رمزية عقيمة…

مؤسفة وجبانة هذه الرمزية التي اختارتها طغمة الجزائر باختيار هذا التاريخ بالذات، للتقهقر أكثر من ثلاثين عاما إلى الوراء (الى وضع ما قبل 1989، تاريخ نشأة اتحاد المغرب العربي)..

طيلة 27 سنة، ظلت الجزائر تجتر حججا مفتعلة لتبرير قرارها الأحادي الجانب (تلك المرة أيضا) بإغلاق الحدود البرية بين البلدين، إغلاقا تاما. وعلى رأس هذه الحجج ان المغرب فرض التأشيرة على المواطنين الجزائريين. وككل مرة ظلت السلطات الجزائرية تتعمد الكذب وتشويه الحقائق على الأرض: ادعت ان المغرب فرض التأشيرة على المواطنين الجزائريين. الحقيقة ان ما فعله المغرب هو فرض التأشيرة على الفرنسيين من أصل جزائري القادمين من فرنسا. الشيء الذي سبب رد فعل فرنسي بزعم ان الحكومة الفرنسية ترفض أن يتم التمييز بين مواطنيها على أساس أصولهم.. هذا التناغم الفرنسي الجزائري ظل منذ ذلك الحين مثار تساؤل عندي: هل إغلاق الحدود قرار جزائري خالص، ام هو تناغم مع أوساط فرنسية لا تنظر بعين الرضا الى التقارب وتطبيع العلاقات بين البلدين والشعبين؟ ما حقيقة الدور الذي ما فتئ الضباط الجزائريون يضطلعون به في الأجندة الفرنسية بالمنطقة، منذ سطوهم على السلطة في الجزائر سنة 1965 في انقلاب عسكري قاده بوخروبة (بومدين)، وسطوهم عليها مرة أخرى سنة 1991 عقب إلغاء نتائج الانتخابات التشريعية والبلدية التي فازت فيها الجبهة الإسلامية للإنقاذ، ليطلقوا عشريتهم السوداء الدموية ضد الشعب الجزائري ونخبه المتنورة الوحدوية، ثم سطوهم عليها مرة ثالثة بعد الحراك الشعبي الأخير، وهم يتأهبون هذه المرة لإشعال حرب أهلية وربما حرب إقليمية مع المغرب؟. هل هذا هو الجسم الغريب الدخيل على المنطقة، الذي لمح اليه خطاب العرش؟

اختيار تاريخ 24 غشت لإعلان قطع العلاقات مجددا مع المغرب، لا يمكن فصله عن هذه الرمزيات. طيلة 27 سنة لم تفكر طغمة الحكم في الجزائر لحظة واحدة في امن وسلامة المغاربة عندما تعرضوا للاعتداء في ذلك اليوم، ولم تعبر ولو مرة واحدة عن تضامنها مع جارها فيما تعرض له من اعتداء، ولم تعلن استعدادها للتعاون معه من اجل اجتثاث شأفة الإرهاب، الذي كان الشعب الجزائري نفسه يعاني منه في تلك الآونة، ولم تعبر عن انشغالها بخطر انتقال الإرهاب الى المغرب. وإلى اليوم، ما فتئ المسؤولون الجزائريون وأبواقهم يرددون بنفس البرود واللامبالاة امتعاضهم من كون المغرب اتخذ قرارا بفرض التأشيرة على مواطنين فرنسيين من اصل جزائري، وهو القرار الذي سرعان ما تراجع عنه بسبب رد الفعل الفرنسي.

الأكثر غرابة في تلك القضية هو ان الرواية الرسمية الجزائرية تنكرت حتى لجنسية المتورطين في تلك الجريمة وفضلت ان تنسبهم الى المغرب، بل إن هذه الرواية نفسها، نسيت فجأة ان الجزائر كانت غارقة في الاحداث الدموية للعشرية السوداء، وبدأت تزعم ان الخطر الحقيقي كان يأتيها من المغرب، وان المغرب هو الذي كان يصدر لها الإرهاب.. ما أشبه الأمس باليوم..

بيان الخارجية الجزائرية الذي تلاه لعمامرة بطريقة تكشف انه ليس هو ولا طاقم وزارته من حرره، كان بيانا متمحلا في المسوغات التي سردها، كما لو كانت مسوغات لم تنضج بعد، أو كما لو ان البيان صيغ على عجل ليستجيب للتايمينغ الخاص برمزية هذا التاريخ. لدرجة انه كان غير مقنع حتى للعمامرة نفسه وهو يقرأه.

بالمقابل، جاء بلاغ الخارجية المغربية جد مقتضب وفي ثلاثة عناصر:

الاول ان المغرب أخذ علما بقرار غير مفاجئ وكان متوقعا، وأخذ العلم في القاموس الديبلوماسي، يعني ان المغرب سيرتب على هذا القرار ما يراه مناسبا. وفي الطريق لا بأس من الانتباه الى إشارة البلاغ الى ان المغرب لم يتفاجأ بالقرار، اي ان ترتيباته المحتملة جاهزة ولن تتخذ في سياق رد الفعل.

العنصر الثاني: ان المغرب يعتبر مبررات السلطات الجزائرية للإقدام على هذا القرار الأحادي الجانب، واهية وسخيفة، ويرفضها المغرب. (هذه الجملة المقتضبة هي الرد على بلاغ المجلس الاعلى للأمن الجزائري قبل أيام، وعلى الديباجة الطويلة والمهلهلة لبيان الخارجية الجزائرية المشار اليه أعلاه)

العنصر الثالث والأهم، وهو بداية تبعات أخذ المغرب علما بالقرار الجزائري: المغرب سيظل وفيا لمبادئه وسيواصل العمل “مع الشعب الجزائري” من أجل بناء الوحدة المغاربية لما فيه مصلحة شعوب المنطقة.

التاريخ دوار وماكر. من منا سينسى شعار “مغرب الشعوب” الذي كان يصدح كل مساء على أثير الاذاعة الجزائرية؟ كم كنا نصدق ان للجزائر طموحا شعبيا للوحدة المغاربية.. بعد أربعين عاما على انطفاء هذا الشعار، ها نحن اليوم نعود مرة اخرى الى مغرب الشعوب، ولكن بوجه وسياق آخرين. من جهتنا، نحن الذين “غرر بنا” في الماضي ببريق هذا الشعار، فهمنا مع مرور الوقت ان المحرك الأساسي لدى طغمة الجزائر، في هذا الموضوع كان هو مناهضة نظام الحكم في المغرب، وليس الطموح الوحدوي لشعوب المنطقة. وهذه نقطة التقاء أخرى مع الأوساط الفرنسية اياها.

هل المغرب بصدد فتح سجل ديبلوماسي غير مسبوق، بخصوص الموقف من شرعية تمثيلية السلطات الجزائرية للشعب الجزائري؟ لقد جرب منهج دخول البيت من أبوابه مرارا، ولكن السلطات الجزائرية ظلت تمارس نوعا من الحجر على مواطنيها، سواء في رفض فتح الحدود او في رفض العون المغربي لإخماد الحرائق رغم المخاطر التي شكلها هذا الرفض في الحالتين معا على المواطنين الجزائريين.

كم كنا نتمنى ان تتحلى الطغمة بخيال سياسي اوسع وبقدرة على الابتكار واستشراف المستقبل، والتخلص من عقد الماضي واجترارها العقيم.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. الموافقة قرائة المزيد