طنجة من أجل وعي سينمائي تاريخاني       

 

الناقد السينمائي محمد بكريم
*الناقد السينمائي محمد بكريم

 محمد بكريم*//

” لاصدى للصوت في هذه البرية ”            

محمود درويش  

                     

كيف يمكن الحديث عن السينما وعن الأفلام الجديدة بعيدا عن الضجيج  الذي صاحب الدورة الأخيرة للمهرجان الوطني للفلم ( طنجة 3-11 مارس 2017 ). ضجيج تطغى عليه الانطباعات وتوجهه حسابات أحيانا غير بريئة (السينما أيضا حقل اجتماعي تخترقه مصالح متناقضة و صراعات مراكز قوى…)

كانت هناك نوع من العدوى الافتراضية انتشرت كالوباء فأرخت بغلاف سميك بين ما يرى وما يقال. كأن كل فلم يخضع مسبقا لحكم نهائي لا مسافة فيه لحرية المتلقي ولاحظ لإمكانية حكم استئنافي.

إن التحدي المطروح على السينما هم نفس التحدي المطروح على الخطاب المرافق لهذه السينما. في سياق المنطق ألخطيبي ( نسبة لعبد الكبيرالخطيبي) للنقد المزدوج: نقد الذات / نقد الموضوع  .

انه تحدي كبير يستدعي الارتقاء بالخطاب المرافق إلى اللحظة الفكرية المؤسسة لتصور متكامل للعملية السينمائية. إن الخطاب المجرد حول الرداءة والعمومية في الأحكام الجاهزة لا تساعد في تطور العملية الإبداعية . ويكفي أن نسجل إن مثل هذه ردود الأفعال أصبحت ملازمة لكل دورة للمهرجان الوطني. فهلا تساءل حاملي هذا الخطاب العد مي  عن جدوى هذه التغريدات المكرورة منذ سنوات وعن مدى تأثيرها على الفاعلين السينمائيين ؟

هناك على الأقل سببان لعقم هذا النوع من الخطاب داخل الممارسة النقدية.أولا: لجوؤه إلى حقل معجمي لا يمت للسينما بالصلة ( الرداءة/ الجودة …)  بل يلجأ إلى مصطلحات مستوردة من حقول أخرى. ثانيا سقوطه في العمومية على مستويين: عدم ذكر أفلام محددة ومعينة، ثانيا عدم تسليط الضوء على مكامن ما يسميه هذا الخطاب ” بالرداءة”، إن الغرض من هده “الوعورية” ليس المساهمة في تأسيس وعي سينمائي مطابق بل الظهور الشخصي وتطوير ” ألانا ” النقدية بركوب نوع من التطرف المجاني من اجل تلميع الموقع الاجتماعي (وهميا) ضمن شبكة معينة، وهي موضة طغت مند سنوات  من اجل تسريع التصلق الاجتماعي (وهي لا تخلو من نوع من الابتزاز أحيانا ) وتحقيق حضور الذات .

إن الدعوة إلى وعي مطابق وتاريخاني هي دعوة إلى  التخلص من العمومية المجردة والانتقائية بل و من نوع من السلفية ، هي دعوة لاستدعاء الفكر التاريخي (في سياق عبد الله العروي ) بكل مقوماته: صيرورة الحقيقة – ايجابية الحدث التاريخي – تسلسل الأحداث ثم مسؤولية الأفراد عنها … كمنهج وأسلوب حياة.

فماذا إذن عن الدورة 18 للمهرجان الوطني للفلم ؟

سنبدأ من حيث انتهت أي من النتائج المعلنة، يمكن القول إن النتائج التي أفرزتها أشغال لجنة التحكيم الفلم الطويل برئاسة الكاتب فؤاد العروي ولجنة الفلم القصير  برئاسة محمد أولاد محند لم تخيب آمال عشاق السينما ( في غالبيتها) بل يمكن القول إن اختيارات لجنة تحكيم الفلم الطويل انقدت سمعة الدورة 18 التي كثر حولها القيل والقال. إن المراتب الأولى : الجائزة الكبرى ( حكيم بلعباس) جائزة لجنة التحكيم ( هشام لعسري ) جائزة الإخراج (احمد المعنوني) توجت أفلام قوية و متميزة من حيث اشتغالها ومتكاملة من حيث الإحالات  السينمائية الموجهة لها.

ثم مباشرة تأتي جائزة السيناريو (محمد بوزاكو)  وجائزة العمل الأول (خولة بنعمر) لابراز مواهب حقيقة مازجت بين الأطروحة وأسلوب عرضها بأشكال وأساليب مختلفة : ميل لواقعية صلاح أبو سيف عند بوزاكو في معالجته لذاكرة الريف الجريحة ، وأسلوب الموجة الجديدة الفرنسية عند خولة في مقاربتها لطموح النجاح رغم العراقيل الذاتية (الإعاقة البصرية)  والموضوعية (الانتماء إلى الفئات الدنيا)…

وبالنسبة للفلم القصير  كان لا بد للملاحظ الموضوعي أن يسجل أولا المستوى الرفيع لعدد كبير من الأفلام المشاركة و الحضور المتميز لطلبة مدارس السينما وهذا لوحده مؤشر ايجابي. وقد انحاز اختيار لجنة التحكيم أمام هذا التنوع إلى الأفلام المسنودة بإنتاج احترافي كبير والمبنية سينمائيا على إخراج قوي، ورغم بعض الملاحظات الطفيفة على الفلم “ايما” الفائز بالجائزة الكبرى يمكن القول أن هشام الركراكي مخرج الفلم بدأ ينسج معالم أسلوبه الخاص ( في الفلمين الأخيرين ) مما سيسمح له بتبوء المكان الشاغر في زعامة الفلم القصير المغربي .

وبعيدا عن سجال النتائج وردود الأفعال التي تثيرها, فان ما يهمنا في طنجة هو ما تطرحه من إشكالات إستراتيجية ومن أسئلة محورية حول السينما المغربية كأفق اجتماعي ثقافي انتروبولوجي  وفي هذا السياق سجلت مجموعة من الملاحظات ممكن أن تغذى فرضيات للاشتغال مستقبلا.أولها أننا أمام تحول عيني/كيفي للسينما المغربية. في طنجة قد  نكون عشنا على المباشر ( ليس صدفة أن استعمل لغة التلفزيون) معالم هذا التحول على المستوى الأجيال،على مستوى نمط الإنتاج وعلى مستوى نمط انجاز الصور وتركيبها. بل أنني توصلت إلى خلاصة  شبه سياسية عنوانها العريض أننا أمام حالة “نظام / عهد جديد أنتج نظاما جديدا  للصور”.

 ما هي تجليات ذلك ؟ على المستوى ألجيلي لأول مرة تشهد المسابقة الرسمية ميزان قوى لصالح الجيل الجديد : من أصل 15 مخرج ومخرجة في مسابقة الفلم الطويل حضر سينمائيين  اثنين من الرواد ( السبعينيات) والباقي ولج عالم السينما إما في أواخر العشرية الأولى للألفية الثالثة أوفي (الغالبية) في العشرية الحاضرة.

يمكن أن نجزم بالقول أننا أمام جيل ما بعد قاعة السينما . أي أن غالبية المخرجين الجدد لم يكتشفوا السينما في القاعة السينمائية بل عبر وسائط أخرى .

جيل لا يعرف من التراث السينمائي المغربي إلا القليل ’ بدون ذاكرة سينفيلية و مرجعية ثقافية محلية. وهو جيل ما بعد “كازا نكرا” ويتجلى ذلك في اللغة الساندة في الحوارات لدى المخرجين الشباب (دون الوعي أن تلك اللغة جزء من جمالية جنس سينمائي مجدد ) ، كما أنه جيل يتعامل مع الأفلام مع منطق الشبكات الاجتماعية  وخاصة  “يوتيب” كأفق للفلم وهذا ينعكس جماليا على طبيعة التقطيع والتركيب واشتغال الممثلين .

إنها إذن مرحلة جديدة تتطلب وعيا تاريخيا مطابقا.


اكتشاف المزيد من azulpress.ma

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

التعليقات مغلقة.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. الموافقة قرائة المزيد

اكتشاف المزيد من azulpress.ma

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading