بمناسبة حلول موسم سيدي وساي بقبيلة ماست/ ماسة، (إقليم اشتوكة أيت باها) اتقاسم معكم شذرات من تاريخ هذا المشهد التاريخي والساحلي، اسهاما منا في التعريف بالموقع وادواره التاريخية، الاجتماعية، والدينية. املين ان نساهم بقسط بسيط في سبل تثمين هذا الموروث اللامادي ومساعدته في مقاومة عوامل الاجتثاث، ما ظهر منها وما بطن، من مواقف سياسية وايديولوجية اقصائية واحتقارية للذات وتمجيد للغير.
سيدي وساي: تأويلات ممكنة لتاريخ مشهد ساحلي مشهور (الجزء الأول)
مشهدان متقابلان، على شاطئ فسيح، يفرق بينهما مصب واد ماست شيخ الاودية المغربيةـ كتبان رملية متموجة تمتد الى افق البصر، وتشكل بطاقة بريدية جميلة ومتقنة التصوير، صورة طبيعية ساحرة تزينها زرقة المحيط الهادر، ينضح منه رذاذ ناصع البياض كأنه حبات من فضة خالصة، براقة وسط أشعة شمس دافئة تبدو الصورة التي نصفها وكأنها لوحه فنية مذهلة، حيث يتميز الشاطئ بتباين رائع بين الرمال المتموجة وزرقة المحيط الهادر.
المصب يفصل بين المشهدين يضيف بُعدًا إضافيًا يعزز جمال الطبيعة. رذاذ المحيط اللامع كحبات من الفضّة الخالصة تلمع تحت أشعة الشمس الدافئة، مما يضفي على المشهدين إشراقة وحيوية قوية. كل هذه العناصر مجتمعة تشكل منظرًا طبيعيًا ساحرًا، يُظهر جمال الطبيعة الخلاب بأدق تفاصيله.
ويفسر لنا لماذا اختار المتصوفة ان ينعزلوا هنا في هذا الجمال الطبيعي دو المناظر الساحرة، بيئة ملهمة وهادئة، شكلت عنصرا مساعدا على التركيز والتأمل بعيدًا عن صخب الحياة اليومية. لا شك ان الهدوء الذي يوفره البحر ورمال الشاطئ يعزز من القدرة على التفكير العميق والتواصل الروحي لأصحاب الولاية.
انه مشهد سيدي الرباط الذي ينام على العدوة اليمنى، الشمالية لواد ماست، ويقابله مشهد سيدي وساي على الموضع الشمالي الغربي لمصب الواد التاريخي، واد ماست المعروف. بنيان على ربوة عالية وكبيرة من الحجر المنجور تعلوه قبة بارزة تشكل منارة لكل ناضر قريب من سيف البحر عندما يسقط الضباب على المكان. بنيان يعانق الأمواج عند قدمه في الجهة الرابعة المفتوحة على البحر المحيط.
بنيان على ارتفاع معتدل تحمله طبقة صخرية رسوبية مغطاة برمال شاطئية الوانها لا تختلف عن مثيلاتها واخوتها الأخرى… وانت تتأمل السكينة التي تعم المكان، والأصوات الطبيعية من أمواج البحر ورذاذ المحيط تخلق امامك خلفية صوتية مريحة، تقلل من مصادر الإلهاء وتساعد على الوصول إلى حالة من السكون الداخلي. هذا الهدوء لا شك انه يساعد المتصوفة على الانفصال عن هموم الحياة والتركيز على الروحانية العميقة. الانعزال او العزلة في المناطق البعيدة عن التجمعات السكنية وتحيط بها الطبيعة توفر عزلًا حقيقيًا لمن أراد السفر في بنايته الداخلية ومجاورة الافاق الرحبة، وهو مطلب المتصوفة وغايتهم لتجنب الاضطرابات والمشتتات التي تأتي من الحياة الاجتماعية.
هذا الاتصال بالطبيعة يشعر المتصوفة بأنهم أكثر قربًا من الروحانية في أحضان الطبيعة. فالمشهد الطبيعي الخلاب يُعدّ إشارة وتجسيدا للروحانية الكونية، مما يخلق إحساسًا بالترابط والتلاحم مع الكون، في مسيرة التأمل والبحث عن المعنى هذه لبيئة الجميلة والهادئة توفر خلفية مثالية للتأمل العميق والتفكير في المعاني الروحية العميقة. الشاطئ والمحيط يمثلان على الدوام رموزًا قوية في التقاليد الروحية، مثل اللامتناهي والسرية.
وبالتالي، فإن جمال الطبيعة وهدوءها في هاذين المشهدين ليس مجرد منظر طبيعي رائع، بل هما عاملان أساسيان يعززان من التجربة الروحية للمتصوفة، ويعطيانهم مساحة هادئة ومُلهمة للتأمل والانعزال. تلكم هي صورة المشهدين.
عندما يتأمل المرء مشهد سيدي وساي من بعيد، ينتابه شعور بالرحلة عبر الزمن، حيث يتجاوز خياله العصور والأحقاب، متجاوزًا كل ما يحيط بالموقع. يبدو هذا المشهد كأنه قطعة من التاريخ العتيق، يتجاوز مناظرها القاحلة التي يهيمن عليها الرياح وهدير البحر ليعكس إحساساً بموقع قديم وأبدي.
هذا البنيان في هذا الموقع، الذي يبدو وكأنه شيد في صحراء قاحلة، يذكر بالأيام القديمة جدًا. بنيان يتجلى فيه فن البناء المغربي الأصيل، حيث يظهر التصميم المعماري كتحفة فنية تعكس براعة مهندسيها في استخدام الموارد المتاحة. في البداية، كان الهيكل مصممًا كمَسجد رفع بأضلاع سمك البالين الضخم، عوارض تحمل السقف، وهو اختيار غير استثنائي ويعكس الظروف البيئية الخاصة بهذه المنطقة البحرية التي تتميز بقلة الموارد مثل الخشب والحجر اللهم ما توفر في مصاخر مجاورة ولكن لا تفي بالغرض على العموم نظرا لقلتها وهشاشتها بفعل كثافة التعرية الساحلية القوية والنشيطة.
مع مرور الزمن ازدادت شهرة المقام وازداد الإقبال عليه، ومن تم ظهرت الحاجة الملحة في توسيع وتجديد البنيان ليأخذ شكلًا حصينًا يتناسب مع تطور دوره. أصبح الموقع معلمًا متكاملًا يضم:
الضريح الشامخ المقبب: مكان مهيب يجذب الزوار ويعكس الأهمية الدينية والتاريخية للموقع.
البهو الأنيق: مساحة واسعة تسع لزوار الموقع، مما يجعله أكثر راحة وجاذبية.
بئر ومتوضأ: لتلبية احتياجات الزوار من الماء وتوفير أماكن للوضوء.
مسجد للصلاة: وهو مكان مخصص للعبادة يعكس أهمية الدور الديني في الموقع.
زاوية وقرية صغيرة أنيقة: تشير إلى تطور الموقع الذي غدى مركزًا مجتمعيًا ودينيا، يتوفر على مسالك وممرات مفتوحة.
إلى جانب ذلك، توجد مدافن ومردومات قديمة إلى يسار القبلة، مما يعكس قدم الاستقرار التاريخي البشري في موقع المشهد دو الرمزية الدينية العميقة للمكان.
منحدر مغمور بالرمال إلى يمين القبلة، شيد فيه مذبح لذبائح القربان، وهدي الموسم مما يشير إلى شيوع طقوس الذبح وفق التقاليد التاريخية والدينية المعروفة في حمى المزارات.
وانت تولي وجهك خارج المشهد تتراءى امامك بئر أثرية قديمة تشكل شاهدا ماديا على قدم الاستقرار البشري في هذه الربوع الجميلة، وتساهم في إظهار بعض من تاريخ وتطور الموقع عبر الأزمنة التاريخية.
إجمالاً، يُظهر مشهد سيدي وساي تطورًا مستمرًا وتناغما عريقًا، يعبر عن انسجام فريد بين فن البناء المغربي الأصيل والحياة الروحية والعقائدية التي تطورت عبر العصور. (يتبع…)
*الحسين بوالزيت صحفي وباحث في التاريخ
مدينة سلا في 12 غشت 2021.
اكتشاف المزيد من azulpress.ma
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
التعليقات مغلقة.