حفــــــــــلات المســـــــــــوس بســــــــــــــــوس رقصات شعبية أم طقوس علاجية؟

بقلم عبد العزيز المنتاج

تنتشر في بعض مناطق سوس وخاصة في مناطق قبيلة امسكينة بأكادير وأيت باها باشتوكة حفلات شعبية، تقدمها مجموعات إسمكان، يطلق على بعضها حفلات “المسوس”، يمكن للقراء أن يعودوا لمتابعة الكثير منها على يوتيوب. فما يميز هذه الحفلات عن غيرها أنها تنظم في وقت محدد من السنة، وأنها قد تستمر لأيام، بحيث تقام هذه الحفلات بعدة مناطق مثل الدراركة وتكاديرت وتماعيت ولقليعة وإخربان وتمسية وهوارة…

ولمدة ثلاثة أيام، تبدأ بيوم الجمعة وتنتهي ظهر يوم الأحد. كما تتميز بطغيان الجانب الروحي الذي يرخي بظلاله على كل من يحضر هذه اللقاءات. وقد حضرت بعض هذه الطقوس، مما جعل الموضوع يثير شغفي، لهذا قررت أن أبدا في البحث عن أصول هذه الممارسات وجذورها وكل ما يحيط بها والتعريف بها وطنيا. بالإضافة إلى الغاية منها مع محاولة تفسيرها، وكشف حقيقة ما يُثار حولها من روايات شعبية وفق رأي العلوم الحديثة من أنتروبولوجيا وسوسيولوجيا وعلم النفس. فما المقصود بحفلات المسوس؟ ومن ينظمها؟ وماعلاقتها بالموسيقى والليلة الكناويتين؟ ولماذا تنظم هذه الحفلات؟ وكيف تتحول من حفلات رقص جماعي إلى مشاهد إغماءات وجذب وندب وصراخ؟ وما حقيقة أهدافها العلاجية من وجهة نظر الدين وعلم النفس؟
موسيقى إسمكان

قبل الخوض في الموضوع لابد من التنبيه إلى أن هناك اختلافا بين مجموعة إسمكان( العبيد) وكناوة، وقد طرحنا السؤال على (ر ف) عضو مجموعة إسمكان بالدراركة فأكد لنا أن هناك فروقا كثيرة بين مجموعة إسمكان وكناوة، أولها أن إسمكان قد سبقت كناوة، بمعنى أن إسمكان هي الأصل، ومع مرور الزمن تطورت لتظهر الموسيقى الكناوية، كما أن هناك اختلافات أخرى من حيث اللباس، إذ تعتمد مجموعة إسمكان على لباس موحد غالبا مايكون أبيض أو أخضر، بالإضافة إلى وضع عمامة على الرأس، وخنجر في الحزام، أما من حيث الآلات الموسيقية فتعتمد مجموعات إسمكان على الطبل (كانكا) و”القرقاشات” وأحيانا “لوثار”،ولهذا هناك من يسمي هذه الحفلات بحفلات لوثار المسوس، بينما تعتمد كناوة على آلات موسيقية أخرى مثل الطارة أو الهجهوج.

أما من حيث اللغة فأثار انتباهنا أن إسمكان يغنون فقط باللغة الأمازيغية، وهو التساؤل الذي حملناه للباحث خالد البركاوي الذي يقدم برنامج أمالاي (الجوال) بالقناة الأولى حيث أكد لنا أنه صادف مجموعة إسمكان نواحي تنغير يغنون بالعربية، ويختلفون عن إسمكان سوس بكونهم يضربون على الطبل بعصا ويد، بينما يضرب إسمكان سوس الطبل (كانكا) بعصوين، لنخلص في الأخير إلى أن الظاهرتين الموسيقيتين لهما نفس الأصل، فقط احتفظت إسمكان بطابعها الكلاسيكي التراثي، بينما خضعت تكناويت للتطور والتحول والانتقال خارج مجالها، مستفيدة مما راكمه حقل الموسيقى من تنوع في الايقاعات والملابس والآلات، وما شهده من ثأثر وتداخل وتثاقف بين موسيقى الشعوب الأخرى.

المسوس، حفلات غير معروفة وطنيا.
تحمل كلمة “المسوس” في معناها القريب دلالة واضحة، أي الطعام الذي لا ملح فيه، وهي كلمه يدرك مغزاها كل المغاربة تقريبا لارتباطها بالملح وطعم الطعام، نقول طعام مالح وعكسه طعام “مسوس”. أما المعنى الاصطلاحي، فالمسوس أو “تالمسوست” بالأمازيغية في بعض المناطق الأخرى، تعني حفلات تنظمها مجموعات إسمكان في أيام من السنة، بالتناوب بين عدة مناطق، وغالبا ما تكون في الصيف، بداية من شهر يونيو حتى شهر شتنبر، حيث تستمر لثلاث أيام بلياليها .

تقوم المجموعة بشراء بقرة، تذبح غالبا يوم الجمعة، ليعد منها طعام الفرقة وعائلاتهم وضيوفهم خلال مدة الموسم، وتختم يوم أحد ابتداء من الصباح حتى الزوال، بحفله رقص جماعي في مكان عام، يُتاح لكل الحاضرين الدخول إلى حلقية المجموعة والرقص على ايقاعاتها، وغالبا مايستمر العزف والرقص لساعات، حتى تبدأ أجساد الراقصين في السقوط، وتكثر الإغماءات خاصة بين النساء، دون أن يثير ذلك انتباه واهتمام العازفين الذين يستمرون في العزف، فقط أهالي الذين يُغمى عليهم من يتدخل لحملهم و إخراجهم خارج الساحة.

مايميز هذه الحفلات أنها تنظم بشكل منتظم لأهداف ترفيهية وعلاجية، حيث يتوافد الناس على هذه الحفلات للعلاج وطرد الجن والشياطين والأرواح الشريرة من الجسد كما يُشاع، بحيث يقوم إسمكان “لعبيد” بالعزف والغناء لتطهير النفوس مما تعاني منه، إذ ينخرط الزوار بشكل انجذابي في حلقة الرقص الذي يستمر بشكل عنيف وهستيري ولا ينتهي إلا بالإغماء على الشخص الراقص، حينها يحمله أهله وأصدقاؤه خارج حلقة الجذبة. وفي هذا التحقيق سنحاول كشف أسرار هذا الإغماء، هل هو شفاء وعلاج وطرد للجن من أجساد الراقصين كما يُروج لذلك شعبيا، أم أن الأمر غير ذلك؟ مستعينين بآراء خبراء ومختصين.
لماذا سميت بالمسوس؟
سميت هذه الحفلات بالمسوس لارتباطها بعمل تقوم به مجموعة إسمكان، أو أحد الأشخاص من عائلتهم، حيث يقوم هذا الشخص بالاستيقاظ قبل فجر اليوم الثالث، الذي غالبا ما يصادف ليلة السبت الأحد، فيطبخ عددا معينا من الدجاج في مرق بدون ملح، يستمر طهي الدجاج حتى صباح الأحد، وعند اقتراب بدء الحفلة يوضع الطعام المسوس في مكان قريب من الساحة العامة، حتى يتسنى لكل شخص يشك في إصابته بمس، أو يعاني من أزمة نفسية، أن يتناول منه شيئا. وبمجرد أن تنطلق الموسيقى الصاخبة ورقصات إسمكان، حتى يبدأ هذا الشخص في الرقص و”الجذبة”، ولا يتوقف حتى يُغمى عليه، وبالتالي يتخلص جسمه مما به من مس ومن أرواح شريرة كما يزعم منظمو الحفلات ومرتادوها.

وربما يبدو أن للأمر علاقة بتلك الأساطير التي تؤكد أن الجن يخاف الملح، وهو ما يتجلى في رش الملح في الأماكن المهجورة، أو عند الذبح ليلا كما كان أجدادنا يفعلون ويوصون أبناءهم بفعله خوفا أو طردا للجن. واستعمال طعام مسوس ربما يوحي في عمقه باستدراج للجن أو الشياطين حتى يتسنى للموسيقى أو “الحضرة” التخلص منه وطرده. كما يلاحظ أن الكثير من الأسر تصطحب بعض أفرادها وتذخله لحفلة الرقص في انتظار سقوطه مغمى عليه، وكأنهم يستقدمونه لحصة علاجية.

حفلات المسوس وعلاقتها بالليلة الكناوية
أول ما يثير الانتباه أن هذه الحفلات تتشابه في عمقها مع الليلة الكناوية، سواء من حيث العزف أو الطرق أو الغايات والأهداف. خاصة أن هناك من يعتقد أن هذه الطقوس (المسوس-الليلة الكناوية) تعد مناسبة لعلاج المصابين بالجن والمس مما فيهم، وتخلص أجسادهم من الجن والشياطين. فالمناسبتان معا تعطيان للمريض إحساسا بالاحتضان الجماعي والشعبي، وأن الموسيقى والإيقاع، وما يصاحبهما من طقوس، تساهم في تخليص الجسد من أعبائه، في حين يعتبر آخرون أن هذه الطقوس تساهم في طرد الأرواح الشريرة، وطرد الجن من خلال الاستغاثة بملوكهم والاستنجاد بهم من خلال المناداة عليهم، “وا ميمونه، وا ميرا، ولالا عايشة، وا سيدي حمو، وسيدي شمهاروش…”. وهو ما يسمى في الليلة الكناويه بالدردبة، والتي تعني نزول الجن من الجسم بعد استحضار ملوكهم والتضرع إليهم. وقد سألنا أحد الكناويين عن هذا الأمر فأجاب قائلا أنهم أي المجموعة يقومون ب”عفس الشخص وصرعه”، بمعنى يخلصونه مما في جسده من مس وجن.

وإذا كانت الليلة الكناوية تتم في بيت معين، وبحضور عدد محدد من المستهدفين المدعوين لهذه الغاية، وتعزف فيها أغاني محددة، كل أغنيه لملك من ملوك الجن السبعة، فإن حفلات المسوس بسوس تنظم في فضاء عمومي. يمكن لأي شخص حضورها، وهي حفلات لا تستهدف فئة أو شخص بعينه، إنها حفلات عامة ورقص شعبي بإيقاعات صارخة، تنتهي غالبا “بجذبات” لا يتوقف صاحبها إلا مغميا عليه.

وقد قال لنا “ر ف” أحد عناصر فرقة إسمكان وعازفيها أن رئيس الفرقة الكناوية هو من يتحكم في درجة وايقاع الرقصة أو “الجذبة” حسب الأشخاص الذين يرقصون ( بشكل هستيري) وطبيعة رقصهم ومدى عنفهم وانضباطهم ، فإذا أراد أن يزيد من تهييجهم زاد من قوة الإيقاع وسرعته، وإن أراد أن يهدئهم خفض من الإيقاع أو أوقفه. فطريقة عزف الموسيقى وحدتها هي ما يتحكم في تراقص الأجساد والإغماء عليها.

أما عن الفرق بين حفلة المسوس والليلة الكناوية فقد أوضح لنا (ع ف) أن الليلة الكناوية تعزف فيها موسيقى كناوية وتنتشر فيها طقوس خاصة تصل حد ارتداء نوع من اللباس سواء بالنسبة للعازفين أو للحضور، كما تطلق فيها “الأبخرة” سبعة بخور وسبعة ألوان، لكل ملك من ملوك الجن بخور ولون واسم ينادى به، وتُغنى فيها أغان على شكل نداءات واستغاثات بأسماء معينة يقال إنها أسماء ملوك الجن، كما أنها تنظم تحت الطلب ويحضرها أشخاص مدعوون لذلك، عكس حفلات المسوس التي تتخذ طابعا موسميا، من تنظيم مجموعات إسمكان نفسها، ولا تطلق فيها الأبخرة ولا يُنادى فيها على أسماء معينة، ولا تُلبس فيها ألوان محددة، باستثناء نداء ” وا العفو يا مولانا..”

وهي اللازمة الوحيدة التي يُغنونها باللغة العربية، كما أن حفلات المسوس حفلات عامة يحضرها كل من يرغب في ذلك.
أشخاص عاشوا هذه الطقوس
سألنا عدة أشخاص حضروا هذه الحفلات وعاشوا هذه الطقوس، ومنهم أشخاص أُغمي عليهم، فأكدوا لنا أنهم لم يكونوا يتوقعون أن تكون لهم الجرأة على الدخول إلى الحلقة، والانخراط في ذلك الرقص الجماعي، وأنهم انجدبوا دون إدراك، حتى وجدوا أنفسهم مغمى عليهم، يتلقون صفعات خفيفة أو رشات ماء باردة، وربما لهذا تسمى الحضرة بالجذبة أي من جذب الناس إليها.

أما أولئك الذين حضروا الحفلات رغبة في العلاج، فأكدوا بدورهم أنهم فعلا دخلوا حلقة الرقص، ورقصوا على إيقاع الطبل بعنف وبدون تحفظ، وأنهم فعلا أغمي عليهم، فأحسوا بعدها براحة نفسية، لم يشعروا بها من قبل، وتخلصت أجسادهم مما كانت تحس به من أعباء وضيق، لكن ذلك لم يستمر طويلا، إذ لم يستمر هذا الشعور إلا يوما أو بعض يوم، وهو ما يفسره بعض رواد المجموعة بأن الجن يغادر أجسادهم بفعل الرقص والجذبة، لكنه ما يلبث أن يعود إليهم حين يبتعدون عن الحلقة، الأمر الذي يرفضه شخص آخر من المجموعة ( رفض الكشف عن هويته) حيث أكد أن الأمر ليس مرتبطا بالجن أو المس كما يروج، بل إغماء نتيجة تفاعل مع ايقاع الطبل والعزف وتسارعه، مع ما في ذلك من إجهاد وإرهاق وتعب وتأثير على الجسم، مضيفا أن الإغماء ليس مرتبطا باسمكان أو كناوة فقط، بل بعدة أنواع أخرى من الموسيقى مثل والعيطة و”السواكن” الشعبية والغيوان، وكذلك الموسيقى الغربية مثل الريكي و الروك…

حفلات المسوس بين الأنتروبولوجيا والدين
يقول حسن اليوسفي في كتابه المسرح ومفارقاته “إن كل المجتمعات الإنسانية تخلق لنفسها طقوسا واحتفالات تجسد عبرها مجموعة من العادات والشعائر”، فإذا كان اليوسفي يريد أن يؤكد أن كل هذه الطقوس أشكال مسرحية، فما يهمنا من قوله أن المجتمعات تخلق لنفسها طقوسا واحتفالات تجسد عبرها مجموعة من العادات والشعائر، وهو ما ينطبق على حفلات المسوس، ذلك أنها تعد طقسا احتفاليا شعبيا، خلقه السوسيون ليجسدوا به عادات وطقوس خلال مناسبات.

لكن ومع مرور الوقت اختلطت بما هو ديني، ما أدى إلى إقحام تفسيرات غيبية لما يحدث أثناء هذه الحفلات، خاصة أن هناك من يعتبر أن هذا الرقص الجماعي استمرار للحضرة الصوفية، كنوع من الذكر الجماعي الذي يرافقه تمايل ورقص وأناشيد وأمداح وأذكار، والتي يرافق بعضها ضرب على الدف.

وقد طرحنا على الأستاذ محمد عبدالوهاب رفيقي “أبو حفص” سؤالا حول أصول هذه الطقوس الموسيقية “إسمكان” وعلاقتها بالجذبة، فأكد لنا أن “موسيقى كناوة ارتبطت في بدايتها باستقدام العبيد إلى المغرب من طرف السعديين، ومن هنا تعرف المغاربة عليها وعلى ما يربتط بها من طقوس، هي طقوس وثنية في الأصل، لكن انتشارها في بيئة إسلامية جعلها تتقاطع مع بعض الطقوس الأخرى، ومنها الطرق الصوفية التي تشبه على حد كبير الرقص الكناوي، ما أنتج هذه الحضرة التي تعد، حسب الصوفيين، نوعا من السمو الروحاني والانقطاع عن الأرض والتحليق بالروح”، بمعنى أن حفلات إسمكان هاته قد تقاطعت مع الطقوس الإسلامية فأنتجت ما نشاهذه اليوم من حذبات وحضرات وإغماءات، فالمشترك بين هذه الحضرات وبين حفلات المسوس أنهما معا طقسان للرقص الجماعي، ينتهيان بلحظات يُغمى فيها عن الشخص المنخرط في الجذبة الجماعية.

صحيح قد لا تكون حفلات المسوس تطورا لرقص وجذبة صوفية، لكنها فقط قد أخذت منها لحظة “الجذب وتحريك الرأس” والإغماء تلك التي يعتبرها أو زوار مواسم المسوس” علاجا، وهوما يرفضه الباحث الانتروبولوجي نورالدين الزاهي بقوله “المشاركون في الحضرة لا يصلون إلى الذروة، فما يحدث هو نتيجة عنف ينال الجسد من جراء الإثارة التي يحرص عليها”. وحول إدعاء الروايات الشعبية بأن هذه الحفلات تخليص للجسم من الجن والشياطين وعلاقة ذلك بالإسلام، قال محمد عبدالوهاب رفيقي: “هذه مجموعة من الأساطير والخرافات التي ليست لذيها أصول إسلامية، فالتخلص من الجن والأرواح الشريرة لم يكن معروفا في القرون الإسلامية الأولى، حيث لم يكن الاحتكاك قد حصل بعد مع الحضارات الأخرى، بمعنى أن ما نراه اليوم من طقوس ومعتقدات هو خليط من فلسفات منها ما هو إسلامي ومنها ما هو حادث عن الإسلام”.

علم النفس يوضح
لقد كان لزاما علينا أن نستحضر وجهة نظر علم النفس في الظاهرة، في محاولة للوقوف على ما يحس به رواد حفلات المسوس وخاصة أولئك الذين يجدون أنفسهم منجذبين للانخراط في حلقة الرقص، وهل فعلا تعد هذه الرقصات حصصا علاجية.

هذه الأسئلة وجهناها للدكتور أبوبكر حركات الأخصائي النفسي والجنسي والذي اشتغل على الموضوع طويلا، حيث أكد لنا أن أكد لنا أن هذه الظاهرة، ظاهرة الإغماء، بعد الاستماع إلى الموسيقى ذات الإيقاع العالي موجودة في جميع الثقافات، سواء كانت أوروبية أو أفريقية أو لاتينو أمريكية أو هندية، وأن الإغماء الذي يتعرض الشخص المنخرط في الرقص الجماعي ليس دليلا على ما تزعمه الثقافة الشعبية من طرد للجن أو للأرواح الشريرة أو ما إلى ذلك، بل هو ناتج عن الإيقاع المرتفع الذي يُصدر للدماغ موجات كهربائية يتفاعل معها قلب الراقص وجسمه وتنفسه، ما يؤدي مع ارتفاع الإيقاع والعزف إلى عدم السيطرة على الجسد وفقدان الوعي، وقد سألناه عن علاقة الظاهرة بما يقوم به الشيعة وبعض الناس من مشي على النار أو الأشواك أو أكل الزجاج والماء الحار وكل ما يدخل في خانه جلد الذات، فأكد لنا الدكتور حركات أنه لا علاقة بين الظاهرتين فظاهرة إسمكان والمسوس تحدث بفعل الموسيقى، بينما جلد الذات لا يحتاج إلى موسيقى، مضيفا أن حفلات المسوس هذه اقرب إلى ما يقوم به عيساوة، مؤكدا أن هناك تأثير جماعي على الفرد، فوقوف شخص ومشاهدته لرقص جماعي يؤثر عليه ويصبح مثل العدوى “انجذاب”، ما يدفعه للانخراط فيه. وحول سؤالنا حول إمكانية اعتبار حفلات المسوس نوعا من العلاج بالموسيقى أكد الأخصائي في العلاج النفسي والجنسي إنه يمكن اعتبار الأمر كذلك، خاصة إذا نظرنا إلى أن هذه الحفلات الجماعية تلتقي مع ما يسمى لدى الصوفيين بالخمرة الصوفية التي تؤدي إلى التنفيس والراحة والارتياح.

رأي الدكتور حركات يلتقي مع نظرية التطهير الأرسطي باعتبار هذه الحفلات نوعا من البسيكو دراما ” psychodrama” التي تمكّن الأشخاص من خلال طابعها الفرجوي من تفريغ طاقات نفسية، وشحنات سلبية مكتومة، لم يكن بمقدوره البوح بها والإفصاح عنها أمام الجميع. هذا الأمر وجدنا صداه يتردد انتروبولوجيا في التاريخ القديم، إذ تبث تاريخيا أن الموسيقى استخدمت كعلاج في المعابد المصرية، كما أن أرسطو يعتقد أن الموسيقى تؤثر على الروح وأنها قوة تطهر المشاعر، وهذا ما ينطبق على موسيقى حفلات المسوس، وعلى الذين يقصدونها للتخلص من مما لحق نفسه وجسمه من أزمات وضغوطات نفسية واجتماعية. يقول الكندي “إن كل وتر وتنغيمه وإيقاعه يؤثر على منطقة ما في جسم الإنسان” أو كما يقول الفارابي: ” ومن شأن الموسيقى أن تنسي الإنسان تعبه لأنها تلغي إحساسه بالزمن الذي ترتبط به الحركة والتعب”.

رقصات المسوس بجهة سوس ماسة

ختاما
نخلص في الأخير إلى أن ما يحدث في حفلات المسوس واستنادا إلى رأي علم النفس، كما أسلفنا، لا علاقة لها بالمس أو الأرواح الشريرة أو طرد للجن، وليست لها أي خلفيات غيبية أو دينية، وإنما هي طقوس شعبية، امتزجت بالكثير من الخرافة، وإن كانت في عمقها، وبما تتميز به من طابع جماعي فرجوي، تعمل على تخليص النفس من ضيق وأزمات وحالات اكتئاب فردية يعاني منها الشخص ويكتمها على الجميع، قبل أن يشجع على ظهورها ذلك الاحتضان الشعبي والجماعي للأفراد الراقصين، الذين ينخرطون في رقص جماعي، يسعى أولا للترويح عن النفس وتحدي ما يمارس عليها من ضغوطات نفسية واجتماعية، يفرض المجتمع على الأفراد إخفاءها وعدم البوح بها، بمعنى أن ذلك الرقص الجماعي يعد بمثابة بوح وتفريغ وتنفيس وترويح عن النفس، فالرقص هنا يعادل الكلام والصراخ والتحدي ومواجهة العقبات والحدود التي تمنع الفرد من الاحتجاج والتعبير عن الذات. وهو ما أكده كما أسلفنا الباحث الانثروبولوجي نورالدين الزاهي بقوله أن ما يحدث ليس وصولا للذروة، بل هو نتيجة عنف على الجسد جراء الإثارة التي يحرص عيها. والجميل في كل هذا أن حفلات المسوس هاته حفلات سلمية، لا تتسم بالعنف وبالمشاهد الدموية، ولا طابع ديني لها، فقط هي تراث لامادي يعبر عن التنوع والغنى الثقافيين بسوس والمغرب عموما، ما يقتضي دعمها والحفاظ عليها.
شكر خاص
للأستاذ عزيز كوكاس والدكتور أبوبكر حركات والأستاذ محمد عبدالوهاب رفيقي والباحث خالد البركاوي والصديق حسن أنفلوس والصديق محمد بوخنفر والأصدقاء في مجموعة إسمكان الدراركة وخاصة الأخوين عبدالكبير ورشيد فانا على سعة صدرهم وما قدموه لي من توجيه ودعم ومساعدة.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. الموافقة قرائة المزيد