حينما يعزف اللون سمفونيته

لقد أصبح النظر بالنسبة للناقد الذي يتناول الأعمال الفنية قراءة وتحليلا، واجبا يقضي بتسوية المسارات التي باتت متحجرة غير إسفلتية والتي تغوص في أعماق قلب الفن المغربي، ومسببة في جروح دامية تمزقات يصعب اندمالها. تلك المسارات التي ملأها الزمن الثقافي الموروث عن الاستعمار أعطابا جعلت المشي عليها من الصعوبات التي باتت تعترض الفنان المغربي خاصة والعربي عموما. 

من المعلوم أن الإنسان يعد “العنصر الأهم والأساس في كل المنجزات الفنية”، إلا أن التعبير عنه وعن همومه وماضيه وحاضره ومستقبله يختلف من فنان إلى آخر ومن اتجاه فني إلى غيره. فهناك من يعبر عن الإنسان كموضوع وتيمة عيانيا وبجلاء، متقمصا اتجاها تشخيصيا بعينه، وهناك من يترك للرموز التي أبدعها الإنسان نفسه تعبر عنه وعن وجوده وهويته (تَمَغايته)، تؤثث فضاء المنجز الفني حسب تركيب يختاره الفنان ليترجم أحاسيسه وانفعالاته ورؤاه اتجاه تلك الهوية واتجاه التراث.
زهيرة تكطاط تعبر عن التراث والثقافة الأمازيغيين، عن (تمغايتها) بالرموز التجريدية المستوحاة من التراث الشعبي الأمازيغي. ولا أحد ينكر أن التعبير بالتجريد أعلى مرتبة من التعبير بالتصوير التشخيصي. وهنا تكمن المفارقة إذا نحن وضعنا أعمالها في مواجهة إنجازات غيرها من فنانات الاتجاه العصامي أمثال فاطنة كبوري التي تتناول، بتقنية تشخيصية مختزلة موضوع المرأة القروية كرمز للثقافة (العروبية)، وإذا استحضرت علامات هنا وهناك فهي عبارة عن أشكال هندسية تؤثث فضاء اللوحة، خالية من أي مرجعية أنثروبولوجي تعكس حضورها الأنطولوجي.
إن شخوص زهيرة و(نماذجها البشرية) لا هي بالحالمة ولا بالمسحورة، كما هي شخوص فاطمة حسن، التي “يشع الرسم عندها بالأشكال والألوان والنماذج البشرية الحالمة والمسحورة”. لوحات زهيرة تكطاط تعكس واقعا حضاريا يقظا مستيقظا. فحينما نرميها ببصرنا لا تحيلنا إلى الخيال العام الحالم، بل تربطنا بمخيال عيني يقظ، مخيال سوس العالمة وحدها دون غيرها.
أتذكر ما قالته الفنانة الشعيبية يوما حينما سئلت ما هو التصوير؟ فأجابت ببساطة: الغناء.
انه الغناء المكون من عالم الألوان المتناغمة والمنسجمة، التي تسمعنا نوتتها، ومن خلال السمع تتلذذ العين بما يطوف أمامها من إيقاعات لونية (كروماتيك)، مصدرها طيف السماء.
سمفونية اللون
المعزوفة السمفونية تولد غالبا في الصبح الباكر، الوقت المفضل للاشتغال لدى الفنانة زهيرة. فهي تعزف سمفونيتها ولا يسمعها أحد غير ذاتها، مترشفة نسمات ريح الأطلسي التي تهب بسلاسة لتغمر سديم سماء أكادير. سماء لا تعرف، مع غبش الليل وطلائع الفجر الأولى من الألوان غير السفوماتو Sfumato البخاري الذي ينبئ بقدوم تباشير النهار الخفية.
لم تقف زهيرة فقط عند تملك فضاء لوحاتها بل أصبحت تتحكم أيضا في حركات ريشتها وألوانها. فصعب أن ترسم بالفرشاة. إنه حذق وممارسة مضنيين. فهي رسامة ملونة Dessinatrice coloriste وليست صباغة ملونة Coloriste dessinatrice. فمن الصعب أيضا أن تستخرج ألوانا أنت تتصورها ذهنيا فوق سطح اللوحة قبل أن تضعها. إنها معاناة التخليط…التي تدفع الفنان إلى المزيد من الإضافات الصباغية ولن يتوقف حتى يكون الخاطر راضيا عن النغمة اللونية التي يراها مناسبة لتكوينه التشكيلي، ولسمفونيته.
انزياح المضمون
البحوث اللونية/البحث عن اللون ترغم التعبير التصويري على الانزياح. فتنمحي المضامين التي اعتدناها لدى غالب الفنانين العصاميين. يغيب الحكي والسرد ووصف شوائب المجتمع والمحيط. وإذا حضرت الشخوص تجدها متلبسة بدورها، بتهمة الانزياح. فليست حاضرة لحكي قصص الظواهر الإتنوغرافية أو سرد نوادر حياتية، ولكن حضورها، رغما عن اختيار الفنان، انتهاك لبعض من قوانين عالمه الفني وتقويض لمعايير السمفونية اللونية. هذا الولوج القسري لتلك الشخوص يشوش على نوتة الألوان التي تسعى زهيرة لكتابتها، ويزعزع ترتيب أبجدية الأشكال. ربما ترى نفسها مرغمة لجعلها أثاثا إضافيا يشهد على أنطولوجيا العمل الفني الحضارية. لكن الألوان بحرارتها والأشكال المشحونة بحمولتها الرمزية كافية وحدها لتحقيق هذا الغرض. إن حضور الشخوص، كما هو حضور عناصر مستمدة من الطبيعة العينية يكسر امتداد الفضاء التشكيلي للوحة فتصبح شبه نافذة، ضيقة الحدود، قصيرة الآفاق، تطل على عالم خيالي، يحيل على مضمون مجتمعي. بينما غياب العناصر “الطبيعية” يجيز أمكانية توسع الفضاء التشكيلي وتمدده فتصبح اللوحة الواحدة قطعة من عالم تجريدي شاسع، حر، يصعب الوقوف عند حدوده النهائية. من تم يمكن قراءة اللوحة من الجهات الأربع، ليس لها فوق ولا تحت، تتغير نقطتها القطبية حسب نظرتنا لها.
الفضاء التشكيلي
خلقت زهيرة تكطاط لنفسها فضاءا تشكيليا تمكنت بممارستها اليومية، من ضبط حدوده والتحكم في محدداته ومعالمه. ورغم كون الفضاء يحاول تحديها حينما تقف أمام اللوحة البيضاء الخام، الخالية من كل لون إلا من الطلاء الأبيض، تقف لحظات وربما ساعات طويلة، مشدودة في حيرة، متسائلة مع نفسها: ماذا أرسم؟ من أين أبدأ؟ لكنها سرعان ما تتغلب على وسوستها المحيرة التي ما فتئت تعرقل مسيرة العديد من المبدعين، تتغلب عليها حينما تشرع في تغطية البياض بلون هي اختارته، ليشكل عمق اللوحةdu tableau le fond، العمق الذي به سيتحدد أساس العمل الفني لونا وتكوينا ورسما، العمق الذي ستتموضع فوقه، متراقصة، متناغمة، تركيبات النوتة اللونية. إن العمق بألوانه المتنوعة المغطية، يشكل خشبة أوركسترا سمفونية الألوان والأشكال والشخوص الحاضرة مرة والغائبة مرات ومرات.
العمق/الخلفية هي عبارة عن نسيج لوني يحيلنا على الزربية والحنبل وأنسجة تراثية أخرى ترتبط أصالتها بمنطقة سوس. إنه فضاء مغطى برموز وعلامات وخطوط تنساب، تائهة في كل اتجاه فتتلاقى وتتقاطع لتتولد عن تقاطعها أشكال هندسية مختلفة المصدر.
تضيف زهيرة شخوصها كعنصر تصويري Figuratif لتزيد من حدة الوفرة التعبيرية للوحة. فهي تسعى لأن يكون حضور الإنسان الأمازيغي تشريحيا وليس تلميحا بالرموز التراثية فقط، إذ أنها ترى أن مجازية الرمز والعلامة غير كافية لسبر خبايا الأعماق.
العنصر التشخيصي/الشخوص حاضر كرموز تحيل إلى ثقافة بعينها، ثقافة سوس المغرب، سوس العالمة: ألبستها، عاداتها، حرفها، أوشامها…أحيانا تغيب الحدود بين تلك الشخوص وما يتكون حولها من أشكال غير تشخيصية، فيسبح الكل في عالم كوسمولوجي تنصهر فيه ثقافة التجريد المميزة للتراث الفني الأمازيغي مع ثقافة التشخيص.
ثقافة سوس التشكيلية اتخذت لنفسها الجسد كسند Support للتعبير والإفصاح عن ذاتها كما أن الجسد نفسه، جسد إنسان سوس أحاط نفسه برموز هو منها وهي منه. لا أسمي تلك الرموز “بربرية” كما يسميها البعض. بربرية تسمية قدحية تحمل دلالات استعمارية كولونيالية، دونية، كما هو حال تسمية “فطري” و”ساذج”، ألصقت بفناني المغرب العصاميين الذين كونوا أنفسهم بأنفسهم وخلقوا لذواتهم عوالم تشكيلية خاصة بهم، يطلون من خلالها على العالم ويكشفون عبرها عن عالمهم الداخلي. اعتبروا سذجا لأن فنهم لا يخضع لأي قاعدة ولا يستجيب لأي معيار أكاديمي/مدرسي.
فنهم حر كما هو الغناء والشعر الحرين. لماذا لا نتحدث عن شعر ساذج وغناء ساذج وأدب ساذج؟
أمفروض علينا أن نصنف جميع الأعمال الفنية طبقا لقواعد الأكاديمية الأوروبية، حتى ولو كانت تلك المنجزات لا تخنع لأي قاعدة أو معيار معهودين؟
فالعنصر التشخيصي سواء كان شخوصا Silhouette أو أشجارا أو أشياء أخرى منطبقة على أسلوب معين، ما هي إلا رموزا حاضرة للتعبير تشكيليا عن هوية سوس العالمة، عن أرض الفنانة زهيرة تكطاط.
إنها الهوية Tamagayete، بلغة تفيناغ.
(Tamagayete تمﯕايت) هو عنوان إحدى اللوحات التي تحضر بها شجرة الأرﯕان، شجرة سوس التي لا نجدها في أي مكان من المغرب أو العالم. إنها شجرة رجالات سوس ونسائها. تقول زهيرة: “هي شجرة الأرﯕان الصامدة لقساوة مناخ الجنوب، مثلها مثل المرأة عموما والتي أخذت على عاتقها الحفاظ على الموروث الثقافي من نقوش وأوشام وزخارف على الزرابي والأثواب، إنه تعبير عن المرأة وتجذر الموروث الثقافي في كيانها كصمود الشجرة النادرة والقديمة جدا”.
إنها فعلا شجرة الصمود والصبر تقف في وجه التغيرات المناخية والبشرية وتصمد لما يفعله الماعز بها، الحيوان الذي يظل طيلة النهار متعلقا بأغصانها متخذا إياها مرتعا له. إنها “شجرة مباركة” بزيتها وغلتها وسمعتها العالمية، تضاف إلى “شجرة مباركة” أخرى، شجرة الزيتون التي باركها القرآن الكريم في سورة النور.
محمد خصيف
نونبر 2016

الفنانة الامازيغية زهيرة تكطاط
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. الموافقة قرائة المزيد