجع إلا في إطار مشروع مجتمعي ديمقراطي وحداثي  

عبد السلام الرجواني

 في هذا الحوار الهام، الذي أجرته الجريدة مع الاستاذ عبد السلام الرجواني، أحد قدماء اليسار المغربي، وقيدوم مكوني التربية والتعليم بالمركز التربوي الجهوي بإنزكان، نستعرض مسيرة الاصلاحات في قطاع التعليم وعلاقتها بالتحولات السياسية المغربية من خلال التجربة السياسية لما بعد دستور 2011، ودور اليسار المغربي في هذه الوضعية السياسية والاجتماعية المتسمة بالتراجع والركود.    

من هو عبد السلام الرجواني؟ 

 ولد عام 1953 بمدشر “غرس علي”، قبيلة بني زروال بجبالة الوسطى، حصل على البكالوريا أدبية سنة 1974. وتوزعت دراسته العليا بين جامعتي مولاي محمد بن عبد الله بفاس وجامعة محمد الخامس بالرباط، اشتغل أستاذا للفلسفة بالتعليم الثانوي، ثم أستاذا مكونا في علوم التربية بمؤسسات تكوين المدرسين، وأستاذا متعاون لعلم الاجتماع.

مناضل سياسي في 23 مارس، فمنظمة العمل، ثم في الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، فاعل جمعوي عبر حركة الطفولة الشعبية ونادي المدينة، ونقابي من خلال النقابة الوطنية للتعليم والكونفدرالية الديمقراطية للشغل، والنقابة الوطنية للتعليم العالي.

له إسهامات فكرية لا سيما في مجالي التربية وعلم الاجتماع، من أهمها كتابين: “فضاء الطفولة وتدبير الوقت الحر”، و ” الهجرة والتنمية”، فضلا عن دراسات في مجلات تربوية ( ديداكتيكا، علوم التربية، التنشئة) وجرائد وطنية لا سيما أنوال والاتحاد الاشتراكي.

تم تعيين مؤخرا في اطار ترميم حكومة العثماني وزيرا جديدا للتربية الوطنية  مما طرح مع الحدث الكثير من التساؤلات حول مصير قطاع التعليم، بعد المصادقة على قانون اطار لخوصصة القطاع، وقيل ان الوزير الجديد تم اختياره لتنفيذ هذا المخطط، ما تعليقكم وما ينتظر قطاع التعليم في ظل هذه التحولات الجارفة لكل أمل في اصلاح حقيقي للقطاع؟

إصلاح التعليم رهان وطني يهم كل المغاربة ويقض مضاجع كل من يشغله مستقبل البلاد، يتطلب تعبئة وطنية شاملة تهم الدولة بكل مؤسساتها التربوية والعلمية والثقافية والإعلامية  والاقتصادية، كما تهم المجتمع بكل مكوناته. نجاح الإصلاح من وجهة نظري لا بتوقف على عمل وزارة أو قطاع، ولا يرتبط بشخص هذا الوزير أو ذاك، وإنما يجب أن يكون مشروع أمة وأولوية دولة، وبالتالي يجب أن يتدرج الإصلاح ضمن مشروع تنموي جديد يعتبر التطور العلمي والتكنولوجي والثقافي الرافعة الأساسية لتنمية شاملة ومستدامة، ويعتبر الرأسمال البشري الدعامة الكبرى لبناء المستقبل وتحقيق التقدم الحضاري ومواجهة تحديات العصر.

الإصلاح وفق هذه الرؤية اختيار سياسي استراتيجي متى حسم فيه أصبح الإصلاح ممكنا. حينئذ يمكن وضع أسس نظام تربوي جديد، على المستوى الأبستمولوجي/ المعرفي، وعلى مستوى الهندسة البيداغوجية والحياة المدرسية، وعلى مستوى نوعية المخرجات ومدى ملاءمتها لسوق الشغل وحاجات المجتمع. ومن المفروض أن يسعى الإصلاح إلى ضمان تكافؤ الفرص بين الفئات الاجتماعية وبين الجهات والكيانات المجالية.

ومما لا شك فيه أن إصلاح منظومة التربية والتكوين إصلاحا شاملا ومستداما يطرح بحدة مشكل التمويل، نظرا لثقل الخصاص في البنايات والتجهيزات المخبرية والتأطير الإداري والتربوي من جهة، واعتبارا لضخامة النظام التربوي من حيث عدد رواده من تلاميذ وطلاب ومتدربين ومن هيأتي التدريس والإدارة من جهة ثانية. فالنهوض بالنسق التربوي/ التكويني وتجويد التعليم يحتاج إلى ميزانيات ضخمة تتجاوز بكثير ما يرصد للتعليم حاليا، على أهميته. وإذا ما قارنا بين تكلفة التلميذ الواحد في التعليم الابتدائي في بلدان ذات أنظمة تعليمية رائدة وتكلفة تلميذ مغربي بنفس المستوى، سنلاحظ أن التكلفة السنوية تناهز 40000 درهم بالنسبة لتلميذ فلندي أو هولاندي بينما لا تتجاوز 6000 درهم بالمغرب. ذلك معناه، أنه لا يمكن اختزال إشكالية المجانية في الموقف المبدئي. إنه مشكل حقيقي، يفرض التفكير في الصيغ الملائمة لضمان جودة المدرسة العمومية دون ضرب مبدأ تكافؤ الفرص. ومن باب الموضوعية والدقة أن القانون الإطار المشار إليه في سؤالكم لا يتحدث عن خوصصة التعليم وإنما يتحدث عن سن رسوم الدراسة.

جرب المغرب العديد من المشاريع مند منتصف الستينيان من القرن الماضي لاصلاح التعليم واخيرها الرؤية الاستراتيجية ..ما رأيكم في هذه الاصلاحات التي تم تجريبها وماذا  ننتظر من الرؤية الجديدة؟ وهل هناك بدائل لانقاذ القطاع من أزمته ؟ 

يمكن إرجاع دوام الأزمة واستفحالها لثلاثة عوامل رئيسية:

أولا: غياب رؤية استراتيجية شاملة ومنسجمة للمسألة التعليمية والتربوية من شأنها توجيه السياسات الحكومية في مجال التربية والتكوين والبحث العلمي، وضبط إيقاعاتها على المدى البعيد والمتوسط، في ارتباط بمشروع اقتصادي واجتماعي وثقافي يراهن على المعرفة والبحث العلمي أساسا للتنمية.

والواقع أن المسالة التعليمية مسألة سياسية ذات أبعاد اقتصادية واجتماعية وثقافية، ولا يمكن فصلها عن الاختيارات الكبرى للدولة. ولعله من البديهي القول انه لا يمكن بناء نظام تعليمي حديث وعصري وناجع إلا في إطار مشروع مجتمعي ديمقراطي وحداثي، يقدر العلم والمعرفة، ويشجع على الإبداع الفكري والفني والابتكار العلمي والتكنولوجي، ويحترم الذكاء البشري، ويتبنى القيم الكونية، ويوظف العلوم الإنسانية في مقاربة إشكالات التربية والتكوين. يستحيل بناء منظومة تربوية ناجحة دون أن تكون في خدمة مشروع تنموي يشمل الاقتصاد والاجتماع والثقافة، ويستدعي البحث العلمي والتطوير التكنولوجي. ولا يمكن لمثل هذه المنظومة أن تنشأ وتدوم إن لم تكن مرتكزة لقيم التقدم والحداثة التي هي في الجوهر حرية الفكر والإبداع.

ولأن منظومتنا التربوية أريد لها منذ إجهاض المشروع الوطني التحرري أن تكون مؤسسة لإعادة الإنتاج الثقافي، وتبرير العسف السياسي، وترسيخ قيم التقليد، وتكريس اللامساواة الاجتماعية، كما ذهب إلى ذلك الجابري، فإن مآله ما كان يمكن أن يكون سوى وضعها المأزوم الذي يعتبر الوجه الفاضح لأزمة مجتمع بأكمله.

ثانيا: في غياب الرؤية الشاملة، كانت جل “الإصلاحات” التي طالت النظام التعليمي جزئية، ولم تمس سوء مكونات معزولة داخل النسق التعليمي. منها ما هم لغة التدريس، “فرنسة” أو تعريبا، لمواد محددة، وفي أسلاك دون غيرها؛ ومن الإصلاحات ما أحدثت بمقتضاها شعب ومسالك، أو غيرت استنادا إليها قوانين ومساطير، ومنها من حاول تجريب مقاربات بيداغوجية على نحو اعتباطي وعابر، ومنها من أعاد توزيع الغلاف الزمني وعدل من أساليب التقويم ونظام الاختبارات  والامتحانات الإشهادية والمعاملات، ومنها من اكتفى باستبدال الأسماء دون المسميات.

كثير من هذه الإصلاحات الجزئية والطارئة لم تكن تستجيب لحاجات موضوعية تخدم تجديد النظام التعليمي وتطويره، ولم تكن نتاج دراسات وأبحاث علمية رصينة، وإنما كانت تصريفا لقرارات سياسية (تعريب المواد العلمية، حذف الفلسفة لمدة في الجامعة المغربية…)، أو تنفيذا لتوصيات المؤسسات المالية الدولية، أو نتاج اختيارات تربوية لمسؤولين تربويين عملوا على نقل مقاربات بيداغوجية حديثة دون ملاءمتها مع واقع المدرسة المغربية، ودون توفير كل الشروط الموضوعية ( الفضاءات والتجهيزات) والذاتية ( تكوين متين للاطر التربوية) لاستثمارها على الوجه الأمثل.

ويشكل الميثاق الوطني للتربية والتكوين المحاولة الجادة والفريدة لصياغة مبادئ وأسس إصلاح شامل للمنظومة التربوية والتكوينية، وذلك في سياق سياسي خاص أتاح لكل القوى الحية بالبلاد المشاركة في بلورة تلك الوثيقة المرجعية القيمة التي رسمت أفق النظام التعليمي المنشود. غير أن الجوانب الأهم من الميثاق، وهي المتعلقة بالحياة المدرسية، والمناهج،  وتطوير تدريس اللغات، والانفتاح على المحيط، وتكافؤ الفرص، لم تشهد تقدما ملموسا خلال عشرية الإصلاح ( العقد الأول من الألفية الثالثة). وتوقف الإصلاح عند إحداث الهياكل المركزية والجهوية، وعند الإصلاح البيداغوجي بالجامعات، الذي ما زال متعثرا لاعتبارات موضوعية (نسبة التأطير، الاكتظاظ، ضعف ميزانية البحث العلمي…).  ولم يتوفق البرنامج الاستعجالي في تدارك التأخر الذي طال الجوانب الأساسية من الميثاق رغم ما رصد له من أموال، لم يصل منها للتلميذ والمدرس غير النزر اليسير، بينما صرف الشطر الأعظم في تعويضات لمؤطري “تكوينات”  وملتقيات غلب عليها الطابع الاحتفالي وأجواء الولائم.

ثالثا: محاولات الإصلاح هاته، علاوة على طابعها الجزئي، والمعوقات الموضوعية لأجرأتها كلا أو جزء، رافقها سوء الحكامة الذي زاد من إضعاف مردودها وعجل بفشلها. ونعني بالحكامة السيئة التدبير اللاعقلاني للموارد البشرية والمادية، وبؤس الحياة المدرسية، وضعف الإدارة التربوية، وتخلف المناهج الدراسية وأساليب التعليم والتعلم، وإتباع نظام تقليدي في المراقبة المستمرة والتقويم التربوي، وعدم ربط التعليم العالي بالمخططات الاقتصادية الكبرى وبالمحيط الاجتماعي والثقافي، وضعف الحوافز على التجديد والبحث العلمي. ولكي لا يقال أن هذا كلام عام يفتقد الحجة ويعوزه الدليل، يمكن إبراز بعض الحقائق في صيغة أسئلة استنكارية، من قبيل:هل يعقل أن تغلق مراكز التكوين أو تقلص أعداد المتكونين طيلة عقد من الزمن، وتسرح خيرة الأطر بموجب المغادرة الطوعية، ثم تلجأ الدولة إلى التوظيف المباشر بعد سنوات معدودة، وإلى الاستنجاد بمن غادروا، طوعا وطمعا، من أساتذة كليات الطب والصيدلة قصد سد الخصاص؟ هل من التدبير الحكيم في شيء إسناد الإدارة التربوية على أساس الأقدمية  لأطر لا تفصلها عن التقاعد سوى شهور معدودة؟ هل من سداد الرأي وحسن النظر تعليق تكوين أطر المراقبة التربوية في وقت أصبح فيه المؤطر التربوي عملة نادرة؟ وهل يستقيم تدريس المواد العلمية بالعربية إلى حدود الباكلوريا ليواجه الملتحقون والملتحقات بالجامعات والمعاهد العليا المغربية والأجنبية صعوبات جمة لمتابعة تعليمهم العالي؟ وهل يمكن الحد من نخبوية التعليم، والتعليم العالي ذي الولوج المحدود على الخصوص، في ظل مباريات يشترط في المرشحين لاجتيازها عتبة لا يقوى عليها سوى العباقرة أو من ولدوا وفي أفواههم ريشة من دولار. وهو أمر محبط لكثير من ذوي المؤهلات الذين اضطر كثير منهم للدراسة بالخارج، ومبدد لرأسمال بشري هام لم تهيأ له الشروط للبذل والعطاء خدمة لوطنه؟ هل يجوز الاستمرار في العمل بنظام المراقبة المستمرة في السنتين الأولى والثانية باكلوريا، والجميع على علم بما يقع من غش وتلاعب وابتزاز؟ وهل يجوز أن تصرف أموال طائلة، وتبذل جهود لتجريب وتعميم بيداغوجية الإدماج، ثم تقبر التجربة بقرار وزاري لم يستند لتقويم ولا لرأي الفاعلين المباشرين؟ وهل يجوز أن يتوقف البرنامج الاستعجالي بعد أن هدرت من أجله ملايير الدراهم؟ وهل يقبل أن تكون المدرسة المغربية حقلا لتجريب مقاربات بيداغوجة دون تمحيص ولا تحضير ولا تقويم؟ في غضون سنوات معدودة جربنا نماذج تربوية كثيرة ومتباعدة من حيث المنطلقات والمبادئ وأوليات الإنجاز: بيداغوجية الأهداف، وبيداغوجية الكفايات، وبيداغوجية المشروع،  والبيداغوجية الفارقية، وبيداغوجية الإدماج، مع العلم أن الأنظمة التعليمية الرائدة تستعين بكل الطرق التربوية  وتقنيات التنشيط الحديثة دون تمييز أو مفاضلة بينها؟ وهل يجوز أن تحدث الأكاديميات الجهوية للتربية والتكوين، ويظل المركز مصدر كل القرارات، وتظل الوزارة مقرا دائما لمدراء الأكاديميات، كلما سألت عن أحدهم  أجابوك أنه ذهب للرباط؟ وهل… وهل… وهل؟

هكذا يمكن الجزم أن أزمة التعليم ببلادنا أزمة نسقية تهم كل مكونات المنظومة التربوية / التكوينية، بنيات ومناهج ومقاربات بيداغوجية  وحكامة إدارية ومالية وتربوية وغايات وأهداف وعلاقة بالمحيط على مستوى المدخلات والمخرجات معا. والأدهى أن تتحول أزمة التعليم إلى أزمة قيم متمثلة في تراجع حب المعرفة والتعلق بالعلم، وخفوت روح المسؤولية والنزاهة العلمية والفكرية، وتراجع الطموح في الارتقاء الاجتماعي عبر التعليم والتعلم، وتفشي الزبونية والغش والفساد الأخلاقي في معاهدنا وجامعاتنا، وسيادة العنف المادي والرمزي. لقد أصبح عموم المواطنين يحملون صورة سلبية وبئيسة عن المدرسة والجامعة، ولم يعد “يغامر” بإيداع أبنائه وبناته مؤسسات التعليم العمومي سوى من لا بديل له عن ذلك. في خضم هذه الأزمة اختارت كثير من الأسر، بمن فيها محدودة الدخل، التعليم الخصوصي بكل مستوياته وبكل أنواعه ( التقني والعام)، آملة أن تجد فيه ما يحقق طموحات أبنائها وبناتها. والحقيقة أن التعليم الخصوصي في بلادنا ليس دوما بأحسن حال من التعليم العمومي لأنه في نهاية المطاف مكون من مكونات المنظومة التعليمية الوطنية، ويشكو من نفس الاختلالات البنوية التي يعاني منها النسق التعليمي برمته، خاصة وأنه ملزم بإتباع المناهج التعليمية الرسمية تحت إشراف الوزارة الوصية.

في ما يتعلق بالرؤية الاستراتيجية الجديدة، وبناء على قراءة متأنية لمضامينها، يمكن القول أنها لا تقل طموحا عن الميثاق الوطني للتربية والتكوين، من حيث الأهداف والإجراءات، ومن ثم وجب التنويه بجل ما جاءت به، لاسيما في ما يخص العمل على تحقيق مدرسة الإنصاف والجودة والارتقاء الفردي والاجتماعي، وإدراج الإصلاح ضمن مشروع مجتمعي شامل يستنير بقيم الحداثة والديمقراطية. غير أن ما يجري على مستوى الواقع، فضلا عن ضعف الموارد المالية وسوء الحكامة التربوية والاتجاه العام للسياسة الاجتماعية للحكومة المتسمة بالتقشف والخضوع لتوجيهات صندوق النقد الدولي، كلها عوامل تدعو إلى الشك في تنزيل الرؤية بما يجسد الآمال المعلقة عليها. ولذلك أعتقد أن إصلاح التعليم من خلال تنفيذ الرؤية الاستراتيجية، يفرض بالضرورة أن يتم ضمن مشروع تنموي جديد، خاصة وأن كل القوى السياسية تعترف بفشل التنموي الذي سار عليه المغرب من الاستقلال. إن جزءا مهما من مشكلات التربية والتعليم مرتبطة ارتباطا وثيقا بمشكلات اقتصادية واجتماعية وذهنية. لا يمكن تعميم التعليم والحد من الهذر المدرسي دون التمكين الاقتصادي للأسر وفك العزلة عن البادية، كما بل يمكن تحسين تعلم اللغات في أوساط اجتماعية ذات كثافة ثقافية عالية. الخ.

بنكيران يستهدف شرعية العثماني قبل استهداف الخصوم السياسيين.

الحديث عن الاصلاح الشمولي يجرنا للحديث عن تجربتين حكوميتين بعد دستور 2011،  الاولى لعبد الاله بنكيران والثانية لسعد الدين العثماني ، لم ترضيا أغلبية الشعب المغربي في تطلعاته، رغم استنادها لأغلبية انتخابية لحزب العدالة والتنمية، ما تقييمكم للتجربتين ؟ وهل من تفسير سياسي لمشاركة محتشمة للتقدم والاشتراكية وللاتحاد الاشتراكي؟ 

لا ريب أن دستور 2011 جد متقدم بالمقارنة مع الدساتير السابقة بحيث أنه شرع لعدة مؤسسات دستورية في مجال حقوق الإنسان، وأناط برئيس الحكومة صلاحيات واسعة وأقر بدستورية تعيينه من الحزب الذي يحتل المرتبة الأولى في الانتخابات التشريعية وربط المسؤولية بالمحاسبة، مما يعني أنه قوى من مؤسسة رئاسة الحكومة وجعل احترام المنهجية الديمقراطية حكما دستوريا وأتاح تقوية الطابع السياسي للحكومة. لكن من مفارقات الحياة السياسية المغربية ومكر تاريخها أن النفس الديمقراطي للدستور ” صادف” صعود حزب محافظ لا تنسجم مرجعياته وفلسفته السياسية ومشروعه المجتمعي مع التوجهات الديمقراطية والحداثية للدستور مقابل تراجع مريب للقوى الديمقراطية/ التقدمية .

فكان من الطبيعي ألا تعمل حكومة بنكيران على تنزيل مقتضيات الدستور الجديد وفق تأويل ديمقراطي، والأدهى أن رئيس الحكومة تنازل “طوعا” أو ربما تواطؤا عن بعض اختصاصاته، بدعوى تجنب الصدام مع المؤسسة الملكية؛ ولم يكن ادعاؤه ذاك سوى تضليلا للرأي العام وهروبا من المسؤولية وتهربا من المحاسبة السياسية. وبدل العمل المؤسساتي المسؤول اختار الوزير الأول اختلاق معارك لا معنى لها داخل قبة البرلمان في مواجهة ” العفاريت والتماسيح” التي ألصق بها عجز حكومته عن مواجهة المعضلات الاقتصادية والاجتماعية التي استفحلت بسبب القرارات اللاشعبية التي لم يعرف المغرب مثلها سابقا في القساوة على القدرة الشرائية للمواطنين، باسم  الإصلاح الهيكلي الذي لم يؤد في الواقع سوى إلى مزيد من الغلاء والبطالة والاحتقان الاجتماعي.

ولأن بنكيران امتطى خطابا شعبويا ما أنزل الله مثله في العباد، ولأن إستراتيجية عمل البجيدي، والحركة الدعوية التي تتحكم في اختياراته، نجحت إلى حد بعيد في استغلال الدين وتوظيفه سياسيا، ولأن الحكومة نفسها دعمت شبكات “الإحسان” التابعة للذراع الدعوي تحت يافطة منظمات “المجتمع المدني”، ولأن اليسار لم يستطع جمع شتاته ولا تجاوز خلافاته، لذلك كله تمكن حزب العدالة والتنمية من تحقيق انتصارات كاسحة في الانتخابات الجماعية ثم في الانتخابات التشريعية 2016، وهي الانتخابات التي أفرزت حكومة ثانية بقيادة البجيدي وبتركيبة سياسية مختلفة نسبيا عن الحكومة السابقة، بعد مخاض عسير، حكمته رهانات حزبية داخلية وتوازنات سياسية وطنية. قد لا تختلف التوجهات العامة لحكومة العثماني عن سلفه بنكيران ما دامت الاختيارات الاستراتيجية للدولة في كل المجالات غير قابلة للنقض في ظل موازين القوى القائمة، غير أن المناخ السياسي العام، الذي تميز في عهد بنكيران بتوتر مفتعل في كثير من فصوله، أفضى إلى هدر كبير للزمن السياسي وكبح العمل التشريعي، عرف في عهد العثماني انفراجا بينا رغم الغيوم التي ما زال ينشرها بنكيران ومريدوه، خاصة بعد ما فشل في الظفر بولاية ثالثة على رأس البجيدي، مستهدفا في ذلك شرعية العثماني قبل استهداف الخصوم السياسيين.

أما في ما يتعلق بمشاركة حزب التقدم والاشتراكية في الحكومتين معا، ومشاركة الاتحاد الاشتراكي في حكومة العثماني بعد أن اختار المعارضة أيام بنكيران، والتي وصفتموها في سؤالكم بالمحتشمة، يمكنني القول، أنها كانت في كل الأحوال نتاج تقدير سياسي لقيادة كل حزب ضمن السياق الذي تم فيه قرار المشاركة من عدمها، وأن حجم المشاركة ونوعيتها يتحدد بالوزن الانتخابي لكل حزب، باعتباره المحدد الأساس لمخرجات التفاوض. ولذلك أعتقد أن الحزبين معا نالا ما يوازي قوتهما الانتخابية، ولا مجال في السياسة للحشمة والاحتشام، وما على ذلك من عبارات تنتمي لحقول دلالية غير الحقل السياسي. باعتبار انتمائي السياسي، يمكن أن أتحدث عن مشاركة الاتحاد الاشتراكي في الحكومة الحالية: يستند قرارنا بالمشاركة  إلى خلاصاتنا حول التجربة السابقة التي أبانت بالملموس أن المقعد الشاغر، في ظل تراجع رهيب للتيار الديمقراطي الحداثي داخل المجتمع، وتفكك اليسار وعجزه على المبادرة، شجع الحزب الأغلبي على المضي بعيدا في ضرب مكتسبات ديمقراطية واجتماعية في ظل تضليل إعلامي خطط له دهاقنة الشعبوية ونفذته بإحكام كتائب بنكيران عبر مواقع التواصل الاجتماعي. في ظل شروط صعبة اخترنا المشاركة على قاعدة برنامج حكومي متفاوض عليه، وضمن ائتلاف واسع كفيل بكبح التوجه اليميني للحزب الأغلبي، خاصة وأن القيادة الحالية للعدالة والتنمية اختارت أسلوبا آخر في تدبير العلاقة مع أحزاب الأغلبية ومع أحزاب المعارضة، يقوم على التفاوض والحوار والتوافق حول الملفات الحارقة. وأعتقد انه تمرين مفيد للتطور الديمقراطي ببلادنا.

باستثناء تجربة الكتلة الديمقراطية بداية التسعينات، لم تنجح كل محاولات وجهود توحيد اليسار

 في ظل ما يعرفه المغرب من تراجعات في مجال الديمقراطية وحقوق الناس يطرح سؤالا كبيرا حول دور اليسار وحول تشتت قواه  بين المواقع  وفي التقديرات السياسية وتراجع نضاليته وفعاليته في التواصل مع مكونات الشعب المغربي ، ما تقييمكم لوضعية قوى اليسار اليوم؟ وكيف سيكون مستقبل اليسار في ظل الوضعية السياسية الراهنة؟

الحديث عن اليسار ومكانته في المجتمع ودوره في الدينامية الاجتماعية والفعل السياسي حديث ذو شجون، يحتاج تشخيصه وتحليله وتقييمه إلى مجهود علمي وفكري مضن. لذلك أكتفي بالإشارات التالية:

° اليسار المغربي أحزاب وتيارات لا يجمع بين بعضها سوى الاسم، وبين بعضها الآخر الأصل الواحد والتاريخ المشترك. خريطة اليسار تبدو لي أطيافا متباعدة الألوان بينها من الخصومات والصراعات أكبر مما بينها من قواسم مشتركة. فهناك اليسار الوطني الديمقراطي الذي نشأ في كنف الحركة الوطنية، يتبنى النضال الديمقراطي والعمل المؤسساتي. ويضم جميع الأحزاب المنبثقة من الحركة الاتحادية؛ وهناك اليسار الراديكالي ذي المرجعية الماركسية الوريث للجناح العدمي للحركة الماركسية اللينينية المغربية  خلال السبعينات، ثم هناك حزب التقدم والاشتراكية،  الامتداد الطبيعي للحزب الشيوعي المغربي. يبلغ عدد الهيآت السياسية اليسارية 8 هيأة، فضلا عن مجموعات يسراوية محدودة ويساريون مستقلون اختاروا العمل الحقوقي والثقافي.

° اليسار تخترقه صراعات إيديولوجية ركيكة ولا معنى لها، يعود بعضها لخلافات تروتسكي ولينين وكاوتسكي، ويعود بعضها لصراعات داخلية أدت إلى انشقاقات أليمة لعب فيها التنازع حول السلطة والمواقع الدور الأساس. فبدل التأسيس لحوار عقلاني وهادف بين مكونات اليسار حول قضايا راهنة، ما زال بعض اليساريين يتغنون بالثورة ويعتبرون من دونهم بالإصلاح والخيانة حتى.

° اعتبارا لما سبق، وبسبب تحولات دولية وجهوية، وتغيرات سوسيو- ثقافية عميقة، يطول شرحها، تراجع اليسار تراجعا ملحوظا في العالم، ومن ضمنه اليسار المغربي، في الوقت الذي ازدهرت فيه الشعبوية والتيارات المتطرفة وبروز هويات قاتلة.

° باستثناء تجربة الكتلة الديمقراطية بداية التسعينات، لم تنجح كل محاولات توحيد جهود اليسار، ولو اتجاه قضية أساسية واحدة، بالرغم من حديث الجميع عن وحدة اليسار. ولا أخفيكم أنني لم أعد أراهن على وحدة اليسار التي طالما ناديت  بها، وعملت من أجلها. وأتمنى أن يعود الوعي اليساري إلى معانقة هذا الحلم الجميل، قبل أ ن يصير الوجود الفاعل لليسار حلما.

° بخصوص مستقبل اليسار، أعتقد أن ذلك رهين إرادة نخب اليسار وقياداته من جهة، وبالأفق الديمقراطي للمغرب. بكل تأكيد لا يمكن لليسار أن يتقوى في تربة ثقافية محافظة ، ودون أن تكون له روافد ثقافية واجتماعية ونقابية، تستلهم قيم اليسار. إن قوة الحزب السياسي ليست في تنظيمه فحسب، وإنما هي أساسا في شعبيته وصورته لدى الرأي العام.

° اليسار بحاجة إلى تجديد مشروعه المجتمعي وفكره السياسي، والعمل من أجل:

– الإصلاح الديني بما يصون الوحدة المذهبية للمغاربة المسلمين ويمأسس للتسامح وحرية المعتقد ويفتح باب الاجتهاد الكفيل بصياغة أحكام وإجابات عن مستجدات واقع اجتماعي واقتصادي وعلمي متطور، اجتهاد يستلهم السلفية المغربية المتنورة ويستنير بالعلوم الحديثة.

– التأسيس لمشروع تنموي مغاير، يقوم  على فلسفة اقتصادية قوامها إنتاج الثروات، وتثمين الرأسمال البشري والتراث اللامادي والإمكان الاقتصادي الوطني من جهة؛ ويضمن توزيعا عادلا للثروة بين الجهات والفئات الاجتماعية من خلال نظام ضريبي متوازن ونظام عادل للأجور. بدل اقتصاد ريعي، تبعي، لم يؤد سوى لاتساع الفوارق الاجتماعية والمجالية، وإلى دوام مشكل البطالة والأمية واستفحال ظواهر الإقصاء الاجتماعي. لن يكون لأي مشروع تنموي بديل معنى إن لم تتوفر فيه سمات أساسية: الشمولية والاستدامة والمحافظة على البيئة والعدالة. بمعنى إن لم تكن في خدمة الارتقاء بحياة عامة الشعب وتمنيع الاقتصاد الوطني.

ويعتبر النهوض بالتعليم والتكوين والبحث العلمي روافع أساسية لتنمية بيئية ومستدامة. لذا وجب وضع أسس مجتمع المعرفة والتكنولوجيا الوظيفية عبر إصلاح جذري للنظام التربوي، والاهتمام بالشأن الثقافي في مختلف أبعاده الفكرية والعلمية والفنية، وجعل الجامعة مؤسسة للبحث العلمي والتطوير وصناعة الصفوة العلمية والفكرية، بدل أن تظل بمثابة ثانويات كبرى لتفريخ عاطلين ذوي شهادات لا قيمة لها في سوق الشغل.

– ترشيد الحياة السياسية من خلال تعديل دستوري، يعمق التوجه الديمقراطي الحداثي، ويعيد النظر في شروط تأسيس الأحزاب وتمويلها ومشاركتها في الاستحقاقات الانتخابية، في اتجاه  تعددية واقعية ومعقولة، ويقطع مع الريع السياسي، ويدعم تداول النخب على القيادة السياسية.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. الموافقة قرائة المزيد