شروط حياة اللغات: اللغة الأمازيغية نموذجاً

كي تحتل أي لغة مكانتها الطبيعية، وتقوم بجميع الوظائف التي كانت تقوم بها وتضطلع كذلك بالوظائف الجديدة فإنه لابد من سياسة لسانية واضحة المعالم. لكن لكي تقوم هذه السياسة الواضحة لا بد لها من شروط؛ فما هي يا تُرى هذه الشروط؟


الشرط الأول: الالتحام اللغوي: إن جميع التجارب العالمية تؤكد أن من أسباب استرجاع المكانة الطبيعية للغات التي كانت في طريقها إلى الانقراض إنما تكمن أساساً في شرط جوهري هو شرط الالتحام اللغوي للجماعة اللسانية؛ فبدون هذا الالتحام لا يمكن للغة، كيفما كانت، أن تعيش حتى وإن تدخلت الدولةُ لصالحها؛ وعلى هذا الأساس فإن المسؤولية الكبرى التي تقع على عاتق الجماعة اللسانية هي أن تعيد هيكلة وضعها الثقافي بما يجعل من لغتها أولوية الأوليات؛ وهذا ليس فقط باستعمالها في جميع السياقات (المنزل، المقهى، مكان العمل، المحاضرات، الندوات إلخ) واستهلاكها في جميع المناسبات ( الأعراس، الراديو، التلفزيون، المنشورات، الفن إلخ)، بل وكذلك في تجويد هذا الاستعمال (المعجم الجديد، المصطلح الذي يعبر عن مفاهيم جديدة، الأساليب إلخ) والبحث لها عن منافذ لكي تصبح لها الحظوة في أعين الأبناء والأجيال الصاعدة. واعتباراً للدور الكبير الذي يلعبه الفنانون والكتاب والشعراء في هذا الصدد، فإنهم يعززون هذا الالتحام ويمنحونه مادة ومشروعية وجوده… إنه، إذن، بدون هذا الالتحام اللغوي الواعي والقائم على الاستعمالين الشفوي والكتابي والبصري لها يصعب على اللغة أن تحيا.
االشرط الثاني: الأحادية اللسانية الترابية: إذ من الضروري أن يكون لهذه اللغة ملجأ تلجأ إليه؛ بمعنى أن تكون لها حدود ترابية تكون فيها هي المهيمنة؛ ولكي تكون مهيمنة بالفعل فإن القرار يعود بالدرجة الأولى إلى المتكلمين بها؛ فإذا ما هُم ما قرروا أن يقطعوا مع الثنائية اللغوية التي تدفعهم دائماً إلى استعمال اللغة المهيمنة ويكرسوا كل استعمالاتهم في اللغة الأصلية، فإن هذا يعني أنهم قد تخلصوا من الدونية ومن مركب النقص الذي يسكنهم وبالتالي استرجعوا ثقتهم بأنفسهم بأن يتحدثوا بلغتهم، وأما إذا ما قرروا غير ذلك فإنهم بكل تأكيد يكونون قد قرروا قتل هذه اللغة في ملجئها الأخير؛
الشرط الثالث: الحماية القانونية: وعندما نتحدث هنا عن الحماية فإنما نتحدث عن إعادة توزيع السلطة اللسانية داخل حدود ترابية معينة؛ إذ بدون توزيع عادل لهذه السلط يصعب مرة أخرى أن تحيا اللغة التي تعيشُ وضعية أدنى؛ إن القانون وحده لا يمنح الحق للغة، بل الذي يمنحها له هو المطالبة المستمرة للجماعة اللسانية بهذا الحق / الواجب والإلحاح في ذلك؛ ولأن المطالبة، كما هو معلوم، لها حدود لا يمكن تجاوزها، فإن الانتقال إلى مرحلة تملّك هذه السلطة لمنح الحق الواجب للغة يصبح أمراً مشروعاً ولا مفرّ منه؛ إذ لا يمكن أن يشرِّع للغة من لا يحس بوجدان الانتماء إليها؛
الشرط الرابع: معيرة اللغة: لكي تُستعمل اللغة مؤسساتياً، ولكي تضطلع بوظائفها السوسيو-لسانية على الصعيد الوطني لا يقتضي ذلك الكلام بها فقط في الأوضاع اللاشكلية المشار إليها؛ بل يقتضي ذلك معيرتها كي تصبح فعالة وقادرة على أن تستجيب للضرورات الوظيفية للدولة بوصفها اللغة الوطنية أو اللغة الرسمية المستعملة في جميع أنحاء الوطن وفي جميع القطاعات : البرامج الإذاعية والتلفزية، التعليم، الإدارة، البحث الجامعي، الآداب العالية، الملصقات، اللافتات، أسماء المؤسسات، خطب المسؤولين إلخ.
الشرط الخامس: تدريس اللغة والتدريس بها: ويُعد هذا الشرط جوهرياً في أن تسترجع اللغة مكانتها وحيوتها وتنجو من مآل الانقراض المحتوم؛ ويفترضُ هذا بطبيعة الحال إنتاج الترسانة البيداغوجية الملائمة والتهيؤ لتدرس بها المواد الأدبية أولاً، ثم تدرس بها المواد العلمية ثانياً؛ وليكن واضحاً أنه بدون التدريس بهذه اللغة يصعب عليها أن تتجاوز وضعها الهش؛ إذ بتدريس المواد نتعلم اللغة وليس العكس؛ كل اللغات التي استُعملت في التدريس نجت من الموت وكل اللغات التي دُرّست كلغة فقط ماتت أو في طريقها إلى الموت (نموذج اللغات الإقليمية في فرنسا مثلاً)؛
الشرط السادس: استعمال هذه اللغة في جميع القنوات الإذاعية والتلفزية وفي جميع أنواع التواصل الاجتماعي الحديث؛ ولهذا فإن المطلوب من الدولة (ومن الخواص أيضاً) أن تزاوج بين الاستعمال اللغوي المعيار (الاستعمال الوطني) والاستعمال اللغوي الجيهي الذي يقوم على الفروع اللغوية المحلية (الاستعمال الجهوي). بمعنى أن تنشئ إذاعات وقنوات تُستعمل فيها اللغة الوطنية / الرسمية وحدها، وتنشئ إذاعات وقنوات أخرى تُستعمل فيها اللهجات، مثلما يقع في كطالونيا ومنطقة الباسك وسويسرا (اللغة الألمانية) وبلجيكا.. .
هذه، إذن، بعضٌ من الشروط التي يمكن أن تنقذ لغتنا الأمازيغية من الهلاك. فهل تحققت لنا هذه الشروط منذ أن تمّ الاعتراف بنا سنة 2001 ثم سنة 2011؟
لكم وحدكم أن تستنتجوا….

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. الموافقة قرائة المزيد