تيفيناغ في ذكرى اعتمادها : مقاربة أنتروبولوجية
(أبجدية "تيفينّاغ" أو "الأبجدية الأمازيغية" كتراث رمزي شمال إفريقي عريق)
الحسين ايت باحسين
بمناسبة مرور 19 سنة على قرار صاحب الجلالة محمد السادس الاستجابة لرأي المعهد الملكي للثقافة الامازيغية باعتماد الابحدية تيفناغ لكتابة اللغة الامازيغية ننشر مقالا مهما للاستاذ الحسين ايت باحسين حول “تيفيناغ : مقاربة أنتروبولوجية” ومع بلاغ الديوان الملكي الدي صدر بتاريخ 10 فبراير 2003 :
البلاغ :
مقال الحسين أيت باحسين:
“تيفينّاغ” هي كتابة أمازيغية شمال–إفريقية. أثبتت أدلة قاطعة على وجودها في مختلف مناطق تامازغا (من سيوا إلى جزر كاناريا ومن البحر الأبيض المتوسط إلى نهر السنغال)، وعلى أنها كانت سائدة في كل هذه المناطق في التاريخ القديم ثم أهمل توظيفها تدريجيا كنظام للكتابة في شمال إفريقيا باستثناء المناطق التي يتواجد فيها الطوارق حيث استمر استعمالها إلى اليوم. إن الحفاظ على الألفبائية الأمازيغية (تيفيناغ) ذاتها قد تكفلت به المرأة الطوارقية التي تتولى تلقين مبادئ الكتابة للأبناء، ومن تم فهي التي تكفلت بالحفاظ على هذ الإرث الرمزي، الذي لا تمارسه، حين تعلم أبناءها الكتابة بتيفيناغ إلا على الرمال كمعين ديداكتيكي.
ولا تفتأ الأبحاث والدراسات الجديدة تقترح علينا تواريخ أكثر عراقة في القدم لكتابة تيفيناغ. فالكتابة الأكثر قدما لحد الآن والتي نقشت على “إنسان عزيب ن ئكيس” (L’Homme aux inscriptions de l’Azib n’Ikkis) بالأطلس الكبير جنوب مراكش المحدد تاريخها في حوالي القرن 6 قبل الميلاد، يبدو أنها تعود إلى فترة أكثر قدما: إلى الألفية الأولى قبل الميلاد حسب المؤرخة والباحثة الأنتروبولولوجية مليكة حاشيد. هذه الكتابة لا ينحصر وجودها في النقوش الصخرية فقط، بل وجدت أيضا على شواهد القبور وعلى الجلد وعلى العظام وقد تعددت وظائفها وتنوعت ما بين “بعث إرساليات” كوسيلة تواصل وتحديد الأمكنة والاتجاهات ووشم الإبل بها كعلامات تحيل على مالكي تلك الإبل وضبط المبادلات التجارية وغير ذلك مما يستجيب حاجيات مختلف الأزمنة والأمكنة والجماعات المستعملة لها.
وإذا ما تجاوزنا الدلائل التاريخية والأركيولوجية للوجود العريق لحروف تيفيناغ في مختلف المناطق التي سكنها الأمازيغ والتي اكتشف الكثير منها في مختلف المناطق – تلك الدلائل المتمثلة في ما تمت الإشارة إليه في بعض الكتابات الأدبية والتاريخية، وفي ما وجد في النقوش الصخرية وفي ما كتب على شواهد الأضرحة والقبور- فإن كثيرا من الصناعات التقليدية مثل الخزف والحلي والنسيج ومجمل الإنتاجات الفنية كالوشم والحناء والنقوش الجدارية والخشبية والجبسية والمعدنية وكذا ما اختزنته التعاليم الباطنية (Esotérisme) من رموز وخاصة منها الكتابات الطقوسية السحرية؛ تحتفظ لنا على مثن كبير من الزخارف والعلامات والرموز والرسوم وكذا الكتابات التي تضمنت واحتفظت – بما لا يدع الشك اليوم – على كثير من حروف تيفيناغ، بعد اختفاء وظيفتها الألفبائية لكتابة الأمازيغية في المناطق التي كانت تعتمد فيها. وتكاد القرائن تجمع على أن هذا الإهمال الذي أصاب المناطق الشمالية قد حدث في الفترة ما بين منتصف القرن السادس ومنتصف القرن الثامن بعد الميلاد، أثناء الصراع الروماني – الوندالي والبيزانطي من أجل احتلال شمال إفريقيا حيث كان استعمال الكتابة بتيفيناغ قائما قبل ذلك.
يبدو أن توظيف حروف تيفيناغ، أو على الأقل بعضا منها، انتقل من وضع نظام الكتابة إلى وضع الاستعمال في مجالات التعاليم الباطنية والإنتاجات الفنية حيث أهمل ذلك النظام وتواثرت هذه الاستعمالات أزيد من عشرين قرنا إلى أن ظهرت الحاجة من جديد إلى توظيفه في كتابة اللغة الأمازيغية بعد أن ظهر الوعي في العقود الأخيرة من القرن العشرين بضرورة إعادة الاعتبار للغة والثقافة والهوية الأمازيغية فأعيدت لها الوظيفة الألفبائية وكذا وظيفة الاستعمالات الفنية المتنوعة لحرف تيفيناغ.
فحين يتم تفحص الرموز التي وظفت في مجال التعاليم الباطنية، نقف على ما لا يقل عن عشرة حروف من حروف تيفيناغ، وهي نفسها الحروف التي اعتقد الليبيون (الأمازيغ) القدامى أنها منزلة من عند الله. إنها نفس الحروف العشرة التي بدأ ماسينيسا باستعمالها إلى حين إضافة حروف أخرى حين اقتضى الأمر ذلك. كما أنها نفسها الحروف التي تستعمل في مجالات الطلاسيم والتعويذات والتمائم والتي أسَرَّ فقيه لباحث سوسيولوجي ، في العقود الأخيرة من القرن العشرين، بأنها حروف تيفيناغ التي دأبت التعاليم الباطنية على استعمالها مند أزمنة غابرة. وهي نفس الحروف التي اعتبرت “حروفا سحرية” (مقدسة) وقامت كثير من المحاولات على إيجاد قيمها الصواتية ودلالاتها الرمزية ووظيفتها السحرية. ولا يعني الاقتصار على ذكر هذه الحروف العشرة أنها هي وحدها التي تشكل الألفبائية الأمازيغية، فقد ذكر “فولجونتيوس” أن الكتابة الأمازيغية تتكون من 23 حرفا بعد أن تمت الإشارات إلى أنها تتكون من 24 حرفا، لكن أحد تلك الحروف كان مشكوكا فيه؛ الشيء الذي، ربما، دفع ب “فولجونتيوس” يقول بأنها تتكون من 23 حرفا.
وفي مجال الفنون، تجدر الإشارة إلى أن كثيرا من الدراسات حول الوشم، بمختلف أنواعه، تركت لنا مثنا كبيرا نتعرف اليوم من خلاله على مجموعة من حروف تيفيناغ التي أصبحت تقوم ضمن فن الوشم بأدوار أخرى، خاصة منها المرتبطة بالقيم الجمالية. كما تجدر الإشارة أيضا إلى أن الزخرفة المعمارية والنقوش الجدارية (ئكَودار / تيكًودار، ئغرمان / تيغرمين، قصبات / قصور) والجبسية (الجدران والأسقف) والخشبية (الأبواب والأسقف) والمعدنية (مختلف أنواع الحلي) والخزفية (خاصة منه الخزف المصنوع من قبل النساء) والنسيجية (مختلف أنواع المنسوجات وخاصة الزرابي) احتفظت لنا بدورها على كثير من حروف تيفيناغ التي وإن اعتمدت كزخارف وعلامات ورموز ذات دلالات جمالية أوسيكولوجية أو ثقافية فإن قيمتها الألفبائية سيتظهر من جديد.
إذا كانت الأبحاث والدراسات التاريخية والأركيولوجية واللسنية قد أعادت للألفبائية الأمازيغية (تيفيناغ) رد الاعتبار في القرن العشرين، فإن ما يستدعي التساؤل هو سكوت المؤرخين القدامى من مصريين فراعنة وفينيقيين ويونان وكذا الرومان والوندال عن الألفبائية الأمازيغية، إذا ما ستثنينا “فولجونتيوس” (Fulgentius) الذي أكد في القرن الخامس الميلادي أن الألفبائية الأمازيغية تتكون من 23 حرفا؛ وربما لا عجب في ذلك لكونه إفريقي (أمازيغي). بالرغم من ذلك السكوت أتى مؤرخون من بعدهم، وبعد قرون من إهمال تيفيناغ كنظام للكتابة، ومن بينهم، في القرن 10 الميلادي، ابن الرقيق و في القرن 16، الحسن الوزان المعروف بليون الإفريقي ومارمول كارباخال ليؤكدوا على أن الأمازيغ كانت لهم ألفبائية خاصة بهم لكتابة الأمازيغية. وقبل ذلك، في القرن 11 الميلادي، أشار أبو بكر بن علي الصنهاجي المكنى بالبيدق، إلى أن ملول بن إبراهيم بن يحيى الصنهاجي، كاتب المهدي بن تومرت “كان فصيحا بديها بالألسن يكتب بالسريانية والرموزيات وغير ذلك”. فما عسى تكون تلك الرموزيات؟
في هذا الإطار تجدر الإشارة إلى أن “كتاب الأعمال السلطانية في الأموال والجيوش؛ لأنهم مطلوبون بكثمان (…) الأسرار السلطانية التي يجب إخفاؤها” كانوا حسب ابن خلدون “يبالغون في رسم اصطلاح خاص بهم يصير بمثابة المُعمَّى” وقد يضعون كتابا لفك تلك الشفرة (فكُّ المُعمَّى) ويضيف ابن خلدون قائلا: “وللناس في ذلك دواوين مشهورة”. كما تجدر الأشارة أيضا إلى وجود وثيقة تتضمن تفسيرا للشفرة السعدية التي تحدثت عنها وثائق كثيرة وخاصة منها ما كتبه كل من أبي فارس عبد العزيزالفشتالي وعبد الكريم كريم. تلك الشفرة التي كان السلطان أحمد المنصور الذهبي السعدي يستعملها في مراسلاته مع أبنائه وعماله وقادة جيشه على مختلف مناطق البلاد حتى لا يستطيع غيرهم من الوسطاء أو ممن يمكن أن تقع بأيديهم معرفة مضامينها. فقد اتسع مجال استعمال حروف تلك الشفرة بشكل كبير خلال عهد السلطان أحمد المنصور والذي أصبح يراسل أبناءه وعماله وقادة جيشه بهذه الشفرة. وقد تبين أن تلك الشفرة، التي تتكون من 28 حرفا، لا تتضمن إلا 3 حروف عربية محرفة شيئا ما، لكي تنطلي دلالتها على الغير. وبالنسبة لمن يعرف الألفبائية الأمازيغية فإن أغلب تلك الحروف هي حروف تيفيناغ. كما يوجد ضمن “وثائق درعة” مخطوط يتضمن لائحة بمقابلات حروف ألفبائيات كل من العربية والأمازيغية (تيفيناغ) والعبرية .
من خلال هذه اللمحة القصيرة حول ما يطلق عليه “مرحلة اختفاء الألفبائية الأمازيغية”، نلاحظ أن حروف تيفيناغ لم تختف وإنما أهملت وتوقف استعمالها الرسمي والمؤسساتي نتيجة الاحتلالات المختلفة والمتعاقبة على شمال إفريقيا والتي لم تسنح للأمازيغية بأن تعرف نفس الفرصة التي أتيحت لها في عهد ماسينيسا لكي تكتب بحروفها. وهذا التوقف الرسمي لا يعني الاختفاء النهائي لتيفيناغ، إذ لاحظنا كيف أنها، منذ ذلك التوقف إلى عودة في العقود الأخيرة من القرن العشرين والعمل على جعلها من جديد نظاما لكتابة الأمازيغية، وظفت بدون انقطاع طيلة تلك القرون في مجالات مختلفة ومتنوعة.
عودة تيفيناغ إلى وظيفتها كنظام للكتابة سيتأسس شيئا فشيئا بعد ما ظهر الوعي بإعادة الاعتبار للأمازيغية لغة وثقافة وهوية وبعد تراكم الاكتشافات المتعلقة بالنقوش الصخرية ومع مقارنة أنظمتها ومحاولة دراستها دراسة تاريخية ولسنية وأنتروبولوجية وغيرها من أوجه المقاربات الممكنة. إن المزيد من البحث العلمي هو وحده الذي سيساهم في فك كثير من ألغاز هذا الإرث الثقافي الذي لا يوجد إلا في تامازغا (منطقة شمال إفريقيا حيث تُتَداول الأمازيغية)، كما أن اعتماده في المنظومة التربوية وتوظيفه في المجالات الفنية والإبداعية وفي ضبط الأماكينية هو الذي سيساهم في النهوض به وإعادة تثمينه كتراث رمزي لا مثيل له في أية منطقة أخرى من مناطق العالم. ومن شأن رد الاعتبار إليه والحفاظ عليه إغناء الثقافة الوطنية والجهوية وكذا الإنسانية عامة لكونه تراث فريد وعريق وغني من حيث دلالاته الرمزية بمختلف أبعادها اللغوية والثقافية والهوياتية بل والحضارية؛ عوض التعامل معه كخربشة أقوام بدائية في أزمنة بائدة أو خربشة رعاة على صخور عارية أو خربشة فقهاء لا يفقهون لا الماضي ولا المستقبل أو نقوش صخرية الأزمنة الحديثة.
لائحة بأهم المراجع المعتمدة:
- الصويعي، عبد العزيز سعيد (1999) أصول الحرف الليبي، تطور فن الكتابة عند قدماء الليبيين (سكان شمال إفريقيا)، الدار الجماهيرية للنشر والتوزيع والإعلان، دار الكتب الوطنية، بنغازي، ليبيا.
- AKHMISSE, Mustapha (1985) Médecine, Magie et Sorcellerie au Maroc, 1985, Casablanca, Imprimerie Eddar El Beida.
- CAMPS, Gabriel (1978) « Recherches sur les plus anciennes inscriptions libyques de l’Afrique du Nord et du Sahara », in Bull. du Comité des travaux historiques, n.s. 10-11, 1975-5 (1978), p. 143-166.
- CHAKER, Salem et HACHI, Slimane (2000) « A propos de l’origine et de l’âge de l’écriture libyco-berbère », Etudes berbères et chamito-sémitiques, Mélanges offertes à Karl-G. PRASSE, Paris / Louvain, Edit. Poeters, p. 95 – 111.
- COLIN, Georges Séraphin ( 1927) « Note sut le système cryptographique du sultan Ahmad al-Mansur », in Hespéris, T.VII, 2ème Trim., p.221-228).
- GALAND, Lionel (1966) « Inscriptions libyques », in Inscriptions Antiques du Maroc (IAM), I, p. 1-79.
- HACHID, Malika (2007) « Le contexte archéologique et historique de l’apparition de l’alphabet libyque. Retour sur la date de l’inscription rupestre d’Azib n’Ikkis (Haut Atlas) et sa troublante convergence avec celles du Sahara central », in Actes du colloque international sur : Le libyco-Berbère ou le Tifnagh : de l’authenticité à l’usage pratique, Alger, HCA, p.11-124.
- MALHOMME, Jean (1960) « L’homme aux inscriptions des Azibs n’Ikkis :Yagour », in Bull. d’arch. Marocaine, IV, p. 411-417.
- MARCY, Georges (1937) « Introduction à un déchiffrement méthodologique des inscriptions ‘’tifinagh’’ du Sahara central », in Héspéris, T.XXIV, 1er – 2ème Trim., p.89-118.
اكتشاف المزيد من azulpress.ma
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
التعليقات مغلقة.