سالمة شنيب ووالدها الأستاذ محمد شنيب أصدقاء الموقع ومجلة نبض المجتمع يكتبان من ليبيا الشقيقة، هما من أمازيغ ليبيا، يكتبان بالمداد الدافئ، عن قضايا ليبيا وعن معاناة شعب ليبيا مع الحرب المفروضة عليه..سالمة صديقة ودودة تكتب عن شخصيات بصمت على تاريخ ليبيا..ننشر لها تبعا مقالات عن شخصيات نساء ورجال لهم مكانة كبيرة وعظيمة لدى اللبيين ولدى كل ساكنة شمال افريقيا.
تكتبها سالمة شنيب //
المناضل الليبي سليمان باشا الباروني من أهم و أكبر المناضلين في تاريخ الجهاد الليبي ضد الإستعمار الإيطالي مؤرخ و أديب و شاعر ومن أبرز مؤلفاته “ديوان الباروني” كما له العديد من المقالات الصحفية والرسائل و المكاتبات ، صاحب شخصية فذة ، ومؤسس الجمهورية الطرلبلسية أول جمهورية في العالم الإسلامي و مؤسس المدرسة البارونية في يفرن من مواليد مدينة جادو 1873 و في فترة من الفترات كانت مدينة جادو ربما قبيل الحكم العثماني الأول او ماسبقه تعد مدينة أساسية و ايضا مقر ا للحاكم في جبل نفوسة , و كان سليمان الباروني شديد الفخر و الإعتزز بإسرته , أرسله والده الشيخ عبدالله الباروني إلى تونس ليدرس هناك في جامع الزيتونة { إسوة به} عام 1887 أي بعد سنوات قليلة من الإحتلال الفرنسي لتونس ليتزود بالعلم و المعرفة و قد استفاد الباروني كثيرا خلال فترة اقامته و دراسته في تونس. كما انه إستفاد بعد ذلك اثناء تواجده في جامع الأزهر في القاهرة في عام 1892 ليس فقط على مستوى التحصيل العلمي فحسب بل ايضا من خلال اتصاله بعدد من المصلحين التنوريين و من اهمهم الشيخ عثمان المكي و الشيخ محمد النخلي الى جانب احتكاكه بالحياة العامة في هذين البلدين و قراءاته الكثيرة ما اكسبه المزيد من الثقافة و فكر تنويري اصلاحي الذي كان من أهم أعلامه في تلك الفترة جمال الدين الأفغاني و محمد عبده . و بعد دراسته في مصر ذهب الى الجزائر و تحديدا إلى وادي ميزاب جنوب الجزائر ليستكمل علومه على يد الشيخ محمد اطفيش الذي يعد ايضا من شيوخ التنوير الإصلاحي الديني .حيث ربطت بينهما علاقة وطيدة بالرغم من فارق السن بينهما حيث كان يقدره كثيرا و يميزه عن بقية الطلبة من زملائه نظرا لنبوغه و ألمعيته .
و قام برحلة الى المغرب مر فيها عن طريق مالطا و مرسيليا الى تونس و الجزائر و وهران و تلمسان قريبا من فاس و في عام 1908 عاد الى طرابلس الغرب ليرشح نفسه ممثلا لجبل نفوسة في مجلس المبعوثين ثم سافر الى الاستانة ليدرس اللغة التركية و هناك توطدت علاقته بالعديد من رجال السياسة الاتراك . و عند بداية الغزو الايطالي و تحديدا في اكتوبر 1911 رفع راية الجهاد و النضال ضد الإستعمار الجديد و خاض عدة معارك خلال تلك الفترة و بالذات معركة الهاني الشهيرة ايضا بمعركة المنشية و التي كبد فيها المجاهدون الليبييون خسائر فادحة للإستعمار الإيطالي و التي شارك فيها أمازيغ ليبيا و معركة عين زارة و معركة سيدي سعيد , و نتيجة لمقاومته المستميتة ضدهم اصبح هدفا لمكائدهم و مؤامراتهم ضده .
ولكن بعد إنتصار المستعمر في معركة الأصابعة” أو معركة جندوبة” في 23 مارس عام 1913 إنقلبت الأمور في صالح الطليان حيث بدأت المقاومة الليبية تضعف مما دعا الباروني للسفر الى تونس و بعد فترة سافر الى لندن و هناك اجرى مقابلة مع مجلة { التيمس الافريقية } دافع عن نفسه كل التهم و الإشاعات التي الصقت به من قبل الطليان و من قبل خصومه بعد ذلك سافر الى الاستانة و هناك نال الباشوية .
في عام 1916 عاد الى طرابلس الغرب ليبدأ في حشد القوات فتح جبهة المقاومة ضد إيطاليا و اكثر من ذلك ساهم في دعم جبهة القتال في تونس لحرب فرنسا و قام بسد الرأب بين مصراتة و ورفلة و ساهم في المصالحة بين رمضان السويحلي و السنوسيين و كذلك الأمر بين مدن جبل نفوسة .
و مع نهاية الحرب العالمية الأولى في عام 1918 و انتصار قوات الحلفاء ومع هزيمة تركيا التابعة لقوات المحور بدأ الباروني بالدعوة لتأسيس الجمهورية الطرابلسية و شاركه في ذلك كل من رمضان السويحلي و عبدالرحمن عزام و الأمير عثمان فؤاد و مختار كعبار و ثم اختيار كل من الباروني و السويحلي و أحمد المريض و عبد النبي بالخير كرؤساء للجمهورية و استمرت الجمهورية الطرابلسية بعد اربع سنوات اي في عام 1922 و ذلك على الرغم مما حققته من بعض الإنجازات مثل الحصول على مزايا الدستور و السبب في ذلك يعود ان الإيطاليون لم يرضوا ان تتوحد شوكة الليبيبن و فرض شروطهم و بدأوا في بث الفتنة و زرع المكائد الى ان اشتعلت الحروب تسببت في مقتل المئات من الليبيين .
كل هذا و مع زيادة التهم الباطلة ضد الباروني باعتباره السبب في خلق الفتنة و زرع الفوضى و مقتل الليبيين مما تسبب للأسف في مغادرته للبلاد مرغما في عام 1922 بعد أن أخطرته السلطات الإيطالية بضرورة مغادرة البلاد و قد حدث ابنته زعيمة فيما بعد و هو يصف يوم مغادرته لطرابلس من على متن الباخرة حيث قال{ قد خالجني شعور عميق بأني لن أراها مرة أخرى فكادت جفوني تمتنع عن الحركة حتى أشبع من منظرها الحبيب و لم أنتبه إلى نفسي إلا بعد حين حين توارت وراء الأفق و غابت الأنظار}. سافر في البداية إلى إيطاليا نتيجة لعلاقته الجيدة ببعض العناصر الإيطالية و التي كانت تعارض الإستعمار الإيطالي لليبيا و لكنه لم يبقى هنالك طويلا حيث لم يكن وجوده هناك بالأمن فسافر بعدها الى نيس بفرنسا “حيث كانت فرنسا حليفة لإيطاليا في الحرب العالمية الأولى” حيث ثم وضعه تحت الأسر لمدة سنة و نصف و ذلك بإيعاز من قوات الحلفاء هذا الى جانب سحب كل مستحقاته و رواتبه من دولة مصطفى كمال أتاتورك التركية و بالرغم من ضغوط الخنق عليه فقد وجد لحسن الحظ حسن المعاونة من اصدقائه ابناء الجزائر من {اهل وادي الميزاب} “و من الجدير بالذكر بان المزابيين في الجزائر تهيمن عليهم الحركة الأباضية و لديهم إرتباط تاريخي وثيق بالأباضية بجبل نفوسة و خصوصا بزاوية الباروني بقرية البخابخة بيفرن و قد اخبرني والدي بان المزابيين كانوا دائما يحضرون الى مدينة يفرن الى فترة الستينيات القرن الماضي لاقامة ندوات ثقافية في زاوية الباروني”.
و من حسن حظه ان ملك الحجاز الشريف حسين اذن له بالدخول في مملكته فسافر الى هناك للحج و من ثم ذهب الى مسقط للاقامة هناك بعد ما سمح له بالبقاء و ثم استقباله بحفاوة كبيرة و هنا احب ان اذكر ان سليمان الباروني لم يكن مجرد زعيم للمقاومة و مجاهدا فقط بل كان رجلا سياسيا محنكا من المقام الرفيع حيث خلال إقامته في عمان “مسقط” لم يكتفي بالوقوف موقف الضيف المتفرج بل تفاعل مع جميع مظاهرالحياة العامة السياسية و وضع كل خبرته و جهوده في الاصلاح و الرقي بالبلاد و هو ما دفع بالسلطان الساحل تيمور بن فيصل لتقليده الوسام السعيدي كما عينه الإمام محمد بن عبد الله الخليلي الى تعيينه رئيسا لوزارته و يحسب له في سعيه للمصالحة بين الملك الشريف علي بن حسين و عبد العزيزبن سعود , كل هذا يدفع للتساؤل لماذا لا يلقى رجل بمثل هذا الوزن و القيمة التقدير الذي يليق به من قبل الدولة الليبية و اعطاءه حقه كرمز من رموز الدولة الليبية و كواحد من اكثر الشخصيات المؤثرة تاريخيا في مطلع القرن العشرين ” حيث انه كان يعد من بين اكثر مائة شخصية في بداية القرن العشرين في العالم.
و بالرغم من كل ما مر به سليمان الباروني في حياته من مصاعب و حروب و من المحن و الغربة فقد كان قوي البنية الى ان بدأ يعاني من مرض الملاريا و خلال تلك الفترة سافر الى العراق في عام 1929 بعد ان اذن له الملك فيصل بن حسين إبن صديقه الشريف حسين مرحبا به و واصفا اياه اي الباروني ” بالشخصية التي يقدرها الجميع و يعرف مكانتها ” و بالفعل نعم هناك بكل الرعاية و الاهتمام .
و على الرغم من سنوات النفي و الاغتراب عن وطنه لم يتوقف يوما عن مراسلة اصدقائه و اهله في ليبيا و كان دائما يضع في اولوياته قضية وطنه و كيفية تحرره من الإستعمار و كان يحلم دوما بالعودة الى وطنه في يوم من الأيام و لكن المرض بدأ يشتد عليه و في عام 1940 ” و كان وقتها قد رجع هو و عائلته الى مسقط و عمان ” ذهب الى الهند للعلاج هناك و تحديدا في بومباي ليتوفي هناك يوم 23 مايو 1940 حيث سقط مغشيا عليه و نقله رفقاءه العمانيون الى المستشفى حيث فقد القدرة على النطق و الحركة و ظل ينطق حرفي “ز…م” فقط و لم يفهم احد ماذا يعني بالضبط و ربما كان يقصد ابنته زعيمة و مات بعد حياة حافلة بالنضال و العذاب والمعاناة و الانتصارات و الخيبات و الغربة و من الجدير بالذكر انه قطع على نفسه وعدا بالا يحلق شعره الا بعد خروج الطليان من بلاده و اذكر له في صغري صورة في بيت جدي بيفرن و هو كما نقول بالليبي طالق شعره و أكاد اجزم ان هذه الصورة موجودة في كل بيت امازيغي و كما ذكر ذلك في احد قصائده الشعرية و التي كان مطلعها :
هذا هو الشعر الذي شهد الحروب الهائلات
و عليه أمطرت القنابل كالصواعق نازلات
رحم الله هذا الرجل الذي أعطى ليبيا الكثير و لم تعطه الحكومات الليبية الممتالية بعد الإستقلال حقه الذي يستحقه .
سالمة شنيب/ طرابلس//19/04/2020
اكتشاف المزيد من azulpress.ma
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
التعليقات مغلقة.