رحيل ميسي: المال يهزم الجمال، والمصلحة تدحر العاطفة.(2).

أزول بريس - الدكتور محمد همام

يجسد بنظرنا رحيل ميسي عن البارصا صراع نموذجين معرفيين متعارضين، وصراع سرديتين متضادتين؛ نموذج العاطفة الصلبة، يمثله ميسي،في مواجهة نموذج العقلانية السائلة، ويمثله لابورتا. وسردية الثقافة، ويمثلها ميسي، في مواجهة سردية الإدارة، ويمثلها لابورتا.
كان بكاء ميسي علامة على نموذج معرفي يتغذى بالعفوية والتلقائية والعاطفية والوفاء والاعتزاز بالماضي، أما نموذج لابورتا فكان يتغذى من تصور يرى أن كل قديم مستهجن، وأن الاستغراق في الماضي عائق عن الحركة، لذا ينبغي رميه في سلة النفايات، بما فيه من عواطف ومشاعر وذكريات… لذلك ألح لابورتا، اكثر من مرة، على ( النظر إلى المستقبل)، وعلى( التفكير الايجابي)، وعلى ضرورة الاستفاقة السريعة من( الصدمة)؛ صدمة الرحيل!
لقد جسد بكاء ميسي، من منظور ( النموذج المعرفي) الذي ننطلق منه في التحليل والرصد، جسد وعيا شقيا بالذات، وأزمة خياراتها الشخصية. نموذج يعيش على ( المجتمع المتلاحم)! والعلاقات الحميمية المتصلة والمستمرة؛ عندما تصبح الأسرة، في علاقاتها وروابطها، نموذجا مثاليا للمجتمع، بل وللأمة، وللفريق، البارصا في حالتنا. وفي المقابل يعبر نموذج لابورتا على النقيض من هذا؛ إنه ( مجتمع التعاقد)، وليس مجتمع ( التلاحم) ولا مجتمع(التراحم)؛ مجتمع غموض العلاقات الاجتماعية، وسيادة السوق، وهيمنة أدوات التقنية الحديثة، في المال والأعمال وفي الإدارة.إنه عصر ( قطع الغيار)، بتعبير زيغمونت باومان، في كتابه: ( الحب السائل: عن هشاشة الروابط الإنسانية). إنه عصر استبدال المنتج قبل نهاية فترة الضمان، وليس عصر فن إصلاح الأشياء. إنه عصر الفرصة القادمة التي تجعل مافي يدك قابلا للتخلي عنه، فلاترتبط به بشدة! ارتبط فقط بالمنفعة، وبالمصلحة، وسميها حينها ماتريد: مصلحة الفريق، المستقبل، الفريق فوق الجميع، يجب أن نكون محترفين، قواعد اللعب النظيف…
لقد أظهر النموذج المعرفي/ الأخلاقي الصلب لميسي، في مواجهة النموذج المعرفي/ النفعي السائل للابورتا، أن ميسي كان يحمل هم بطل رواية( رجل بلاصفات)، لروبرت موزيل؛ حينما أراد أن يشكل ذاته وصفاته بالشكل الذي يرغبه، بجهده ومهارته وذكائه، لكن من دون أن يضمن دوام تلك الصفات للأبد في عالم شديد التقلب وسريع التغير؛ إذ سرعان ماوجد ميسي نفسه: إنسانا بلاروابط! وهو ماجسدته الحالة الهشة التي ظهر عليها في مؤتمر الوداع، كما سماه الإعلام، وهو في الحقيقة: مؤتمر الإلحاح على البقاء!
تنازل ميسي على نصف راتبه من أجل البقاء، ولأجل أسرته، وفي إطار علاقاته التراحمية التي عاش فيها، واعتقد المسكين بدوامها. وقدم في الوقت ذاته نموذجا لاقتصاد أخلاقي، لايستبعد معادلة المال في الموضوع، ولكنه مال يقوم على الرعاية والمساعدة المتبادلة، والعيش من أجل الٱخر: الفريق والمحبين، ونسج خيوط الالتزامات الإنسانية، وتعزيز الروابط الإنسانية… واجه لابورتا هذا الزخم الأخلاقي والعاطفي من ميسي، بمنطق السوق الصارم، ولغة القانون الحادة، وعقلانية الإداري الذي يشتغل لفائدة النسق/ النظام/ الفريق، وليس لفائدة الفاعل/ الفرد/ ميسي! ميسي الطفل البكاء الذي أحب فيه الناس طفولته المرافقة له؛ طفولة دالة على إنسانية فطرية، بلا اعوجاج، ولاتشذيب، ولاتشويه، إنسانية كاملة في عدم اكتمالها وميلادها الطفولي، بتعبير زيغمونت باومان. اصطدم ميسي، بنموذجه المعرفي، مع نموذج مضاد، غير معتاد على احترام الكرامة الإنسانية الموجودة في الٱخرين، إلا داخل منطق الربح والخسارة. كان لابورتا أكثر قوة ودهاء وحيلة من ميسي، لذلك كان قادرا على اتخاذ قرارات من أجل بقائه، قبل الفريق، زمنا أطول. وهو درس فظيع وغير أخلاقي عادة ما ينتهي بالترحيل وليس الرحيل! ترحيل عنواه: التخلص من البشر بعد استعمالهم.
أدعو إلى فهم سردية لابورتا، من خلال أعمال عالم السوسيولوجيا الإدارية الفرنسيMichel Crozier، 1922-2013، خصوصا في كتابيه: الفاعل والنسق( L’acteur et Le système)، مع Erhard Friedberg ، و المجتمع المأزوم( La société bloquée). لذلك كان لابورتا يلح على أن الفريق أكبر من الجميع، وأن الفريق سينجح في المستقبل من دون ميسي. ثم إن سلوك الفاعل في النسق، كل سلوكه، من منظور كروزي، هو تصرف عقلاني، وليس عاطفيا! والقرار تصرف عقلاني يدور على مسافة خط مستقيم يكون طرفاه: السلطة/ القوة، ومساحة اليقين واللايقين، على قاعدة الربح. في إطار أستراتيجيا تدبيرية عقلانية. ونقرأ ايضا في تصريح لابورتا استبطانا لأفكار كروزي في كتابه: الشركة المأزومة؛ إذ يذهب كروزي إلى أن تحفيز المجتمع المأزوم، وتحريكها للأمام، يقتضي التخلص من الأغلال التي تثقل كاهلها، ولا أرى ميسي، في كلام لابورتا، إلا ثقلا يجب التخلص منه، بأخف الخسائر.
ومابين أطروحة زيغمونت باومان التي تتيح لنا فرصة سبر أغوار هذا النموذج المعرفي/ الأخلاقي/ الصلب، و بين أطروحة ميشال كروزي، التي تشكل قاعدة ارتكاز تفكير نموذج لابورتا، نجد أنفسنا أمام صراع عنيف بين نموذجين معرفيين في قلب الممارسة الرياضية، وفي كرة القدم العالمية على الخصوص، مما يحتاج إلى مزيد بحث ودراسة، لتعميق النظر في هكذا موضوعات.
شكرا ميسي، ستبقى بطلا خالدا، خصوصا وقد أبرزت معدنك الأخلاقي الأصيل القادم من بلد التراحم والعلاقات الإنسانية: الأرجنتين. وهزمت بدموعك جشع لابورتا ومكره، كما هزمت بعفويتك وسذاجتك مكر الثعالب والمافيا في الرابطة الإسبانية، وكانت دموعك، بنظري، أكبر رصيد لك في مسيرتك.
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. الموافقة قرائة المزيد