دور ابراهيم أخياط في الولادة الجديدة للشــعــب المغربي

إن مصطلح  (( la renaisance)) الدال حرفيا على معنى الولادة الجديدة ، الذي يؤرخ لنهضة الشعوب الأوروبية ، ينطبق تمام الانطباق على شعبنا في العصر الحاضر، لثبوت وقوع خلق جديد له ، انتقل به من برودة الموت ، التي عاش فيها مئات السنين ، الى أنوار الحياة ودفئها.

وهذه الولادة الجديدة تتجلى بوضوح في دستور سنة 2011  لما أعلن فيه المغاربة للعالم عن احياء لغتهم الامازيغية التي كانت في عداد الاموات ، كما اعلنوا فيه اعتزازهم بهويتهم الامازيغية ، التي كانوا لقرون عديدة يخجلون منها ويخفونها عن الأنظار ، مقررين فيه تحرير أرض وطنهم من التبعية للوطن العربي في الشرق ، بتأكيدهم انتمائها الى موطنها الأصلي ” المغرب الكبير”.

 فكل هذه التجليات تعبر بحق عن حدوث هذا الخلق الجديد لشعبنا ، ما يجعل المصطلح السالف الذكر الذي يعني الولادة الجديدة ، ينطبق عليه بالضبط  تمام الانطباق.

ومن عجيب صدف الأقدار أن هذه النهضة الأمازيغية لشعبنا ، لا تتطابق مع النهضة الأوروبية في الاسم فقط ، بل تتطابق معها أيضا حتى في اسسها ومرتكزاتها ، المتمثلة كما هو معلوم فيما يلــــي:

1)- انفتاح الشعوب الأوروبية على التاريخ القديم اليوناني والروماني .

2)- اعتماد هذه الشعوب على لغاتها الوطنية المحلية ، بدلا من اللغة اللاتينية.

3)- اعتمادها أيضا على استخدام العقل بغير توجيه من أي كان ، وإيمانها بقدرة هذا العقل على السير بها في طريق نهضتها.

من المحقق ان الحركة الأمازيغية  قامت بدورها  بتأسيس مشروعها المجتمعي النهضوي على نفس هذه المرتكزات ، لثبوت انفتاحها على تاريخ شعبنا القديم ، بعد أن كان هذا التاريخ يعتبر في عرف الثقافة التقليدية من مخلفات الجاهلية المنبوذة ، وثبوت ايضا دعوة هذه الحركة الى اعتماد اللغة الامازيغية الوطنية ، والى الاعتزاز بهويتنا الاصلية العريقة ، ثم كذلك ثبوت استخدامها للعقل وما أفرزه هذا العقل من علوم حديثة ، في اقناع شعبنا بتصالحه مع ذاته ، ومع وطنه ، ومع دينه ، ومع سلطته السياسية.

اذن ، ان صحت هذه الرؤية الجديدة للحركة الامازيغية ، فينبغي ان ننظر اليها كحركة تنوير وطني ، حاملة لمشروع نهضوي حداثي كبير، يهدف الى احداث تحول جدري في عقلية شعبنا وفي واقعه الاجتماعي ، وذلك خلافا للنظرة الثقافية المستصغرة التي ينظر بها اليها.

هذا وما قصدي التذكير بإنجاز النهضة الامازيغية الكبير ، الذي قام به شعبنا في سنة 2011 ، ، الا لتقدير وتعظيم رجالات هذه الحركة الذين صنعوه بنضالهم المستميث ، والذين كان الأخ ابراهيم أخياط من بين اباءها المؤسسين الكبار.

لذلك ستكون مداخلتي هذه منصبة على ذاكرة هذا الرجل الشهم الذي غادرنا مؤخرا الى دار البقاء ، بعدما سجل اسمه في التاريخ باعتباره أحد الأبطال البارزين في دراما الولادة الجديدة لشعبنا، التي كرس لها حياته كلها ، الى أن سقط سقطته الاخيرة وهو في عز معمعانها ، الشيء الذي يمكن معه ان يلقب بشهيد النهضة الامازيغية.

هذا وان جاز تشبيه ذلك الانجاز العظيم بتحفة درامية فخمة ، فلكي نستعير منها فقط  مصطلحاتها الفنية لتقريب الى الاذهان فكرة تعدد المواهب والادوار التي لعبها الفقيد داخل هذه الدراما ، ذلك انه كما هو ثابت  لم يكن فحسب من بين واضعي السيناريو الاول لابداعها ، بمساهمته سنة 1967 في تاسيس بذرة الجمعية المغربية للبحث والتبادل الثقافي التي انبثقت منها الحركة الثقافية الامازيغية ، كما انه لم يكن كذلك يلعب فقط دور البطل النجم في هذه الدراما ، بمشاركته الفعلية في كل مشاهد وفصول معاركها الملحمية ، بل كان فوق كل ذلك يعتبر هو مخرجها البارز بادارته أحداثها المختلفة كلها ، بدءا  من احداث تاسيس جمعية أمريك السالفة الذكر، الى أحداث تاسيس جمعية الجامعة الصيفية ، الى أحداث تاسيس المجلس الوطني للتنسيق بين الجمعيات الامازيغية ، ثم الى أحداث تاسيس الكونجريس العالمي الامازيغي ، وانه عندما انتهى هذا المسلسل الدرامي الطويل  بالنهاية السعيدة المعروفة المثمثلة في احداث المعهد الملكي للثقافة الامازيغية ، فاننا مرة اخرى نجد اخياط من بين المساهمين النشيطين في جل المنجزات الكبرى لهذه المؤسسة ، انطلاقا من اقرار وحدة الحرف الامازيغي ” تيفيناغ ” ، الى اقرار وحدة اللغة الامازيغية المعيارية ، الى ادماج الامازيغية في التعليم ، وفي الاعلام ، وفي غير ذلك من المجالات ، واشير أن مواهب هذا الرجل لا تنحصر فقط  فيما ذكرت ، اذ كثيرا ما سمعت هنا وهناك اتصافه بصفات اخرى ، فقيل لي مثلا :

_ انه كان دينامو الحركة الامازيغية ، وقيل ايضا انه كان المايسترو داخل هذه الحركة ، أو كان قطب رحاها ، أو كان قائدها ومنسقها، أو كان موحدها.

ولو قدر لباحث أن يجمع  من أفواه عارفيه  كل ما كان يتصف به هذا العبقري من مواهب ، وما قام به من ادوار، لتم له جمع رصيد اخر غير ما اشرت اليه.

لكن مع تقدير المواهب والادوار المختلفة التي قامت بها هذه القامة الفذة  في خدمة الامازيغية ، ثم ايضا مع تقدير نضال الحركة الامازيغية من اجل نفس هذا الهدف ، فان من الانصاف ومن الموضوعية العلمية الاعتراف بان تلك الخاتمة السعيدة التي انتهت بها دراما النهضة الامازيغية ، ما كانت لتكون بذلك الشكل الجميل ، لولا فضل عاهلنا المستنير جلالة الملك محمد السادس ، الذي اقتنع بعدالة القضية الامازيغية ، محدثا من اجل ضمان حقها في البقاء ، وفي النماء ، مؤسسة المعهد الملكي للثقافة الامازيغية ، وانه ما من شك ان هذا الانفتاح لجلالته على الامازيغية هو ما  مهد لتلك الولادة الجديدة ، أن تجري عمليتها في يسر وسلاسة  في دستور سنة 2011 . 

ومن الانصاف كذلك القول أن نجاح الحركة الأمازيغية في كفاحها ذاك من أجل تحقيق هذه الولادة الجديدة ، يجعلها بحق تصنف ضمن حركات الاحياء الحقيقية ، استناذا الى تعريف الفيلسوف ارسطو للحركة  التي قسمها الى ثلاتة انواع هي :

1)- حركة تبتغي من عملها نقل الشيء من العدم الى الوجود ، أي من الموت الى الحياة، وهذه الحركة يطلق عليها حركة إحياء ، لاستهدافها مد الشيء بالحياة.

2)- وحركة ثانية تستهدف من فعلها نقل الشيء من الوجود الى العدم ، أي من الحياة الى الموت، وهذه الحركة يسميها حركة إبادية استئصالية ، لتوخيها انتزاع الحياة من الشيء.

3)- ثم حركة ثالثة تقصد من نشاطها نقل الشيء من وجود الى وجود آخر، وهذه تدخل ضمن حركات التغيير، لانها تبقى على وجود الشيء ، وترمي فقط الى تغيير ظروفه المكانية أو الزمانية.

إذن بتطبيق هذا التعريف على حركات المجتمع المدني السائدة في بلادنا في تعاملها مع اللغة الامازيغية ، ندرك أن الحركة الامازيغية تصنف ضمن النوع الأول ، اي حركات الاحياء لاستهدافها ضخ الحياة في هذه اللغة ،  بينما حركة القومية العربية  والحركة الاسلامية  تصنفان ضمن النوع الثاني لتوخيهما زرع الموت فيها.

وبعــــــــــــــــــــــــــــــــــد :

أكيد أن الدولة المغربية بإقرارها الامازيغية قد كسبت بذلك فخرا وطنيا ودوليا، لكنها مع الأسف الشديد قابلت رموز الحركة الامازيغية _ الذين قام على أكتافهم هذا المكسب _  بالجحود وبنكران الجميل ، بدليل أن الأخ ابراهيم أخياط الذي يعتبر رمز رموز هذه الحركة ، مات في عزلة تامة ، وفي صمت خبيث ، أو مات بالبرد والإهمال  كما عبر بذلك الأستاذ أحمد الدغرني في مقالة له تقطر حزنا وعتابا مبطنا ،  ذلك انه اذا استثنينا الجائزة التقديرية اليتيمة التي نالها من المعهد الملكي للثقافة الامازيغية ، فانه بالفعل مات مهمشا ومهملا لعدم حصوله من الدولة على ما هو جدير به من  تقدير وتكريم ، لما  قدمه من تضحيات كبرى في سبيل تحقيق  ذلك المكسب الجليل الباعث على الفخر ، والغريب في الامر انه قوبل بكل هذا الجحود ونكران الجميل  رغم استحقاقه هذ التكريم عن جدارة واستحقاق  باعتباره  من الشخصيات المعروفة بكفاءتها الفكرية وبوعيها بالطابع التعددي لثقافتنا الوطنية ، استناذا الى الشهادة الملكية السامية الواردة في ظهير احداث المعهد الملكي للثقافة الامازيغية ، التي قالها جلالته  في حق اعضاء المجلس الاداري للمعهد ، والذي كان الاستاذ ابراهيم اخياط من ضمنهم ،  وان مما يزيد  القلب كمدا وحزنا أن واقع هذا التهميش والإهمال يبدو  كسياسة ممنهجة تمارس في حق رموز الحركة الامازيغية ، لثبوت ممارستها سابقا على الإخوان : عبد المالك أوسادن ، وعبد الله حمزة ، ومحمد منيب ،  وعلي صدقي ازايكو ، والعموري امبارك  وغيرعم ،  ما يجعل الرموز الباقين يظنون انهم سيلقون نفس المصير.

والحق أنه إذا كان رجالات الحركة الوطنية قد نالوا من الدولة الجزاء الاوفر المادي والمعنوي ، لقيامهم بتحرير وطننا من الاستعمار، فإن رجالات الحركة الأمازيغية يستحقون بدورهم هذا الجزاء ، لقيامهم بتحرير ذات شعبنا من عقدها النفسية المزمنة ، التي كبلتها مئات السنين ، ودفعتها خلال كل هذه المدة الى احتقار نفسها ، والى تدمير ذاتها بنفسها ، وبعبارة أوضح ، اذا كانت الحركة الوطنية قد حققت لدولتنا مكسب الاعتزاز بالوطن الحر، فإن الحركة الأمازيغية قد حققت لها مكسب الاعتزاز بالكيان الحر وبالعقل الحر، ومن تمة  يستحق رموزها كل التكريم والتقدير.

وختاما فان المصير البارد والغير الكريم الذي لاقاه _  في حياته وفي مماته _  صديقي الحميم ورفيقي في درب النضال الامازيغي الاستاذ ابراهيم اخياط ، أحدث في نفسي حزنا وقلقا عميقين ، لم يخفف وطأتهما الا ما قرأته من الفيلسوف شوبنهاور حينما ذكر ان العباقرة يكونون دوما محل اهمال معاصريهم ، الذين لا يدركون نبوغهم الا بعد احساسهم بالفراغ المهول الذي يخلفه غيابهم وموتهم ، مستشهدا على ذلك بقولة مأثورة مفادها : ” ان قسمة  عظماء الارض أن لا يعرف قدرهم الا بعد مماتهم “. حينئد ادركت ان صديقي من عظماء هذه الارض ، وان محكمة التاريخ وحدها هي التي ستنصفه ، وتعيد اليه الاعتبار.

  • محامي وكاتب وناشط أمازيغي

اكتشاف المزيد من azulpress.ma

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

التعليقات مغلقة.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. الموافقة قرائة المزيد

اكتشاف المزيد من azulpress.ma

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading