سوس والرعي الجائر: جرح الإهانة الغائر
إنها جروح نافذة عميقة، تحدث فينا نزيفا داخليا، وتخلف رضوضا في الباطن لن؛ تندمل أبدا. ونحن؛ نشاهد ما يقع في بوادي وسفوح جبال سوس، من عنف لفظي ومادي ورمزي، واهانة مستمرة، وهجوم على أملاك الناس وحقولهم، من طرف بعض( ليس الجميع) غلاة الرعاة الذين يمارسون الجور على الناس وممتلكاتهم برعي ماشيتهم أحيانا، واستفزازاهم وعنفهم في أحايين كثيرة.
فلابد أن نشير إلى أن تلك البقع التي تقع فيها هذه المواجهات العنيفة، هي مجالات استثنائية ولها خصوصيات كثيرة، يجب استحضارها وأخذها بعين الاعتبار. ويمكن تحديد حدودها الجغرافية من أحواز أشتوكن ضواحي وادي أولغاس( واد ماسة حاليا) مرورا بأزغار تيزنيت إلى تخوم وادنون وهضبات آيت باعمران في الاتجاه إلى بلاد ايت براهيم ثم تمنارات والعودة على محور الاطلس الصغير مرورا بقبائل امجاض وايداگوگمار وايداوسملال وعموم ايداولتيت، صعودا جبال تافراوت ومنبسط أملن ثم ايت عبدالله واغرم، ونزولا على أطراف وحافة وادي سوس الجنوبية بمنطقة اسندالن وإمي مقورن لتضم كل جبال ايت باها وايلالن وايدوسكا العليا والسفلى. فمهم جدا تحديد وضبط المجال الجغرافي والاجتماعي والثقافي الذي يرتاده هؤلاء الرعاة ويتخذونه مرتعا لرحالهم وترحالهم. إنه باختصار وطن وبلاد جزولة، أو تاكيزولت، الحلف السياسي وليس القبيلة.
وهي آخر الحواجز الطبيعية والتضاريسية الجنوبية للمغرب الشمالي تقف جاثمة على أبوب المغرب الصحراوي، وهي جبال وهضاب كلها مكسوة ومغطاة بشجرة أركان، كراحة يد خضراء مبسوطة بين الأطلس الكبير والصحراء. إنها جبال تقف ممانعة ومقاومة لزحف الرمال والتصحر منذ آلاف السنين إن لم نقل الملايين من السنوات. وبالتالي فبلاد جزولة هي بمثابة محمية طبيعية ليست وطنية فحسب وإنما عالمية، يستوجب العناية بها، وتحصينها، ليس بالمفهوم الإداري والغابوي للمحميات التي تنشأها الدولة على الطريقة التي ورثتها من الاستعمار التي تستهدف نزع الأراضي من السكان والقبائل.
كما أن هذا المجال الذي قلنا إنه بلاد جزولة، يعتبر أيضا محمية اجتماعية وثقافية، وهو المجال الذي لا يزال محصن بأمازيغيته ومؤطر بمنظومة ثقافية ذات خصوصية تاريخية وحضارية، وبخلاصة فبلاد جزولة اليوم تقف مقاومة للجفاف والتصحر والفقر والعطش والهجرة ثم التعريب، نهايك عن الرعي الجائر، ومؤخرا تجابه الوباء. فلكم أن تتصورا ساكنة جبال جزولة وهي تقف في مواجهة كل هذه الآفات والطورائ وتعيش في خضم هذه الأزمات.
وقدمنا اطلالة سريعة لهذه المناطق الشاسعة والمترامية الأطراف، التي تتعرض اليوم لهجوم واستفزازات الرعاة الذين يمارسون الجور، وندعو الى تعميق المعرفة في خصوصيات وتاريخ هذه المناطق الممتدة جنوب سوس، وكرس المؤرخ “المختار السوسي” كل حياته للتعريف بها تاريخيا وعلميا وسياسيا واجتماعيا وانثروبولوجيا، ولم يكن يهتم بذلك المشروع الضخم الذي أنجزه، إن لم تكن الدواعي لذلك، وقد أفصح عن بعضها.
فلماذا يتعرض سكان جزولة لهذه الهجمات والاستفزازات من طرف بعض الرعاة المرتحلين؟
قد يكون ذلك ناتج عن الضريبة الطبيعية على اعتبار أن الأطلس الصغير يقع مباشرة شمال الصحراء، ويشكل بذلك مبتدأ المراعي أمام قطعان الرعاة من ماشية وإبل. ومادام أن الرعي والترحال عادة قديمة جدا في تاريخ المغرب، واشتهر بها الزناتيون والصنهاجيون أكثر بكثير قبل قدوم القبائل البدوية من الشرق. واذا كان أيضا؛ الرعاة يسيرون بتقليد تاريخي بحثا عن الكلأ والمرعى، فلماذا هذا العنف المادي والرمزي الذي يمارسه بعض الرعاة ويقومون بتصويره وتذييعه ليراه الجميع؟
ويظهر من خلال الكثير من مقاطع الفيديو المنشورة عبر وسائل التواصل الفوري، أن بعض الرعاة يفتخرون بذلك العنف والألفاظ النابية التي يسبون بها السكان العزل وكبار السن والشيوخ والنساء، إنهم يتعمدون ذلك، ويعطون صورة على أنهم لا يخشون أحدا ولا يؤطرهم أي قانون ولا يخافون من المخزن، فقد سمعنا تهديداتهم في حق الجميع. في حين تبدو الساكنة مسالمة وتدافع عن أملاكها برزانة وتعقل وحذر شديد. وهي صورة الانسان الامازيغي الذي تؤطره منظومة ثقافية. وهذا لا يعني بالضرورة جبن وخوف، لان تلك الجبال والقمم الجزولية حافلة بذكريات البطولة والمقاومة والبارود على مر العصور، ولعل جبال ايت باها وايت عبلا شاهدة على ما نقول. فإلى متى ستبقى هذه المناطق المتاخمة للصحاري والبراري الجنوبية تؤدي الضريبة أمام أعين الدولة.
كل هذا يؤدي بنا إلى سؤال جوهري مفاده، هل الدولة فشلت في تدبير الرعي المتنقل؟ وهل فشلت في فرض النظام بالجبال وحماية ممتلكات الناس وفقا للقانون.
تاريخيا وسوسيولوجيا، نعرف أن الرعاة الرحل لا ينضبطون للمخزن، بل في فترات تاريخية يشكلون ذرعا واقيا للمخزن لفرض قوته على مجال متمرد، وهذا ما فعله المرينيون بجزولة حين اقتطعوا للبدو والرحل مجالات شاسعة خرجت من سلطتهم، وهي المجالات الذي نتحدث عنها الآن، من سوس إلى الصحراء، وكانت هذه القبائل المتشكلة من بنو معقل بالخصوص تؤدي ضريبة إجبارية للمخزن المريني تسمى “جمل الرحيل”، ومن خلال هذه التسمية يتبين المعنى الحقيقي لمصدرها وكيفية جمعها من السكان والقبائل، حيث كانت هذه القبائل تمارس النهب والغزو والجور على طرق التجارة وتأكل المراعي ومزروعات الناس وحقولهم، وحين روعت هذه القبائل البدوية سوس وبلاد لمطة والصحراء إنقلبت على بني مرين. لنفهم أن تلك القبائل البدوية التي تزاوج بين النهب والرعي كانت لها “وظيفة سياسية” لدى المخزن، ثم أصبحت فيما بعد أسلوبا “للتمرد والعصيان”، وقد عاش ابن خلدون فترة نزوح هذه القبائل إلى الجنوب ونزولهم في نول قاعدة السوس الأقصى وما اليه وينتجعون كلهم في الرمال.
قلنا هذا الكلام، لكي نفهم أن الرعي هو عملية تاريخية تدور على نفسها خلال فصلي الربيع والصيف من كل سنة، وبالتالي فهو ليس طارئ في المجتمع وإنما هو تقليد اجتماعي وتاريخي عريق. ومن ثمة خلق له الامازيغ منظومة معرفية وقانونية شاملة تتحين عبر الظروف والسياقات، من اجل تفادي الحروب والمواجهات الدامية بين المستقرون والرحل، سواء كانوا يمارسون الانتجاع بين السهل والجبل في الشتاء والصيف، أو كانوا من الذين يمارسون الترحال العابر والموسع. ومن المدهش بمكان، أن إحدى قبائل صنهاجة أمازيغ الصحراء كانت تسمى قبيلة كدالة، إي إيكدالن، وهي القبيلة التي كانت تقطن من جنوب لمطة، مابين الساقية الحمراء ووادي الذهب إلى موريتانيا الحالية. ويعتبر أكدال أسمى قانون في العالم ابتدعه الامازيغ لضبط وتنظيم الرعي واستغلال الموارد، وهو اليوم قانون يجب أن تتبناه الامم المتحدة لأنه يصون ويحافظ على البيئة والمناخ. للأسف الشديد انهارت قبيلة كدالة/ إكدالن بسبب الاجتياح البدوي الذي فكك منظومة المجال وبنيات الثقافة في الصحراء. وبقيت أختها جزولة/ إيگوزولن تقاوم بعناد وصمود داخل الجبال.
وهذه القوانين التي يسمونها رجال الإدارة اليوم بالأعراف، لم تعتمد عليها وزارة الفلاحة في قانونها حول تنمية المراعي وتنظيم الترحال الرعوي، واعتمدت على المعرفة التقنية لأطرها لايجاد حلول لمشكل تاريخي واجتماعي وانثروبولوجي عويص ومعقد جدا. مما جعله يعاني من سؤال الجدوى والمصير، فقد ظهرت معالم محدودية القانون وما يجري في الواقع ينبئ بفشله. والأخطر فيه هو انه فكر في إيجاد المرعى للماشية ولم يفكر المشرع في حقوق أصحاب الأراضي التي تم تقطيعها لانجاز محميات رعوية، لانه قانون يتماشى مع منطق سياسة تحديد الملك الغابوي وهو ما يفسر بالحاق مندوبية المياه والغابات بوزارة الفلاحة صاحبة مشروع قانون المراعي 13ـ113. واغلب المراعي التي تم انشائها إلى حد الان توجد في المجال الذي نتحدث عنه، أي مجال جزولة، والذي قامت إدارة المياه والغابات بتحديد اغلبيته وأن لم نقل كل مجاله الغابوي والرعوي وتطاولت حتى على حقول الناس وبساتينهم.
فمالذي تبقى لقبائل جزولة اليوم ؟ لا غابات لا أركان لا مراعي ولا مناجم، ولا أي شيء. بل اصبحوا يتعرضون للاهانة أمام أبنائهم ونسائهم وأمام منازلهم التي قتلتها العزلة.
فما هي الرسالة السياسية التي يريد بعض الرعاة الذين يمارسون الجور على أمازيغ جزولة وسوس، إرسالها للدولة والمخزن؟ نعرف أن أغلب هؤلاء الرعاة ليسوا رعاة عاديون وانما يشتغلون عند كاسبة كبار لهم استثمار وامتداد كبير، لأنهم يقودون جحافل بأعداد هائلة من قطعان الأبل. فادا كان هؤلاء الرعاة يمارسون التمرد على الدولة على ظهر أمازيغ الجبال، ويريدون تشويه كرامتهم بأقدام النوق والابل. فعليهم أن يحتاطوا فجروح الاهانة لا تندمل.
وعلى الدولة أن تسارع بتطبيق القانون حفاظا على سلامة السكان واحتراما لممتلكاتهم، فهؤلاء الكسابة الكبار معروفون وعليهم أن يردوا جمالهم عن ساكنة سوس.
24 ابريل 2020.
عبد الله بوشطارت
اكتشاف المزيد من azulpress.ma
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
التعليقات مغلقة.