عزالدين بونيت …
قالها شيكسبير على لسان هاملت، ونقولها نحن اليوم، في غمرة الأحداث المتواترة هنا وهناك عن اعتداءات جماعية على أفراد يسيرون في الشارع العام. حدث هذا في طنجة قبل أسابيع حين أخذت مجموعة من الشباب على عاتقها تغيير المنكر بيدها وطبقت “حد شارب الخمر” على أحد المارة. وحدث قبل أيام في إنزكان وكان ضحيته فتاتا التنورة القصيرة، وحدث أخيرا في فاس مستهدفا أحد المثليين كان يلبس زي الإناث.
ما أن ينشر الخبر ويثير ما يستحقه من الاستهجان والتضامن مع الضحايا – كما هو حري أن يحدث في المجتمعات المتحضرة – حتى تخرج الوحوش المختبئة في خيالات الكثيرين واستيهاماتهم، داعية إلى المزيد من العنف والوحشية، ومستهجنة تلك الاحتجاجات وما تعبر عنه من استنكار لهذه التصرفات الهمجية. بل تتجاوز ذلك إلى الطعن في شرف المحتجين المستنكرين وأعراضهم ووضعهم الاجتماعي ونزاهتهم الأخلاقية وحتى الدينية. ولا تكتفي بتبرير هذا القصاص الجماعي غير المنظم الموجه ضد أشخاص ذنبهم الأول هو أنهم لم يعرفوا الحدود الجديدة التي شرعت بعض الجماعات في رسمها لسلوك المجتمع ولما هو مقبول وما هو مرفوض فيه؛ بل تجعل من هذا السلوك مصدر فخر وتدعو إلى تكريسه كنموذج لما ينبغي أن يكون عليه السلوك الأكثر رقيا في المجتمع.
المشترك في هذه الاعتداءات هو أنها جماعية وأن القائمين بها ذكور يظنون أن لديهم ما يكفي من الدواعي لذلك، وهي دواعي أخلاقية ودينية.
على شبكات التواصل الاجتماعي نرى أن الأصوات الداعمة لهذه التصرفات هي نفسها الأصوات التي تشكك بين الفينة والأخرى في مؤسسة “أمير المؤمنين” ومدى أهليتها، بل وإرادتها، للنهوض بما يعتبرونه مهمتها في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأخذ الناس بالقوة للذود عن القيم المرعية. ينكرون على مملكة أمير المؤمنين أن تكون فيها خمارات ومواخير وأرصفة لتجارة الهوى وملاه ليلية ومهرجانات موسيقية وسهرات فنية…
هل يمكن القول إن الاعتداءات المتكررة هي تعبير عن عدم الثقة في إمارة المؤمنين؟ أم أنها سعي إلى إحراج هذه المؤسسة، وبقية مؤسسات الدولة، وابتزازها للتخلي التدريجي عن المشروع المعلن لبناء مجتمع الحداثة؟
يعلمنا التاريخ القريب والبعيد أن تيارات واسعة من الحركات الدينية، تستند إلى مؤسسات الدولة القائمة من أجل تكريس هيمنتها. ولأجل ذلك، تكون مستعدة لإعلان ولائها للحكام القائمين مقابل أن يخلوا بينها وبين المجتمع تعيث فيه تأطيرا وتنكيلا. جرى ذلك في سودان جعفر النميري وفي بعض فترات مصر أنور السادات. أما الدول التي حاولت تجاهل تأثير هذه الجماعات مثل إيران آل بهلوي (الشاه)، فقد أدت الثمن غاليا.
لذلك نعيد إلى الأذهان الحادثة الغريبة التي شهدها القضاء المغربي في بداية الألفية، فيما عرف بمحاكمة عبدة الشيطان. كان الأمر في الواقع بمجموعة من الشبان يحبون نوعا معينا من الموسيقى، وجهت إليهم تهمة مضحكة هي أنهم يعبدون الشيطان. غرابة هذه المحاكمة لا تخفي الدلالات العميقة لها والتي يسلط عليها الضوءَ السياقُ الذي أجريت فيه، وهو سياق ما بعد الصراع المجتمعي والسياسي حول ما عرف آنذاك بـ”الخطة الوطنية لإدماج المرأة في التنمية”، والذي انقسم حياله المتصارعون إلى فريقين: دعاة التحديث ودعاة التمسك بالأصالة والتقاليد. هذا السياق الذي مهد للأحداث الإرهابية لـ 18 ماي 2003. محاكمة عبدة الشيطان كانت رشوة قدمت للأوساط المحافظة من أجل إعادة ترتيب الملفات. واليوم تضغط الأوساط ذاتها من أجل الوصول إلى مزيد من التراجعات.
لهذه الأسباب والملابسات، أظن أن ما يحدث هو مؤشر على أزمة عميقة يمر منها مجتمعنا، لا تكفي في مواجهتها المظاهرات الصغيرة المستنكرة هنا وهناك، ولا الاصطفافات الإيديولوجية خلف هذا التيار أو ذاك، ضد هذا او ذاك. نوجد اليوم في مفترق طرق بين استكمال بناء دولة المؤسسات والقانون أو انحسار الدولة وتفاقم عجزها عن تأطير المجتمع وتنظيم العلاقات بين أفراده وجماعاته. لذلك أراني أساند الدعوة التي عبر عنها حميد شباط بالأمس إلى تنظيم حوار وطني عميق حول قضايا الهوية والسياسة والأخلاق والشأن العام ومعنى المواطنة، حوار غير سياسوي قادر على استخلاص ميثاق اجتماعي مشترك بين كل حساسيات المجتمع وتياراته. ومن الواضح أن المجتمع – كل مجتمع – لا يمكنه أن يفتح كل ملفاته العالقة دفعة واحدة؛ لأن طبيعة المجتمعات أن تغلب عليها النزعة المحافظة، وأن تحتاج وقتا طويلا لتقبل وهضم كل قيمة جديدة. ذلك أمر يحتاج إلى عمل طويل النفس، يبدأ من النظام التربوي ويمتد إلى الحراك الثقافي للمجتمع.
اكتشاف المزيد من azulpress.ma
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
التعليقات مغلقة.