خرافة الملكية البرلمانية بالمغرب
بقلم: محمد بودهان
الأفضل للمغرب أن تحكمه ملكية تنفيذية لكونها، كما أثبت ذلك تاريخ المغرب لما بعد الاستقلال، أكثر ارتباطا بالمغرب وقضاياه وثقافته وهويته
“الملكية البرلمانية” مطلب يتردّد دائما في أدبيات العديد من الهيئات السياسية والحقوقية، ويحضر باستمرار لدى مجموعة من فعاليات المجتمع المدني، وترفعه بشكل متكرّر شخصيات تنتمي إلى عالم الفكر والثقافة… والمقصود بالملكية البرلمانية، كما تُعرّف خطاً بالمغرب لخطأ في الترجمة، ذلك النظام الملكي الذي “يسود فيه الملك ولا يحكم”، حيث يكون الحكم الحقيقي، وليس الشكلي، في يد حكومة حقيقية، وليست شكلية، تتوفر على سلطة تنفيذية حقيقية، وليست شكلية، وتكون بذلك مسؤولة أمام البرلمان. أما “السيادة” التي يتمتّع بها الملك فتخصّ ممارسته لسلطة رمزية وبروتوكولية، لا علاقة لها بسلطة فعلية، كالسلطة التنفيذية التي هي من اختصاص الحكومة المسؤولة وحدها أمام البرلمان.
قلت: “كما تُعرّف خطاً بالمغرب لخطأ في الترجمة”. وذلك لأن عبارة “يسود ولا يحكم”، الشائعة التداول، هي ترجمة غير سليمة لمقابلها الفرنسي “le roi règne mais ne gouverne pas”، حيث يعني فعل “régner”: “يمارس دورَ الملك”، وليس “يسود”، الذي يقابله في الفرنسية: exercer la souveraineté، أي “يمارس السيادة”. ولأن “السيادة” تعني، كمفهوم سياسي وقانوني، ومنذ تعريف “جان بودان” Jean Bodin لها، الحق المطلق في ممارسة السلطة بشكل غير مقيّد ولا مشروط، على منطقة أو بلد أو شعب، مما يجعل منها خاصية ملازمة للدولة حسب ما تملكه من وسائل القوة والإكراه والردع والعقاب، فإن القول بإن الملك يسود ولا يحكم، هو كالقول بأنه يمارس حكما مطلقا لكنه لا يحكم. وهذا تناقض مضحك. أما إذا أردنا ترجمة العبارة إلى العربية، محتفظين بالمعنى المقصود بها، فيمكن القول: “الملك يمارس سلطة رمزية فقط دون حكم حقيقي”.
لماذا المطالبة بملكية برلمانية؟
لأن ملكية تنفيذية، يكون فيها الملك هو الحاكم الحقيقي والفعلي، مثل النظام الملكي في المغرب، تتنافى مع الديموقراطية الحقيقية، ليس فقط لاستحالة أن يكون هناك فصل حقيقي بين السلط، والذي هو شرط واقف للممارسة الديموقراطية، وإنما لأن السلطة الحاكمة، المفترض أنها السلطة التنفيذية للحكومة، هي مسؤولة أمام البرلمان الذي يسائلها عن سياستها وبرامجها وإنجازاتها، ويحاسبها عن أي تقصير أو سوء تدبير أو اختلال في التسيير… والحال أن الملك لا يُسأل ولا يُحاسب. وعندما يكون هو الحاكم الحقيقي، كما في المغرب، ودون أن يُسأل ويُحاسب عن نتائج حكمه، فذلك حكم فردي ديكتاتوري ومزاجي لا علاقة له بالديموقراطية بتاتا. وفي هذه الحالة، يكون البرلمان والحكومة مجرد مؤسسات صورية وريعية، والانتخابات مجرد ديكور شكلي لا ينتج حكومة تحكم فعلا، ولا برلمانا يشرّع حقا.
ومن هنا كانت الحاجة ماسّة إلى الملكية البرلمانية، كشكل وحيد لتَوافُق نظام الحكم الوراثي مع شروط الحكم الديموقراطي. ولهذا غالبا ما يستشهد المطالبون بالملكية البرلمانية بملكية إسبانيا وبريطانيا، حيث إن الملك بهاتين المملكتين، إذا كان لا يُسأل ولا يُحاسب أمام البرلمان، فذلك لأنه لا يحكم، وإنما له اختصاصات رمزية وبروتوكولية فقط.
وهل المغرب ليس بملكية برلمانية؟
يقول الدستور المغربي في الفقرة الأولى من الفصل الأول: «نظام الحكم بالمغرب نظام ملكية دستورية، ديمقراطية برلمانية واجتماعية». واضح أن النص يصف الملكية المغربية بـ”البرلمانية”. إذن لماذا المطالبة بشيء هو أصلا موجود؟ وإذا عرفنا أن الملكية البرلمانية هي الملكية التي تتعايش مع وجود برلمان يحدّ من سلطات الملك، حيث يكون هذا البرلمان وحده المختص بالتشريع في مجالات يستأثر بها من دون الملك، فستكون الملكية بالمغرب ملكية برلمانية لوجود برلمان له سلطات (الفصل 71 من الدستور على الخصوص) تجعل سلطات الملك محدودة لكونها لا تشمل تلك المجالات التي هي من اختصاص البرلمان. وفضلا على أن نظام الحكم بالمغرب يمكن اعتباره ملكية برلمانية، بالشكل الذي شرحناه، فهو قبل ذلك ملكية دستورية، كما تؤكّد الفقرة الأولى المشار إليها أعلاه. والملكية الدستورية هي الملكية التي تكون فيها سلطات الملك مقيّدة بدستور.
هل هذا يعني أن الملكية المغربية هي حقا دستورية وبرلمانية، وبالتالي فليس هناك مبرّر معقول للمطالبة بتحويلها إلى برلمانية، لأنها هي أصلا ومسبقا برلمانية، كما سبقت الإشارة؟
دستور ممنوح:
المشكل هو أن الدستور المغربي، بكل مقتضياته التي تعطي سلطات للبرلمان وللحكومة، من شأنها أن تحدّ من سلطات الملك، وتلك التي تقيّد كذلك سلطاته بتحديد الإطار الذي ينبغي أن تُمارس فيه تلك السلطات، هو دستور ممنوح ما دام أن لجنة ملكية، عيّنها الملك نفسه لهذا الغرض، هي التي صاغت هذا الدستور. وأين المشكل إذا كان الدستور ممنوحا؟ المشكل أن القيود التي يحدّ بها الدستور من سلطات الملك، هي، في النهاية، ذات مصدر ملكي غير مستقل عن الملك نفسه، مما يعني أن تلك السلطات، التي تنازل عنها الملك لصالح البرلمان والحكومة، هي تلك التي اختارها هو باعتبارها ثانوية وغير ذات أهمية بالنسبة إليه، لكونها لا تنتقص شيئا من سلطاته الحقيقية والتنفيذية. النتيجة أن الدستور يضعه الملك بنفسه لنفسه، سواء أعدّه الفقيه القانوني “موريس دي فيرجي”Maurice Duverger ، كما فعل بالنسبة إلى دساتير الحسن الثاني التي كتبها بطلب منه، أو أعدّتها لجنة عيّنها الملك لنفس الغاية، كما فعلت “لجة المانوني” التي حرّرت الدستور الحالي. ومصادقة الشعب المغربي عن طريق الاستفتاء على هذا الدستور لا ينفي عنه أنه يبقى مع ذلك دستورا ممنوحا، صادرا عن إرادة الملك، ولم يصدر عن سلطة تأسيسية pouvoir constituant منتخَبة.
ولهذا فرغم الإيجابيات الكثيرة التي جاء بها دستور 2011 مقارنة مع الدساتير السابقة، إلا أنه لا يؤسّس ـ ولا يمكنه ذلك ـ لملكية برلمانية حقيقية، مثل الملكية البرلمانية لمملكة إسبانيا مثلا، والتي غالبا ما يستحضرها المطالبون بملكية برلمانية بالمغرب كمثال، كما أشرت.
وقد اعترف المستشاران الملكيان، السيد عمر عزيمان والسيد عبد اللطيف المنوني، رئيس لجنة صياغة دستور 2011، في حوار لهما مع وكالة “فرانس بريس” بمناسبة مرور عشرين سنة على حكم محمد السادس، بأن المغرب لا زال لم يصل بعد إلى الملكية البرلمانية. فقد قال السيد عزيمان: «لسنا في إطار نظام يشبه الملكية الإسبانية، أو الهولندية، حيث يسود الملك دون أن يحكم، نحن في ظل نظام ملكية من نوع آخر، لكن سلطات الملك محددة». وأوضح السيد المنوني قائلا: «نحن على طريق ملكية برلمانية، لكن بطبيعة الحال لاتزال ثمة ربما بعض المقتضيات، التي يلزم تجويدها» (“اليوم 24” بتاريخ 28 ـ 07 ـ 2019 ــ http://www.alyaoum24.com/1282178.html).
وعلى ذكر الملكية الإسبانية، والتي يستحضرها دائما، كما قلت، المطالبون بملكية برلمانية بالمغرب، كما أشار إليها أيضا المستشار الملكي السيد عزيمان، يجدر التوضيح أن الفرق الأساسي، بين ملكية برلمانية كما في النظام الإسباني، وملكية تنفيذية كما في النظام المغربي، يظهر في كون دستور المملكة الإسبانية هو الذي أوجد الملك، عكس الدستور المغربي الذي أوجده الملك بقراره الإرادي الانفرادي الذي عبّر عنه في خطابه يوم تاسع مارس 2011. ولا يصحّ التحجّج بأن الدستور المغربي يستمدّ شرعيته من الشعب المغربي الذي صادق عليه في استفتاء عام، تماما مثل الدستور الإسباني الذي عُرض هو أيضا على استفتاء شعبي. فالدستور المغربي، كما قلنا، مصدره الوحيد هو الملك، أولا من حيث إعطاؤه الأمرَ، في خطاب 9 مارس 2011، بإعداد دستور جديد، حسب ما أشرنا إليه، وثانيا من حيث تعيينه للجنة ملكية لصياغة هذا الدستور. وفي مرحلة ثالثة هناك المصادقة الشعبية على المشروع الذي صاغته تلك اللجنة الملكية. أما الدستور الإسباني فهو منبثق كلية عن الشعب الإسباني، وذلك أولا بانتخاب برلمان هو الذي اختار من بين أعضائه لجنة كُلّفت بتحرير دستور 1978، وثانيا بمناقشة نفس البرلمان لمشروع الدستور وتعديله ثم الموافقة عليه، قبل عرضه في المرحلة الأخيرة على استفتاء شعبي بتاريخ 6 ديسمبر 1978. ولم يتدخل الملك، الذي أصبح له وجود بفضل ذلك الدستور، إلا للتعبير الشكلي عن قبوله لنص الدستور أمام البرلمان بتاريخ 27 ديسمبر 1978. فدور الملك الإسباني في وضع الدستور غائب بالمطلق، سواء في قرار إعداد الدستور الجديد، أو في مراحل إعداده وصياغته والمصادقة عليه. هذا الفرق بين مصدري الدستورين يُبرز الفرقَ بين دستور ممنوح، ودستور تضعه لجنة تأسيسية منبثقة عن انتخابات عامة.
مأزق الديموقراطية بالمغرب:
أشرت إلى أنه بالنظر إلى الطبيعة الوراثية للأنظمة الملكية، فإن الشكل الوحيد الذي يجعلها تنسجم مع شروط الممارسة الديموقراطية هو الملكية البرلمانية، حيث يتمتّع الملك بسلطات رمزية لكنه لا يحكم. أما بالنسبة إلى الملكية المغربية، نظرا لتاريخها ونشأتها السلطانية، واستعمالها للدين، وبنيتها المخزنية، ودور الحماية في تقوية جانبها المخزني هذا، فإن الملك فيها يحكم لأنه يسود، بالمعنى الحقيقي لممارسة السيادة كما سبق شرحه. فالأصل هو الحكم الفعلي الناتج عن السيادة الفعلية، وليس السيادة الشرفية كما في الملكية الإسبانية أو البريطانية أو الهولندية، أو اليابانية…، والتي (السيادة) لا تُنتج ممارسة حقيقية لحكم حقيقي. وهذا ما يجعل الملكية بالمغرب إما أن تكون سلطوية وتنفيذية أو لا تكون، ما دام أن كينونتها هي أن تحكم نتيجة كونها ذات سيادة، أي ذات حق مطلق لممارسة سلطة غير مقيّدة، حسب شرحنا السابق لمعنى “سيادة”.
وهذا هو مأزق الديموقراطية بالمغرب: لا يمكن أن تكون هناك ديموقراطية حقيقية مع وجود ملكية تنفيذية. لكن لا يمكن أن تكون هناك ملكية في المغرب دون أن تكون تنفيذية. وهذا مأزق أيضا بالنسبة إلى المنادين بملكية برلمانية: فعندما يطالبون بهذه الملكية البرلمانية، فهم في الحقيقة يطالبون ضمنيا بإلغاء الملكية، لكون الملكية بالمغرب، كما أوضحنا، إما أن تكون تنفيذية أو لا تكون. ونتيجة لهذا المأزق، يقعون في تناقض والتباس عندما يطالبون، عند كل تعديل دستوري، بدستور يؤسّس لملكية برلمانية، يمارس فيها الملك سلطات رمزية بدون حكم حقيقي، لكن دون أن يطالبوا بانتخاب سلطة تأسيسية تتكلّف بإعداد دستور هذه الملكية البرلمانية. لماذا سلطة تأسيسية؟ لأنه لا يمكن أن ننتظر من طبيعة “المنْح” التي تسِم الدساتير المغربية، “منْحَ” دستور يكتفي فيه الملك بحكم شرفي رمزي يستغني فيه عن الحكم التنفيذي الحقيقي، وإلا لما كان الدستور “ممنوحا”. فبما أن الملكية بالمغرب، كما شرحنا، إما أن تكون تنفيذية أو لا تكون، فلا يُتصوّر أن “يمنح” الملكُ نفسُه دستورا يلغي به صفته كملك ذي سلطات تنفيذية، وليست فقط شرفية ورمزية. لأن ذلك يعني إلغاء للملكية المغربية التي لا يمكن أن توجد إلا إذا كانت ذات سلطات تنفيذية، كما سبق بيان ذلك. وهذا ما ينتج عنه مأزق ثالث: فالملكية البرلمانية لا يمكن أن تأتي إلا من خارج الملك، أي من دستور غير ممنوح تضعه سلطة تأسيسية مستقلة عن الملك. لكن المدافعين عن الملكية البرلمانية بالمغرب يطالبون الملك نفسه أن يضع دستورا يرسي دعائم الملكية البرلمانية، أي دستورا لا يبقى معه الملك ملكا، لأن الملك بالمغرب إما أن يكون ذا سلطات تنفيذية أو لا يكون، كما سبق أن أوضحنا.
ملكية ليست ديكتاتورية ولا برلمانية:
لكن إذا كانت الملكية التنفيذية قدَرا مغربيا، فمن حسن الحظ أن هذا الشكل من الملكية ليس بالضرورة شرا دائما. وقد سبق لأرسطو أن ميّز بين الديكتاتورية التي يحتكر فيها الحكمَ فردٌ واحد يستعمله لمصلحته الشخصية، وبين نوع من الملكية التي يحتكر فيها، هي أيضا، الحكمَ فردٌ واحد لكن يستعمله لمصلحة الجميع (“monarchie”, encyclopédie Universalis). فمثل هذه الملكية، التي تراعي مصلحة الجميع، أي مصلحة الشعب، يمكن اعتبارها ملكية ديموقراطية في سياستها العامة إزاء شعبها. لكن هي غير ديموقراطية لكونها تحتكر الحكم لنفسها وتمنع عن الآخرين فرص الوصول إلى هذا الحكم وممارسته. وهذا ما يذكّر بمفهوم “المستبدّ العادل”، المعروف في الفكر السياسي العربي الإسلامي، كما نجده عند جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وعبد الرحمان الكواكبي… ولهذا إذا كان النظام الملكي بالمغرب يبدو حكما فرديا واستبداديا، إلا أن ما يعطيه بعضا من مظاهر الديموقراطية هو أنه يحكم طبقا لقواعد، وليس فقط تبعا للمزاج والرغبة. حقيقة أن مشكل الديموقراطية يبقى قائما، لأن هذه القواعد، التي يحكم النظام الملكي المغربي وفقها، هو الذي وضعها (الدستور الممنوح)، وليست نتيجة دستور مستقل عن الملكية، ومُلزِم لها.
لكن ما يجعل الحكم بالمغرب يبتعد أكثر عن الديموقراطية، ليس فقط لأن الملكية هي التي تختار القواعد التي تحكم طبقا لها، ولا حتى لأنها قد لا تطبّق هذه القواعد التي قرّرتها هي نفسها، وإنما لأن هذا الحكم يعتمد، كشرط لوجوده واستمراره، على الريع والفساد كركن رابع للدولة المغربية، يضاف إلى الأركان الثلاثة المعروفة: الشعب والأرض والسلطة. فمع سياسة الريع والفساد الملازم لها، ينتفي حتى مفهوم “الاستبداد العادل” ليحلّ محله “الاستبداد الجائر”، لأن الريع والفساد هما ظلم للشعب، واعتداء على حقوقه بنهب أمواله وخيراته من طرف طبقة الفاسدين والمفسدين. وهذا ما يُفقد الثقة في الحكام والسياسيين، وفي العمل السياسي بصفة عامة.
لكن ماذا لو كان الملك ذا سلطة شرفية ورمزية فقط؟
لنكنْ واقعيين وصرحاء. ماذا كان سيحصل لو أن الملك بالمغرب يتمتّع بسلطات رمزية بدون حكم حقيقي، كملك إسبانيا مثلا؟ أي ماذا كان سيحصل لو أن الحكومة المغربية تتمتع بكل السلطات السيادية والتنفيذية الحقيقية، حيث يكون رئيس الحكومة هو المشرف والمسؤول المباشر على أجهزة المخابرات ومؤسسات الجيش والدرك والشرطة، أي هو الممسك الحقيقي بزمام السلطة الحقيقية التي لا بدّ لوجودها من وجود هذه الأجهزة والمؤسسات “المسلّحة”، كأدوات مشروعة لاستخدام العنف المشروع، وممارسة السيادة الفعلية كأعلى درجات الهيمنة والتحكّم؟ ألا تكون حكومة “البيجيدي” الإخوانية قد استعملت سلطاتها السيادية هذه، لتحويل المغرب إلى إمارة “إخوانية”، حتى لا نقول “داعشية”، لتفرض “شرع الله” كما تعِد بذلك في حملاتها الانتخابية، وتكتبه في منشوراتها ووثائقها؟ وألا تكون قد حاربت الأمازيغية، أكثر مما تفعل اليوم، باعتبار ذلك “جهادا” يفرضه “شرع الله”؟ ولو كانت الحكومة يسارية، ألا تكون قد استعملت نفس السلطات السيادية لتحويل المغرب، ليس فقط إلى دولة عربية، بل إلى ملحقة فلسطينية تستعمل كقاعدة خلفية لمحاربة الصهيونية والأمازيغية التي تعتبرها “حليفا” لها؟
وعلى ذكر الأمازيغية، أليس بفضل الملكية التنفيذية (الفص 19 من الدستور السابق) أُنشئ لها معهد ملكي للنهوض بها؟ واليوم، أليس بتدخل لسلطات الحكومة والبرلمان، وليس لسلطات الملك، تم الإجهاز على هذا المعهد وإقباره، انتقاما من الأمازيغية التي كانت تحظى برعاية ملكية بفضل الملكية التنفيذية وليس البرلمانية؟ فما فعلته الحكومة والبرلمان بالأمازيغية، سواء بإصدارهما قانونا تنظيميا لإعدام ترسيمها (انظر موضوع: “قانون تنظيمي لإعدام ترسيم الأمازيغية”، على رابط “تاويزا”: http://tawiza.byethost10.com/1tawiza-articles/arabe/organique3.htm)، أو بإعدامهما لمعهدها الملكي، يعطينا فكرة عما كانت ستفعله هاتان المؤسستان بالأمازيغية لو كانتا تتمتّعان بكامل السلطات التشريعية والتنفيذية الحقيقية في إطار ملكية برلمانية. ليس من المبالغة إذا قلنا إنهما ربما لشرّعتا تجريم الكلام بالأمازيغية في الفضاءات العمومية. أما كتابتها فتلك ستكون بمثابة الخيانة العظمى.
أين هي أحزاب الملكية البرلمانية؟
كل هذا يبيّن أنه لا توجد لدينا، إلى اليوم، أحزاب في مستوى الملكية البرلمانية. الأحزاب الموجودة ترتبط، في غالبيتها، بما هو أجنبي عن المغرب، مثل الإسلام الوهابي والإخواني ذي المصدر المشرقي الخارجي، والعروبة العرقية والقومية، المستوردة من نفس المشرق. فهل من مصلحة المغرب أن تحكمه أحزاب، على فرض أن نظام الحكم سيكون ملكية برلمانية لا يتوفّر فيها الملك سوى على سلطات رمزية وشرفية، لا مصلحة لها إلا خدمة مصالح أجنبية عن المغرب، والدفاع على فاحشة التحوّل الجنسي للمغاربة من جنسهم الأمازيغي الإفريقي إلى جنس عربي أسيوي، وهو ما تسمّيه هذه الأحزاب بالتعريب؟
لنكنْ واقعيين وصرحاء مرة أخرى. عندما تكون لدينا أحزاب مغربية حقيقية، أي أحزاب تدافع عن أصالة المغرب وهويته الإفريقية الحقيقية، التي هي أمازيغيته الإفريقية، وتعمل على إشاعة الاعتزاز بهذه الهوية الجماعية لدى المغاربة، آنذاك فقط يمكن أن نتحدث عن أحزاب من حقها أن تطالب بملكية برلمانية، حتى تمتلك الأدوات القانونية والدستورية والمؤسساتية للدفاع عن التوجه الأمازيغي الوطني للدولة، وتحصين الاستقلال الهوياتي للمغرب، وحمايته من عاهة التحوّل الجنسي، القومي والهوياتي، الذي كانت تنشره الأحزاب الإسلامية واليسارية والقومية، كعدوى فيروسية انتقلت إليها من “الحركة الوطنية”.
أما القول بأن الملكية، في شكلها التنفيذي الحالي، ليست أقل عروبة ولا أقل تيوقراطية من هذه الأحزاب العروبية والإسلامية، فإن ما يجب إدراكه والانتباه إليه هو أن الملكية كسلطة سياسية لا يهمّها ـ وهذا يصدق على كل سلطة سياسية بصفتها سلطة سياسية، وذلك حتى في أكثر الأنظمة ديموقراطية ـ إلا ما يخدم هذه السلطة ويقوّيها ويضمن بقاءها واستمرارها. ولأن التوجه العروبي القومي بالمغرب، مع استعماله للإسلام لدعم توجّهه هذا، أصبح مهيمنا منذ “الحركة الوطنية”، فليس من مصلحة الملكية أن تسير في اتجاه معاكس لتيار له حضور قوي. ولهذا فإن الحكمة السياسية تفرض عليها التبنّي المؤقّت لهذا التوجه العروبي القومي قصد احتوائه واستعماله لصالحها. ونفس الشيء بالنسبة للإسلام الوهّابي الذي أدخلته الملكية إلى المغرب منذ ثمانينيات القرن الماضي لتواجه به التوجهات الإسلامية، التي كانت ترمي إلى الطعن في شرعية الملكية باسم الخلافة الإسلامية، كما حاول أن يفعل المرحوم عبد السلام ياسين وأتباعه. ولهذا لو كان هناك تيار أمازيغي قوي ومهيمن إيديولوجيا وسياسيا، لكانت الملكية هي السبّاقة إلى الإعلان أن المغرب مملكة أمازيغية، لتستميل وتستعمل لصالحها العنصر الأقوى. ولو كان هناك تيار علماني قوي ومهيمن إيديولوجيا وسياسيا، لكانت الملكية سباقة إلى تضمين دستورها فصل الدين عن الدولة. فما يهمّ الملكية، كسلطة سياسية، كما شرحت، هو ما يخدمها، سواء كان عروبة أو أمازيغية، حركة دينية أو توجها علمانيا.
في إطار الوضع الحالي لأحزابنا، ونظرا لهيمنة العروبة العرقية والقومية والإسلام السياسي على أولوياتها واختياراتها وإيديولوجياتها، فإن الأفضل للمغرب أن تحكمه ملكية تنفيذية لكونها، كما أثبت ذلك تاريخ المغرب لما بعد الاستقلال، أكثر ارتباطا بالمغرب وقضاياه وثقافته وهويته. وهو ما يجعل استبدادها أفضل بكثير من ملكية برلمانية تكون فيها السلطة الحقيقية في يد أحزاب تنكر أمازيغية المغرب، وتفضّل خدمة القضايا الأجنبية، كفلسطين وتنظيم الإخوان العالمي، على القضايا الوطنية.
بقلم: محمد بودهان
اكتشاف المزيد من azulpress.ma
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
التعليقات مغلقة.