رثاء لوالدي الذي بُشرت بقودمي إليه.. وفقدته وأنا في الغربة

محمد محمود أحمد* //

عادة ما يُبشر الآباء بقُدومِ مولودهم الجديد، إلا أنا في حين قدومي بُشرت بأن محمود أحمد هو أبي، وفرحت كثير وأخذتني العزة والفخر به على مر الأيام والليالي والسنين، وزاد حبي وتعلقي به وأنا أرضع ثم أُفطم ثم أحبو ثم أصبو.. والدي لم يكن مجرد والد فقد كان استثنائيا بمعنى الكلمة، كان صديقا صادقا ودودا لطيفا حكيما كريما شجاعا. كان يعلمني كل شيء ببطء وبرفق، ويُطوع الأيام والشهور ليخرج لي منها الدروس والعبر، عشت سعيدا به، ممتنا له، وكان كابوسي الوحيد أن أفقده أو يفقدني.
هل أتاك حديث إمرئ فقد والده وهو في الغربة؟ إنه لقول حارّ وماهو بالسار؛ وأنا على يقين بأن الموت والحياة آية من آيات الله وسنة من سننه الكونية وليبلو به العباد، وإننا كعبيد له مؤمنيين به مالنا إلا أن نرضى بقضائه وقدره ونصبر ليوفنا أجورنا بغير حساب؛ لكن لا إثم في أن نذكر شئيًا من محاسن موتانا، ونحزن كما كانوا سيحزنون لموتنا، ولكن الفشل في الشعور بالحزن أكثر إزعاجا من الحزن نفسه، ووالله ما أخشى الموت ولكن أخشى أن أفشل في الشعور بالحزن من شدة وقعه على وتعلقي به.
كانت الأمور تسير على نحو جيد، ولا يمضي يومان إلا وأن أُهاتفه أطمئنه على حالى وإن كان حالي لا يسر حينًا، لأن حاله أهم من حالي، كحال أي ابن بعيد يُهاتف أباه، وكان يختم حديثه معي بالدعاء لي بالتوفيق، ولا أتذكر أنه كان يوصيني بشئ لأنه يعلم إنني صُنعه وما أنا عليه بغريب وما أنا على الآخرين بجبارٍ مُريب، وفي آخر مرة كان يغلظ على أن أرسل له عنوان البنك ليتمكن من إرسال مصاريف تعينني على الدراسة، كنت أرفض ذلك وأغير الموضوع ويستغرب مني من أين لي هذه الثقة ونضحك سويا، ويختم المكالمة وأكون أسعد إنسان بعدها.
قبل شهر من وفاة والدي، بدأت تأتيه أعراض”الغضروف”، ـ وهو مرض يصيب أجزاء من السلسلة الفقرية وغير مميت بحسب علمي ـ لم يخبرني بذلك وكلما أتصلت به كان يطمئنني على حاله وإن كان حاله لا يسر وكان يعتبر أن حالي أهم من حاله، وكنت أتحدث معه وأقول له إني سآتي إلى السودان الأسبوع المقبل يرفض تماما ذلك ويقول لي إنه بخير وإنه بدأ ينتظم في العلاج، وعندما يئس من محاولاتي المتكررة وتمسكي بالعودة، قطع لي وعدًا بأنه عندما يشعر بشئ فلن يتردد في أن يخبرني بأن آتي، تراجعت حينها ـ ليتني لم أفعل ذلك وقدِمت ـ، ورغم ذلك لم أطمئن ولم أك مرتاحا ولم أكن أنام جيدا طوال ذلك الشهر، تساوروني الوساوس من كل جانب، وكنت في حالة قلق مزمنة، وشرود ذهني شبه كامل، وكنت في اليوم أتصل أكثر من 10 مرات والحال نفس الحال، فتصور معي إذا كانا والداك بصحة جيدة ولم ترهما لمدة عام فإنك شوقا وحنينا لاسوا تكون قلقًا ومترقبا، فما بالك أن يكون والدك بعيدا ومريضا! وفي يوم 7 ديسمبر 2017 إتصلت بخالي وهو قريب جدا إلى ولا يُخفي عني شيء فأكد لي إن والدي بخير، وقال إذا كنت في حالة قلق تعال أقضي شهرًا في السودان ومن ثم عُد، وفعلًا بعد المكالمة مباشرة حجزت رحلة إلى الخرطوم فجر 11 ديسمبر 2017، وعقب عودتي من وكالة السفر إلى المنزل، هاتفتني ابنة عمي بأن والدي قد توفي قبل ربع ساعة.
ي الله: إنها الفاجعة، نزلت على كالصاعقة، لقد كنت في الغرفة وحيدا، بدا لي الأمر غريبا وغير مفهوما، أسريعا هكذا؟ ظَلُم كل شيء أمامي، وأصابني دوار، وفقدت القدرة على الرؤية بشكل واضح لثواني. تماسكت مؤقتا وخرجت إلى الشارع وأوقف تاكسي إلى وكالة السفر التي أتيت منها للتو، وطلبت من الموظفة أن تعدل رحلتي ليوم غد باي حال من الأحوال، وفعلا قد كان، وأتصلت بأمي، وبعدها أغلقت هاتفي مباشرة، وإختلطت على مشاعر الحزن والتفكير.
إن الرحلة من أكادير إلى الخرطوم طويلة جدًا وحزينة جدًا، بلغت(20) ساعة حيث توجهت إلى الدار البيضاء ومن مطار محمد الخامس إلى القاهرة ومنها إلى الخرطوم. وأنا في الطريق كنت أمني نفسي بين الفينة والآخرى بأن الذي يحدث لي كله أن يكون حلما، فخرجت لاحقا بهذه القاعدة: “للمرء أحلام يتمنى أن تكون واقعًا، وأيضا وقائع يتمنى أن تكون أحلامًا! ”
أنا في الخرطوم ي أبي فقد الهاني التكاثر إلى أن زرتك في المقابر، سأفتقدك وسأفتقد إبتسامتك وصوتك، فأنت سندي وأملي وغرة عيني، ي أبي لقد رحلت مني وأنا في أمس الحوجة إليك، لم تنتظرني حتى أفرحك قليلا، أو أنا من تأخر في ذلك، لقد حُكم على أبنائي بأن لا يروا جدهم وتحكي لهم؛ لكني سأجسد فيهم وفي نفسي كل شيء جميل منك، وسأجتهد لأكون مِثلك، ي الله كم كنت تُهيئنا لهذه اللحظة، وكنت دوما تتذكر هادم اللذات، وتوصينا بالاستعداد لهذا اليوم، وإن الدنيا دارعبور والأخرة خير وابقى. هل ي أبي عدم وجودي بجانبك ورحيلك وأنت بعيد كان لي رحمة؟ أم أشد وطأة؟ ي أبي ربما قد يكون حزني عليك صورة من صور الأنانية لأني أحزن لفقدي إياك وكنت أمني نفسي دوما أن تكون معي مدى حياتي، ولحوجتي إليك وقربي منك، ولكن سأحزن لأسرتي ولعائلتك ولقريتك ولأصدقائك أيضا فأنت فقد جلل وعظيم، وسيترك رحيلك في جوفي فراغًا شاسعًا وجرحًا لن يندمل، فسيرتك عطرة وعطائك إلى الآن ممدود.أنت رجل ي أبي، وأنا مثلك أيضًا.
وسأقول ما يرضي الله: “إنا لله وإنا إليه راجعون”

*خواطر لمحمد محمود أحمد، سوداني، طالب باحث بمدينة أكادير بالمغرب


اكتشاف المزيد من azulpress.ma

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

التعليقات مغلقة.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. الموافقة قرائة المزيد

اكتشاف المزيد من azulpress.ma

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading