أزول بريس- متابعة سعيد الهياق//
” الآلام المديدة والكبيرة تُربي الطاغية في الإنسان…” فريدريك نيتشه)
في العداوة ذات البُعد الوجودي ثمة تغييب شبه كامل لفعالية العقل حيث يتم تلقين ذلك الإرث الدموي للأجيال دونما منطق وفي هذا السياق ترسخت المشاعر العدائية اتجاه الآخر وبشكل عميق.
وكل فكرة يُمكننا دراسة تاريخها من خلال ثلاثة محاور أساسية أولاً: الظروف التاريخة التي أنتجت الفكرة.
ثانياً: مدى تأثيرها على النمو الاقتصادي.
ثالثاً: المنعطفات المؤثرة في تطور الفكرة أو تراجعها على مسرح الأحداث.
ولمُكاشفة حيثيات ظاهرة العداء للآخر المختلف يتوجب علينا معرفة تاريخ الخلاف حيث يعود إلى مستهل صدر الإسلام.
وفي العصر الحديث تم توظيف المتخاصمين من قِبل القوى العظمى من أجل إغراق الشعوب وتفريغ طاقاتها في مستنقع الخصومة المُتصلبة لكي يتسنى لتلك القوى تحقيق أهدافها في جعل بلداننا تابعة لأسواقها. هنا غدت منظومة التلاقي مع الآخر ومن ثم قبوله شبه مستحيلة لاكتمال شروط الخصومة. سنحاول النظر في بعض أسباب الخصومة:
أولاً : الموروث الثقافي عبر تأويلاته المبنية على شيطنة الآخر من قِبل شريحة واسعة من الفقهاء. وتعود جذور هذه العداوة إلى معركة الجمل وموقعة صفين و .. ووصولاً لما يجري الآن في بلدي وكذلك في البلدان المجاورة.
ثانياً : الآخر البعيد الذي يقود راية الحضارة وتحديداً عندما أَعلنَ تفوقه العلمي علينا مما أحدث إرباكاً مؤلماً في أعماق ذواتنا. وهنا تستدعي المسألة نوعاً من التشريح لما يدور في اللاوعي. فعندما يفقد المرء ومن وجهة نظره معظم الفرص للحاق بسرب المتحضرين مع ترافق ذلك مع الطغيان الذي تربى في جوهر الشخص كما قال نيتشه نتيجة غياب العدالة في إدارة الحكم من قِبل معظم ممنْ تبوأ سدة الحكم. كل هذه العوامل ضغطت على جوهر الذات وعمقت العُقد النفسية ولم يعد هناك مساحة كافية لمعالجة هذه المسائل إلا بالعنف وشيطنة الآخر بوصفه عدواً مع سبق الإصرار والترصد. أي أن المنظومة الداخلية للفرد فقدت المساحات التي يفترض أن تكون بمثابة سهول للتلاقي واستقبال واحتضان للآخر الذي تؤكد معظم الدراسات الحديثة في مجال علم النفس بأنه أي الآخر هو محور الأمن الداخلي.
هنا يطرح القاص المُبدع خضر الماغوط هذه المسألة المُعقدة والمتشعبة في عمق ذواتنا وهي الخصومة العميقة من خلال قصته هذه والمعنونة ب (اغتيال ) حيث يتم تكليف أحد الأشخاص بتنفيذ عملية اغتيال بحق شخص آخر لمجرد اختلافه المذهبي والإيديولوجي مع الطائفة التي ينتمي إليه الرجل الذي تم تكليفه بالقيام بعملية الاغتيال. هنا يطرح القاص خضر الماغوط هذه المسألة بآليات سرد مفعمة بالسلاسة حيث تدور أحداث القصة في اليوم المحدد لتنفيذ العملية. ويُصادف ذلك اليوم عيد ميلاد أحد أبناء منفذ العملية. وعندما يستعد لمغادرة منزله يستوقفه ولده قائلاً أبي اليوم عيد ميلادي لا تتأخر لكي نحتفل معاً. عندها ينحني الأب ويُقبله. وقبل أن يُغادر يناديه ولده الآخر أبي لا تتأخر من أجل عيد ميلاد أخي، في هذه الأثناء تثور المشاعر العاطفية لدى الأب وتتجاوز رغبة تنفيذ أوامر مرؤوسيه. ولكنهُ يتابع سيره باتجاه موقع تنفيذ المهمة الملقاة على عاتقه وعند وصوله يأخذ الوضعية التي تمكنه من تنفيذ مهمته بدقة من خلال التمترس الصائب. وقبل أن يضغط على الزناد يعود إلى رشده نتيجة تلك التفاصيل التي حدثت معه قبل مغادرته المنزل من قِبل ولديه. وكذلك طبيعة الإنسان المبنية في متنها على المحبة وعشق الحياة. لنقرأ سوياً قصة الاغتيال للرائع خضر الماغوط.
اغـتيــــــال…
وضع المخزن المليء بالرصاص في بندقيته، همّ بالذهاب.
تعلَّق طفله الصغير بساقه يحضنها قائلاً: بابا لا تـتأخر بالعودة … اليوم عيد ميلادي … أريدك أن تحضر لتحتفــل معي … قَبَّل ابنه بين عينيه، قال له: أجل يا بني سأعود سريعاً، سنحتفل بعيد ميلادك. وأشاح بوجهه إلى الناحية الأخرى، متوهماً إن ابنه قد يقرأ في عينيه، وفي تعابير وجهه، إلى أين هو ذاهـب.
الصغير لا يعلمُ، ولا أحد يعلم أنه مكلف بمهمة اغـتيال، مهمة قتل إنسان قيل له إنه عدوه السياسي وهو خطر على عقيدته، بغض النظر إن كانت أفكاره سلبيه أو إيجابيه، أفهموه بأنه عدوه وعليه أن يقتله.
استدار وقبّـل ابنه مرةً ثانيه وثالثه … فقد لا يراه ثانية، قد يقبض عليه أنصار ذلك الرجل، وقد يقتلونه. لكن عليه تنفيذ مهمته.
حمل بندقيته .. وأسرع ذاهباً، إلى حيث يؤدي المهمة الموكلة إليه. هناك في المكان المخصص تربص كامناً، إنه مكانٌ جيد للقـتـل، إن عدوه سيظهر بعد حين من مكان محدد، صوَّب بندقيته إلى حيث سيظهر الهدف …. وضع إصبعه على الزناد. هناك خط واصل ما بين عينه، وبين شعيرة البندقية، وبين مكان الهدف. سيضغط على الزناد بمجرد ظهور الهدف. هو متحكم في وضعيته هكذا …. رصاصه واحده قد تكفي للقتل.
حان الوقت المحدد لظهور غريمة، لم تعد عينه ترفُّ بانتظار لحظة الحسم التي ستكون الآن .. الآن …
ها هو غريمه يظهر في المكان المحدد تماما، لم يرتبك…
هناك خط واصل ما بين العين والشعيرة وقلب ذلك الرجل، ضغطه واحده على الزناد وينتهي كل شيء…. الدماغ سيعطي أمراً لإصبعه بالضغط على الزناد
ها هي الأصبع تتحرك ببطء…
إنما فجأةً توقفَ دماغه عن إعطاء الأمر … أبعد إصبعه عن الزناد، رمى البندقية جانباً.
سارع إلى الرجل معترضاً طريقه، قائلا له: دعني أصافحك يا سيدي، وأطلب منك أن ترافقني لنحتفل بعيد ميلاد ابني الذي ينتظر.
نهاية القصة.
هنا يُمكننا أن نستسيغ جملة من الأفكار التي طرحتها هذه القصة:
أولاً: عبثية العداوة والمساحات التي تخلقها منظومة القبول حيث تَغيرَ السيناريو بشكل جذري من عملية الاغتيال إلى مشهد دافئ هو عيد ميلاد ابن ذلك الرجل الذي تحول من مشروع القتل إلى مشروع الوداد.
ثانياً : الآخر هو بدوره كان مهيأ لعملية القبول لم يحتج صاحب المُبادرة لأي جهد كي ينتقل من حالة العداوة إلى حالة المحبة. هنا يؤكد القاص خضر الماغوط على أمر على درجة عالية من الأهمية والمُتمثلة بالنوايا العميقة. والتي تسعى إلى السلام والمحبة وهي في معظم الأحايين لا تحتاج سوى إلى المُبادرة وبعد ذلك تأتي الخطوات بشكل سلس. أي أن الكائن البشري لم يفقد تماماً جسور التلاقي مع الآخر.
خضر الماغوط من خلال هذه القصة المعنونة ب (اغتيال) يطرح أحد المفاتيح المحورية في خلق الأجواء المناسبة للإنسان المُعاصر لكي يتسنى لنا إعادة بناء مجتمعاتنا على أسس المحبة والتآخي. والعمل بمواظبة على تكريس ثقافة قبول الآخر المختلف.
التعليقات مغلقة.