سوريا: الناقد محمد حسين في قراءة نقدية لديوان “نقوش على مرايا الروح” للشاعرة أم الزين بنشيخة
بقلم محمد مجيد حسين
نقوشٌ على مرايا الروح
لننقش عبر موائد الّشعر في عرين المرايا المُتضامنة مع ذواتها، لنُشعل الشموع في مقاهي التاريخ، لنبرز هويتنا الجمالية، ولنُبحر في أسبار الكينونة، حيث يتم إعادة بناء البنى النفسية المزدحمة في عالم مكتظ بالأرقام تُمجد الجسد.
ولنُعلن بدء مواسم الحنين للينابيع عبر المساحات الجمالية الدافئة في خطاب الإيقونة أمّ الزين بن شيخة من ضفة الشُعر، ولنأخذ نصها ” صمت قليل يكفي كي نموت معاً ”
الشّعر هو محور كينونة الكائن البشري، منذ بدء الخليقة.
الشّعر هو الروح التي تحرس إنسانيتنا من بنادق القتلة.
الشّعر يُكرس صورة الأنثى الأم, في رابية ذاكرتنا العميقة.
ولنقراً النصّ معاً:
“صمت قليل يكفي كي نموت معا ..
نافذة و قمر و ألف حرف تائه ..
و شعوب تسّاقط من أفواه الدول ..
و وجوه من الزيت المرّ سائلة
على ظهر الحجر ..
و أخاديد و تجاعيد و ألف ليل طويل لا يصلح للسهر ..
ضاحكة أنت ككلّ وجوهك الأخرى العابثة بالزيتون النائم
في عيون الله قبل الموت و بعد القدر ..
ضاحكة أنتِ ..و القصيدة شاردة عن قوافيها القديمة ..
و الندى يلهو بالندى ..
و أنتِ بلاد تعانق سبعين مستحيل
و لا ينجو من عينيها غير رصاص القلم ..
أيّتها اللغة البديلة ..يا كل الشعوب ..يا بعض الوطن
هل صمت قليل يكفينا
كي ننام معا فوق رموش النخيل
هل صمت قليل يكفينا
كي نرقص معا
على ورقات ورد يسهو عن براعمه الصغيرة
و يغنّي آخر أغانيه قبل الموت ..قبل الشمس
قبل القُبل ..”
أمّ الزين بن شيخة
هنا لنُفكك ماهية الدلالة عبر تحديد أهمية الاستهلال: هل النصّ ينتمي إلى عالم اللغة الشعرية أم إلى عالم شاعرية اللغة، هنا قد يقول قائل ما الفرق بينهما؟
اللغة الشعرية هي زهور الحديقة في ممر العبور الدافئ
وشاعرية اللغة هي ارتدادات أنفاس الزهور عبر مرايا الروح المتعبة.
وهنا نضع النصّ في خانة شاعرية اللغة.
لنستهل القراءة من بوابة العتبة:
“صمت قليل يكفي كي نموت معا ..”
هذا هو عنوان النصّ “صمتٌ قليل يكفي” ففعل الصمت لا يخضع لمقاييس الكم إنما يُقاس بالزمن, ولكن شاعرتنا استعانت بكلمة قليل بدل القيمة الزمنية لتُعرج بنا صوب ميادين الإبهار الدافئة وتابعت ” كي نموت معاً ” هنا ثمة طرح مُركب البنية: هل الصمت يُقرب الأرواح من بعضها البعض أكثر من الكلام ؟؟ وهل الرحيل برفقة منْ نعشق بوابة للبهجة ؟؟
هنا ثمة سيميائية كثيفة الدلالة تمتد من فعل الصمت إلى الموت, ومن هنا تنبثق سهول الحرية في مُخيلة المُتلقي, فعندما نصمت لنؤسس للنهاية التي نتخلص بها ولو بشكل مؤقت من إحدى القواعد المحورية التي تُربك الكائن البشري وهي الخوف العميق من النهاية أي الموت.
فأهم مؤثرات بث روح الخوف في جوهر الكينونة يكمن في الوحدة, فكما هو شائع سنموت بمفردنا, ولكن شاعرتنا أمّ الزين بن شيخة تكسر هذه القاعدة عندما تؤكد بأن القليل من الصمت يكفي لكي نموت معاً وهنا يُمكننا أن نصل إلى جوهر العمل الإبداعي مُتمثلاً بخلق انزياح في مساحة هامة في ذاكرتنا العميقة من خلال قولها كي نموت معاً.
“هل صمت قليل يكفينا
كي ننام معا فوق رموش النخيل”
صورة شعرية مُتكاملة من خلال الربط المؤثر ما بين فعل الصمت ومأوى المغرمين.
وللرموش دلالة يُمكننا أخذها هنا كقنديل في رحلة بحثنا عن كنوز المعنى, ففي العيون يختبئ بؤس العالم وسعادته, هنا ثمة استدعاء رطب نصمت لكي نموت .. نصمت لكي ننام على رموش النخيل, أي أننا مدعوون إلى انزياح يرتقي إلى منسوب الانزلاق من خلال فعل الصمت, هنا ثمة طرح ملفوف بماء الأبدية يأتينا من الفيلسوفة والشاعرة أمّ الزين عبر توظيف جمالي مؤثر لمفردة الصمت وبقليل منهُ, ففي الاشتغال الذهني ثمة منعطفات تتداخل عبر ممر جماليات العمق المعرفي والبُعد الإنساني الباحث عن فضاء للحلول في عالم يقبع تحت سطوة القتلة.
” يغنّي آخر أغانيه قبل الموت ..قبل الشمس
قبل القُبل ..”
وهنا لنعود لتفكيكية ” جاك دريدا” لتشريح المفردات
أغانيه, الموت, الشمس, القُبل.
الغناء: فعل استهلالي باحث عن ممر الكينونة وبمستويات متفاوتة, فكل فعل غنائي هو عملية بحث عن الراحة النفسية وبأشكال مختلفة ومن زوايا متعددة.
وأغانيه قبل الموت, هنا تصل الإرادة إلى أعلى مستوياتها, فمنْ يُغني فهو يعشق الحياة, ومنْ يغني قبل الموت فهو عاشق ثائر للحياة ومتحدٍ بكل المقاييس.
الموت هو المجهول المخيف دوماً ولو بتفاوت ما بين فرد وآخر.
الشمس هي الأمل بالعدل والحياة الدافئة
القُبل هي تعبير عن الشوق والحب والحنان والانتماء.
ففي هذا التناسق اللغوي والمعرفي والجمالي استطاعت الشاعرة أمّ الزين بن شيخة خلق مساحات واسعة من الانزياحات العميقة في ذهنية المُتلقي شريطة امتلاكه لملكة التذوق الشعري.
وإذا واظبنا على بث الكثافة المنطقية في إضاءة عالم المُبدعة أمّ الزين بن شيخة من خلال هذا النصّ ” صمت قليل يكفي لكي نموت معاً”
الذي أخذناه كنموذج لدراسة تطور المفردة في جذور وأوراق النصّ الشعري, والمقصود هنا كلمة الصمت التي كانت بمثابة بوصلة إنارة حديقة النصّ ومن مختلف الزوايا وفي المنحى الاستراتيجي للخطاب الشعري والمعرفي للمبدعة شاعرتنا أميرة هذه التحفة الجمالية ثمة أمواج من الإبهار مُتعدد الدلالة, أي أن النص خاضع لجل مكونات النصّ التفكيكي من خلال المعاني غير المنتهية للنص.
” يغنّي آخر أغانيه قبل الموت ..قبل الشمس قبل القُبل ..”
أحدهم يُغني آخر أغانيه .. قبل الموت , قبل الشمس, قبل القُبل.
أي أن المشهد الإبداعي يناسب كل الأماكن ومختلف الثقافات.
“هل صمت قليل يكفينا ”
كي ننام معا فوق رموش النخيل”
هنا يأتينا المشهد بصيغة السؤال دون النزوح إلى أحادية المعنى من خلال ترك معظم الفضاءات مفتوحة دون تحديد لمن موجه السؤال, هنا تنجح الشاعرة أمّ الزين في الصعود بذهنية القارئ عبر شُرفات الدلالة المتعددة إلى ما لا نهاية وتُعد هذه من أهم سمات النصّ الحداثي.
فالدارس للمفهوم الحداثي لانعكاسات المفردة على جُل أفكار ومفاهيم المُبدع أو المُبدعة سيستسيغ جملة من نبيذ الكينونة من خلال هذا التوظيف الدقيق لمفردة الصمت من قِبل شاعرتنا , فالصمت عتبة الرُقي في معظم المواقف شريطة تناسبهِ طرداً مع أجواء المواقف وفقاً لمنطق العقل.
نصّ ” قليل من الصمت يكفي لكي نموت معاً”
نستطيع أن نضع النصّ في موكب النصوص التي تستوفي جُل شروط السهل الممتنع عبر اللغة السلسة وعمق الدلالة التي تنير بعضاً من العتمة في أعماق ذواتنا المتعبة ,نصّ يبثُ نسمات من الكينونة في ذاكرتنا العميقة.
محمّد مجيد حسين- كردي سوري
التعليقات مغلقة.