بتاريخ 30 غشت 2022، كانت لي، صحبة الصديق أحمد بايدو، زيارة للموسم الديني و التجاري سيدي حماد أو موسى، بالجماعة التي تحمل نفس الاسم بإقليم تزنيت. وتأتي عودة تنظيم هذا الموسم بعد توقف اضطراري لثلاث سنوات بسبب جائحة كورونا، التي يحتاج تأثيرها على المستوى الثقافي لدراسات معمقة، تسمح بالوقوف على الثابت و المتحول وكذا المنقرض في العديد من الممارسات الثقافية، ومنها المواسم.
وصلنا مباشرة بعد ذهاب الوفد الرسمي برئاسة الحاجب الملكي الذي قدم الهبة الملكية لشرفاء سيدي احمد أو موسى. كان استقبالنا بحفاوة بمقر رابطة شرفاء سيدي حماد أو موسى من طرف الأستاذ البشير بن الشريف، أحد أحفاد الولي وعضو الرابطة المشرفة سنويا على تنظيم الموسم، كما استقبلنا أيضا بعض أعضاء الرابطة والسيد رئيس المجلس الجماعي. كانت الفرصة مواتية للحديث مع الرئيس بخصوص وضعية الإرث التاريخي لمجال ايليغ، وسبل حماية وتثمين ذاكرته الثقافية ومآثره التاريخية.
فكل شبر من مجال ايليغ ينطق تاريخا و كل جماد من حجر و شجر ينطق أنثربولوجيا. ومن خلال حديثنا مع الأستاذ بن الشريف الذي يبدو أنه أصبح من حفاظ ذاكرة المكان وأحد المراجع الأساسية في تاريخه، تعرفنا على جزء من حياة الولي أحمد أو موسى الذي عاش بين 1460 و 1563. كان متصوفا و ذو مكانة هامة في زمانه. له خمسة أبناء : سيدي عبد الله وسيدي محمد و سيدي عبد الباقي و سيدي علي وسيدي لحسن.
الأربعة الأولون دفنوا جميعا قرب أبيهم بالضريح في حين دفن الخامس “سيدي لحسن” باولاد مطاع نواحي مراكش، وينظم هناك موسم خاص يسمى “سيدي لحسن أو سيدي أحمد أو موسى” بعد أسبوعين من هذا الموسم.
في كل موسم هناك ثلاثة قبائل تأتي كل واحدة منها بذبيحة “تيغرسي” كبرى (بقرة) وهي : اداوسملال، اداوبعقيل، اداولتيت. ويقصد باداولتيت حسب مخبرنا “أيت الثلث” أي “أصحاب الثلاثة” نسبة لثلاثة أشخاص يحملون اسم أحمد و هم : أحمد أسملال وأحمد أبعقيل و أحمد أرسموك، وهو ما ذكره أيضا بول باسكون.
وهناك قبائل أخرى تأتي بذبائحها في أزمنة متفرقة من السنة، أما الذبائح الصغرى (المعز مثلا أو الغنم) فهي كثيرة، لكنها في تناقص في الآونة الأخيرة. كما توقفت اداوبعقيل عن تقديم ذبيحتها تحت تأثير بعض الأفكار المعادية لهذه الممارسة.
للتذكير كان هناك شخص يأتي باثني عشرة ذبيحة من المعز الكبير، فيذبح واحدة ويهدي الباقي لأحفاد الولي. بالنسبة لذبيحة اداوسملال كان نصفها يصرف على المصالح العامة للضريح والنصف الآخر يهدى للمدرسة العتيقة. أما الأخريات فبعد ذبحها تشرى من طرف الجزارة أو من يرغب في ذلك بعد تقييم ثمنها ويذهب المبلغ المحصل عليه لصندوق الضريح. ويتوفر هنا على صندوقين : صندوق الذبائح (يتواجد بمكان يسمى “ايمي أوكشوض”) ويفتح يوم الجمعة وصندوق التبرعات (يوجد داخل الضريح) ويفتح يوم السبت.
كما يتبرع الزوار للضريح بالشمع أو الزرابي أو الكتان، وهذا الأخير هو الذي بقي في حين لم يعد الزوار يتبرعون بالباقي. والكتان بدوره يباع في “دلالة” إلى أن يستقر على مبلغ معين فيوضع بدوره في صندوق التبرعات. وهذا الصندوق يفتح على مرتين : المرة الأولى يوم السبت من أيام الموسم، ثم يغلق ليستقبل تبرعات أخرى ويفتح بعد أربعين يوما في موسم خاص بقبيلة “امجاض”، يشترون فيه حاجياتهم للموسم الفلاحي المقبل وفي شهر مارس ينظم موسم آخر خاص بالتبضع في كل ما تحتاجه القبائل في النصف الثاني من السنة.
أما أولاد سيدي أحمد أو موسى وحفدته من الذكور، وهم مسجلون بدقة في سجلات خاصة منذ فترة الحماية ويتم تحيينها دائما، فيتوصلون جميعا في كل موسم بحقهم من المبالغ الموجودة في الصندوقين بعد خصم بعض مصاريف التسيير.
فقد يصل مبلغ “صندوق الدبائح ما بين 20000 و30000 درهما في حين قد يصل مبلغ صندوق التبرعات ما بين 28000 و 32000 درهما، وحين توزيعها قد يصل نصيب كل فرد تقريبا بين 100 و150 درهما. ويتم ذلك بالتناوب بين أبناء و حفدة كل ابن من أبناء الولي وفق هذا الترتيب (سيدي على، سيدي لحسن، سيدي محمد، سيدي عبد الله، سيدي عبد الباقي)، وهو ما يجعل كل حفيد يحصل على نصيبه مرة كل خمس سنوات ويختلف مبلغه بكثرة أو قلة عدد الحفدة الذكور، لأن النسب هنا يمر عبر الذكور فقط.
وعلاقة ايمجاض بسيدي حماد أو موسى هي أن الولي في حياته استقدم أربعين (أو أربعة و أربعين) شخصا من هذه القبيلة لبناء المدرسة العتيقة لتازروالت، ولذلك بنيت على أربعين سارية، وكل شخص من هؤلاء أخد معه جزءا من سارية وفرقت على قبائل “تيزلمي”: ادموسى، أيت همان، ايت علي ن تاكوت، ادبنيران، ادناصر…، لكون الولي أحمد أو موسى استقر أولا بمنطقة تسمى “أضار ن الشيخ” بجبل يعرف ب”تيوانامان” قبل أن يستقر بتازروالت.
وتسمية “أضار ن الشيخ” تحيل على صخرة كبيرة حط عليها الولي قدمه فرسمت على الصخرة حين أراد أن “يجر الشمس” ولذلك يقال أن سيدي حماد أو موسى يعتبر من “انجباد ن تافوكت”و لازالت آثار قدمه ترى إلى اليوم، وفي إحدى حفر صخرة كبيرة استطاع تحريكها وأخرج عينا تحمل اسم “عين تيزنيلت” لازالت سائلة إلى اليوم.
وكل هذه الكرامات تبين أن الولي الصالح قطب وولي الله بل هو ولي الأولياء الذين يبلغ عددهم 366 ولي.
يحكى أن سيدي محمد بن يعقوب بتنالت (توفي سنة 1555؟) كان مريضا واختفى عن الأنظار إذ بحث عنه الأولياء في كل مكان إلى أن دلهم عليه سيدي أحمد أو موسى تحت شجرة “تازارت-الكرمة”. ثم طلب منهم سيدي احمد أو موسى أن يبقوا جميعا بمحاذاة الولي المريض إلى أن يشفى، فبقوا بجانبه يحرسونه بالتناوب لمدة سنة و يوم. وبعد شفائه تكون سبعة رجال بمراكش. ولذلك قال المرحوم سيدي الحاج الحبيب، على لسان أحد طلبته سيدي محمد ن أدوز قال : ” المغرب سلطان العالم، وسوس أحسن من المغرب، وجبال سوس أحسن من سوس”. أتعرفون لماذا؟ لأن كل أولياء الله مستقرون بجبال سوس”.
ولولي أحمد أو موسى علاقات مع معاصريه من الأولياء ومنهم الولية الصالحة لالة تعزا تاسملالت. ويحكى، على لسان أحد مخبرينا الشريف لحسن ادوفقير، أن الوليين سيدي أحمد أو موسى و سيدي محمد بن يعقوب أوسيدي محمد أوبراهيم أرادو امتحانها إن كانت هي أيضا تتوفر على كرامات، فقرروا أن يطلبوا منها إعداد وجبة “تاكلا-العصيدة” مذهونة بالعسل و شيئا من الدقيق. وقبل أن يصل سيدي محمد بن يعقوب إليها ليخبرها علمت بذلك فهيأتها قبل وصولهم. كانوا ثلاثة يمتطون سباعا. لكن حين وصلوا خرجت ثلاثة تعابين لاستقبالهم، دون أن يمسوهم بشر. وبعد أن أنهوا الأكل وأرادوا الخروج هددهم الثعابين فطلبوا النجدة من لالة تعزا التي أجابتهم بأن الجنون وحدهم من يستطيع مواجهة الجنون، في إشارة لمجيئهم ممتطين سباعا.
وهنا بينت لهم بأنها بدورها تتوفر على البركة. وطلبت من سيدي أحمد أو موسى أن ينفخ في الثعابين لتغبر، وهو ما كان. وهنا تيقن الثلاثة من بركة لالة تعزا، وطلب منها سيدي أحمد أو موسى أن لا يصيب أي ضرر أبناءه من الثعابين، و هو ما كان، و لذلك و إلى اليوم لا يضر سم الثعابين أبناء و حفدة سيدي أحمد أو موسى، على حد قول مخبرنا.
وقبل وفاتها دعت أحمد أو موسى ثلاث مرات دون أن يجيبها قبل أن تدعوه في الثالثة ب “يأ أحمد الأحمق” فأجابها ثم قالت له “تعال لأخبرك عما يسأل الله الإنسان يوم القيامة” : “اكنزي ايواكال د أوكلزيم ايواكال د أوعبود ايحمان ايوحليك ايخوان أ حماد ايخلان” أي “الجبهة على الأرض (في إشارة للصلاة) والفأس للأرض (في إشارة للعمل لله) و لقمة ساخنة (في إشارة للصدقة) للبطن الفارغ (في إشارة للجائع) أيها الأحمق. ذلك ما ستسأل عنه عند الله.
وفي طريقنا بين مقر الرابطة و ضريح الشيح سيدي أحمد أو موسى تحس بهيبة المكان وحمولته الثقافية و التاريخية، حيث يظهر لنا مكان الذبح “المجزرة” على اليمين قبل أن ندخل من “ايمي أوكشوض” حيث يجلس أشخاص يحرسون صندوق الذبائح. تظهر على اليمين “تاركانت ن شامهاروش” التي يعتقد أن بها جنونا يرقصون ليلا، سبق لمخبرنا أن شاهدهم بأم أعينه (حسب قوله)، و هو ما يجعل الأحجار المحيطة بها تسقط في كل مرة، وبعدها تظهر مقبرة أبناء وأحفاد الولي الصالح حين كانت خاصة بالشرفاء فقط، قبل أن يقبل أن يدفن فيها الجميع، وبعيدا شيئا ما على اليمين دائما تظهر “تاركانت ن أوسونفو” أو “تاركانت ن ليتيهال” حيث كانت النساء المطلقات سابقا يجلسن في انتظار من يطلب يدهن للزواج بالفاتحة.
لقد انقرضت هذه الممارسة حاليا بسبب تغير الذهنيات و لكن أيضا حسب مخبرنا بسبب تصرفات بعض الأشخاص الذين لا يفهمون الإطار الثقافي للممارسة.
وهذا ما أدى إلى إهمال هذه الشجرة حيت بدأ حجمها يتقلص، وقد تموت نهائيا يوما ما.
أما على اليسار فيظهر الممر المعروف ب”السراط” وفي وسط التل تظهر بقايا بناية حجرية صغيرة يقال أنها البيت الأول لسيدي أحمد أو موسى.
وبوصولنا للضريح وجدنا النساء على اليمين و الرجال على اليسار يدعون و يتلون القران، كما نجد في الوسط قبر سيدي أحمد أو موسى وبجانبه قبور أبنائه الأربعة (الخامس مدفون ضواحي يمراكش).
وبجانبه باب صغير يخفي اللوحة الخشبية “تالوحت” التي كان سيدي أحمد أو موسى يحفظ فيها القران. لم يعد يظهر منها إلا بعض السطور يعتقد أنها بقايا آيات قرآنية مسحت من كثرة تبرك الناس باللوحة، وخلال تواجدنا بعين المكان يمر الأشخاص فيلمسون اللوحة ثم يمسحون وجوههم تبركا.
أما القبة في الأعلى فهي مزينة و مزركشة بطريقة بديعة تتوسطها ثريا فريدة من نوعها مهداة حسب مخبرنا من طرف السلطان الحسن الأول.
أما صانع القبة فيقال أنه يهودي قتل مباشرة بعد إتمامه صنعها خوفا من أن يصنع مثيلا لها في مكان آخر.
وبعد وضع مساهمة رمزية في الصندوق والحصول على دعاء المكلف بذلك غادرنا المكان وسط جموع من المتسولين و المتسولات في اتجاه “تاركانت ن ايسمكان” (أركانة العبيد) قرب مقر الجماعة.
وهي شجرة كبيرة خضراء عكس “تاركانت ن ليتيهال”. وتحيل “تاركانت ن ايسمكان” إلى المكان الذي كان العبيد يباعون فيه في زمن الحسين أو هاشم، وفق معايير مختلفة حسب نوع العبد المطلوب والعمل المنتظر منه.
وبذلك تنتهي زيارتنا الثقافية، على حسرة غياب أي تثمين لهذا الموروث الغني. فلا وجود لأي علامات تشوير تحيل على كل ما ذكرنا ولا وجود لأي يافطات تعرف بالأماكن و حمولاتها التاريخية التي ظلت منقوشة في الذاكرة وتتناقل شفويا وتقاوم النسيان.
الحسين بويعقوبي
اكتشاف المزيد من azulpress.ma
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
التعليقات مغلقة.