تحرير سعيد الهياق//
الناقدة سهيلة بن الحسين في قراءة نقدية للقصة القصيرة ” نيروز سيراكوزا” للكاتبة زينب بوخريص؛ الفائزة بالمرتبة الثانية في المسابقة التي نظمها الموقع الإلكتروني: زمرة الأدب العربي.
قصة رائعة استوفت كلّ شروط القصّة القصيرة، أسسا و قواعد، جاءت في أسلوب شيّق، ممتع، بليغ اللّغة، فصيح المعنى مخمليّ النّسيج، جذّاب سحريّ التّطريز، تأخذك القصّة على جناح الطّير في رحلة أدبيّة شيّقة إلى عالم الدّهشة والتّخييل، بفعل تدفّق الرّوح و شدّة الإحساس في كلّ مشهد من المشاهد لحسن التّأثيث، و براع الإخرج، و روح التّجديد في حداثة الموضوع، و إيقاع تكثيف كلّ من الموضوع و الحدث و المكان، و الزّمان إلى جانب استعمال تقنية التّبطيء عند سبر أغوار النّفس و الإعتناء بالوصف و القفز لتجنّب الإطالة و الحشو، و الاسترجاع لتوضيح أصل الخلاف بين العائلتين الذي يرجع إلى اختلاف العقيدة، كذلك السّرد، كان منسجما متّسقا جسدا و روحا، مضمرا و معلنا، محكم البناء، مع المحافظة على وحدة النصّ و الحدث الرّئيسي المطعّم بالفرعي، الذي جمّله و حلّى قصّه المرير، و رفعه التّخييل و زوّقه رونق الحبكة و التّشويق. عدسة السّارد النّشيط زادت الموضوع دلالا لجودة الصّور المنتقاة، و لسلاسة اللغة المطوّعة لاقتناص اللّقطة، و لبهاء التّوظيف و سرعة البداهة. فمن براع التّحكّم في استعمال عدسة كامراته و التّركيز على زاوية بعينها دون غيرها، قد تصاب بالالتباس بين الواقع و الخيال، فتحسب المعروض حقيقة، لا تفتئء حتى تصدّقه لفرط إنسانيّته، فتنسجم مع الحدث، و تودّ أن تنزل الميدان لتساعد. فدقّة التّفصيل، و التّدقيق لم تربك، إيقاع تواتر العرض، و لا وحدة النّص و تناغمه، فمن فرط انسجامك لا يمكنك الفصل بين الجسد و الرّوح، رغم رائحة الموت الكريهة المنتشرة و المنبعثة من النّص. بفضل تغنّج اللّفظ و سلاسته و فيض المعنى، و قوّة الفكرة، و حرفيّة التّخطيط المسبق الواضح الذي لمسناه، من خلال الامتلاء بالفكرة وحسن اختيار الموضوع وجنس النّص المختار للحمل، و منهجيّة العرض، و التّقسيم و التّقطيع، و التّدرّج بالتّقديم للحدث برصانة. لذلك استطاع(ت) الكاتب(ة) أن يستولي، على حواس المتلقّي و لبّه، و مداركه بمشاغبته من حين لآخر بالتّفضية، و اهتمامه بببيئة القصّ كاختيار المكان، و الإبهار بالإمتلاء و بحسن اختيار الشّخصيّات و دراستها و اتقان الآداء و براع تقمّص الأدوار التي يقف وراءها قاصّ أو قاصّة متمكّن (ة) من أدواته(ا) ، بحيث ساهم(ت) بشكل قويّ في دفع الحدث المحوريّ، و نموّه حتى لحظة التّنوير و الدّهشة.. ممّا مكّن من إبراز رؤية الكاتب( ة) الإنسانيّة التي دعّمها بالفعل لنجدة المرضى، من دون خوف من العدوى و كذلك الأهالي التي تظهر من خلال: “كانت فيرنزا كخليّة نحل نشيطة و كان النّاس يتسابقون في تقديم المساعدات لغيرهم .و منضبطين للتّعليمات الطّبّيّة الصّارمة.
و كذلك المونولوج و الحوار التي لخّصها في قوله “ففي هذه الفترة العصيبة أدركا أن الخلافات العقائدية بين العائلتين تافهة “و كذالك في قول باولو:”ما من شيء أهمّ من الحياة ذاتها ومن الإنسان نفسه ما عدا ذلك كلّه تفاصيل غير مهمّة …للأسف أدركت ذلك متأخرا جدّا ”
و في نفس السّياق، نراه(ا) اعتمد(ت) التّضمين لربطه بالزّمن مستنجدا بالمثل الفرنسي القائل ” أن تأتي متأخرا خير من أن لا تأتي أبدا ”
انبنى النّص على مفارقات.
المفارقة :
*بين “حفل زواج” و”مراسم دفن بالأكداس”
* كما تبدو القسوة و البشاعة في المفارقة
بين نجدة المرضى من ناحية، و حرق الموتى من ناحية أخرى :
“بينما كانت سيراكوزا تحرق جثث الموتى أو تلقي بها في حفر بعيدة غائرة كما تلقي جثث كلاب جرباء ”
كما تبدو المفارقة
في تغيّر موقف باولو .
في التّباعد و التّقارب في المواقف
و في تغيّر الأحوال من حال إلى حال.
كذالك يظهر في وصف المدينة قبل و أثناء الجائحة
“مدينة الأحياء” / “مدينة برائحة الموت …. ”
تقودك الفكرة و الموضوع، إلى كلّ النّصوص التي كتبت في زمن الكورونا، التي صادفتك و التي ما زالت فكرة تختمر لدى أصحابها من دون شكّ، في هذا الزّمن المتفرّد، زمن أربكته جائحة “الكوفيد 19″ يؤرخ لتاريخ جديد للبشريّة يصف بشاعة و فضاعة هاته الجائحة فكلّ من منظوره يكتب و يصف ، هذا الدّاء الذي أصاب العالم و اكتسحه و أوقعه في حالة من الذّعر و الفزع و الهلع الذي جعل العالم يتأمّل ضآلة خبراته و قدراته و زعاماته و بطولاته و ضخامته ليكتشف قلّة حيلته رغم حِيَله أمام مخلوق فيروسي، مجهري غير مرحّب به، ثقيل الوزن و الظلّ رغم أنّه لا ظلّ له اتخذ من الأسطح مقرّا ، فما كان من العالم إلّا أن تدارك وحسم أمره قبل أن يفوته الأوان، فوحّدت الدّول لأوّل مرّة في تاريخ البشريّة موقفها على تطبيق قرار الحجر، للمحافظة على العنصر البشري خوفا من الانقراض مع اتخاذ جملة من الإجراءات والتّدابير ..و في انتظار كتابة لتأريخ هذه الجائحة من طرف المنتصرين كما يريدون ويشتهون انكبّ الأدباء على تجميل الواقع بطرح الرؤى و الأسئلة من أجل واقع أجمل لمستقبل أفضل…
نأمل أن تكون خطوة و مشروعا للتّواضع والتّحابب في المستقبل والابتعاد عن العنجهيّة و النّوازع السّلبية التي فرّقت البشريّة بدافع الأنانيّة و النّرجسية …
يذكّرنا براع التّأثيث ب”الطّاعون” ل”ألبار كامو” الذي أصاب الجزائر …
وكذلك لوباء السيمولانسك ” الذي كتب عنه الأديب الدكتور أحمد خالد توفيق في روايته “العرّاف” و الذي اكتشفه “ميخائيل سيلانوف” حسب الرّواية في زمن المستقبل لسنة 2015 ..في فصلها الأخير قبل أن يموت “خالد” في الماضي
في رواية لواقع “عجائبي فانتازي استشرافي”، ينبئ و ينذر و يحذر من “وباء جائحة” لم تعرف البشريّة لها شبيه سيغيّر العالم و كأنّ الرّوائي يهيئ عقولنا الباطنية للوعي بواقع مستحدث ومستجدّ في المستقبل بما مدّ به عقولنا الظاهرة بواقع تخييلي أوهمنا بأنه حقيقة و قد بدا واقعنا أكثر غرابة فكأنّ الكاتب يعيش معنا في هذا الزّمن زمن الكورونا … بالرّغم من أنّه كان قد غادرنا منذ أبريل 2018. للتذكير فإن الأديب المذكور معروف بكتاباته الماوراء الطبيعة.
العنوان : ذو إيقاع منسجم مع بيئة النّص و روحه الإيطالية اتساقا وانسجاما مع الحدث و الحداثة والتّجديد في الموضوع من دون تلاعب في عناصر القصّة التي قد تمسخ الجنس و تطمسه و تفقده بريقه رونقه و خصوصيّته الفريدة ..الذي أثبته القاصّ في النّص و مقدرته الإتصاليّة وإيصال الأنّاة و الآهاة للأصوات و تقريب المواقف بعد التّباين ..و حنكة حركة الانتقال و حرفيّة نظم الدّوائر السّرديّة الضّوئيّة الومضيّة الإيحائيّة المحفّزة الدّاعمة …مع مراعاة الهضم للمتلقّي ..
القصّة
▪︎نيروز سيراكوزا
على طوال شارع “ميرابالا” المؤدّي إلى كاتدرائيّة “سانتا ماريا” في قلب مدينة “سيراكوزا” الساحرة، الرابضة على رأس جزيرة “أورتيجيا” الفاتنة، سارت جحافل المدعوّين تظلّلها أشجار السرو المتطاولة تعانق سماء فيروزيّة صافية، لحضور حفل زفاف “فاليريا” و “ادواردو” وسط تصفيق حار من عائلتي “آل أورتيسي” و “دي سيموني” المتصاهرتين في احتفاليّة مبهجة… ناثرين الأرز والحلوى والسكر على العروسين وورود الأوركيد والبيلسان على المدعوين… صوّبت عينيّ في كلّ الاتّجاهات، ظلّت حدقتاي تفتشان عنها طويلا… جابتا صفوف الفتيات باحثتين… لم تستقرّا إلاّ حينما عثرتا على ضالتيْهما: “إيماكولاتا” رفيقة الصبا وحب المراهقة.
كنّا نمضي الساعاتِ الطوال نجوب معا شوارع المدينة الآهلة بالسكان ونذرع الحواري الضيقة في البلدة القديمة حيث كانت تسكن.
بدت رائعة وهي ترفل في ثوبها المخمليّ بإطلالة ناعمة وتسريحة شعر تناسب وجهها الطفوليّ.
كانت في السابق تميل إلى إرسال شعرها الذهبيّ على كتفيها الرقيقين ممّا يضفي عليها مسحة من البراءة. بينما بدت اليوم أكثر نضجا بمظهرها الرسمي ذاك.
تحيّنت فرصة انشغال المدعووين بمراسم الحفل ومباركة أبينا بطرس للعروسين واقتربت منها هامسا:
تزدادين جمالا كلّ يوم عزيزتي “إيمي”
كنت الوحيد الذي أناديها بذلك الاسم وكانت تحبّه كثيرا.
ردّت بنبرة تقطر تقريعا في شبه همس:
-هذا أنت “جيوفاني” خفت أن لا تتمكّن من حضور زواج صديقيْ طفولتنا “فاليريا” و “إدواردو” الرائعين فقد تأخّرت كثيرا حتّى تسلّل اليأس إليّ، أما كنت قادرا على المجيء مبكّرا؟
أجبتها ممازحا:
-ما أجملك حين تغضبين، أعذريني عزيزتي لم أستطع الوصول باكرا بسبب أزمة السير الخانقة. لكن هل سنمضي الوقت في العتاب واللّوم.
وبينما كان العريس يضع خاتم الألماس في يد عروسته كما جرت العادة في جنوب ايطاليا، فالألماس – في نظرهم- بريق صنع من لهيب الحبّ وتوهّج المشاعر… تبادلت أنا وايمي نظرة خاطفة بعدها وجدنا أنفسنا خارج أسوار الكنيسة نلوي من عيون الرقباء كما كنّا نفعل في الماضي.
ما إن خرجنا حتّى ارتمينا في أحضان بعضنا لعلّنا نطفئ لهيب أشواق لطالما تلّظينا بها.
قلت لها وأنا أطبع قبلة على رقبتها كما كنت أفعل دائما:
-اشتقت إليك عزيزتي، جئت إلى هنا من أجلك فقط، لا من أجل أحد.
أجابت بغنج:
-أيّها المحتال، تجيد امتصاص غضبي في لمح البصر، كنت أنوي أن أخاصمك إلى الأبد…
ضحكنا سويّا لأنّني حفظت تلك الجملة عن ظهر قلب…
كنّا نجيد لعبة التخفّي عن أنظار أسرتينا وقد كانتا صديقتين حميمتين أو حتّى بعد أن غدتا عدوّتين لدودتين…
فوالدها رفض أن نرتبط رسميّا مبرّرا ذلك باختلاف أسرتينا عقائديّا: فوالدي في نظره لا يقدّس الشعائر الدينيّة الكاثوليكيّة الأصيلة ولا يحضر القدّاس أيّام الآحاد.
في حين كان منكبّا على بحوثه واكتشافاته العلميّة في المجال البيولوجي، بينما كان والدها محافظا إلى أبعد الحدود…
انجرّ عن ذلك قطيعة تامّة بين أسرتينا وقد تعمّقت أواصرها، بعد التحاقي بكليّة الطب بمدينة “فيرنزا” في شمال ايطاليا واستقرار أسرتي فيها بشكل نهائي…
مضت الأعوام عصيبة عليّ، حيث لم يمرّ يوم واحد دون أن يزورني طيفها، رغم انشغالي بالدراسة أو حتّى بعد تخرّجي وتعييني طبيبا بإحدى المستشفيات الحكوميّة في مدينة “فيرينزا”…
ظننت أنّها لابدّ أن تكون قد تزوجت وطمرت قصّتنا في ركن قصيّ من الذاكرة…
غير أنّ تفشّي وباء كوفيد التاسع عشر الخطير في جنوب ايطاليا جعلني متلهّفا على معرفة أخبار مدينتي الحبيبة، كانت تصلني أنباء ينفطر لها قلبي عن المدينة الموبوءة وعن استهتار الناس بالوباء والاكتفاء بالتضرّع ليسوع ليكفّ عنهم البلاء القاتل.
رائحة الموت الأسود انبعثت من ثنايا المنازل وفاحت في ردهات مدينة الأشباح. كانت المدينة تستسلم شيئا فشيئا لقدر لعين وبات الناس عاجزين عن التصدّي لموت وشيك يتسلّل من تحت الأبواب أو من فوق الأسطح…
جاءني صوتها عبر الهاتف ذات ليلة كأنّه من قاع بئر سحيقة:
– جيوفاني سنهلك كلّنا، سيموت سكّان المدينة تباعا، إمّا بهذا الفيروس المعتوه، أو من فرط جوعنا، فقد كادت المؤن تنتهي من جميع المنازل، وأغلب المتاجر أقفلت أبوابها بعد معارك دامية بين الناس من أجل بعض الخبز المحمّص والأرز، أو حتّى حفنة من السكر…
الوضع في المدينة كارثي “جيوفاني” فوالداي لم يعودا يقويان على التحمّل جرّاء أمراضهما المزمنة ونقص مناعتهما أو بسبب خوفهما الشديد…
أجبتها مهدّئا من روعها
-لا تخافي سنتوصّل قريبا لدواء مناسب، لن يعجز العلم عن إيجاد الحلول، كوني قويّة كما عهدتك دائما عزيزتي. اعتن بنفسك أرجوك، فحبيبتي إيمي لا يمكن أن يهزمها مجرّد فيروس لعين لا يرى بالعين المجردة…
كنت في الطريق بشاحنة مليئة بالأدوية والمواد الغذائيّة، وقبل أن أصل إلى حاضنة طفولتي مدينة “سيراكوزا” الحبيبة بعشر دقائق فقط، استوقفتني الشرطة في الطريق، توجّه إليّ الشرطيّ قائلا:
-توقّف قليلا حتّى تمرّ قافلة عسكريّة مليئة بالجثث.
وحين أذن لي بالمغادرة، رافعا يده بتحيّة عسكريّة، لاحظ أنّني لم أتحرّك من مكاني فأردف قائلا:
-يمكنك الذهاب الآن، فالمرضى ينتظرون الدواء. لا يجب أن نتوقّف. يجب أن نكون أقوياء رغم الألم…
لم أتمالك نفسي وبكيت كثيرا… كانت الشوارع مقفرة، بدت المنازل شبيهة بمقابر جماعيّة.
صرخات ألم دوّت داخلي:
أين مدينتي المحتفية بالحياة؟ أصبحت شاحبة، كئيبة يطغى عليها السواد وتطفح منها رائحة الموت العطنة… وغدا السكان أشباحا…
ما إن دلفت منزل “إيمي” حتّى اصطحبتني إلى غرفة والديها المريضين، استقبلاني بترحاب شديد رغم ما بدا عنهما من مظاهر المرض والإعياء. ففي هذه الفترة العصيبة أدركا أنّ كلّ الخلافات بيننا تافهة… قال والدها بنبرة تنضح ندما:
ما من شيء أهمّ من الحياة ذاتها، ومن الإنسان نفسه ما عدا ذلك كلّه تفاصيل غير مهمّة… للأسف أدركت ذلك متأخّرا جدّا لكن المثل الفرنسي يقول: “أن تأتي متأخّرا خير من أن لا تأتي أبدا”.
أجبته مقاطعا:
-لا ترهق نفسك، سينيور باولو أنا هنا للاطمئنان عليكم، ما مضى قد ولّى وأصبح من الماضي…
كانت أيّاما عصيبة ، إذ رغم محاولاتي العديدة لإنقاذ حياتهما فقد لفظا أمامي أنفاسهما الأخيرة…
لم أستطع أن أمكث طويلا في سيراكوزا بسبب التزاماتي المهنيّة.. لكنّ أوصالي كانت تتمزّق ألما وأنا أترك إيمي في تلك الظروف بسبب عنادها وتمسّكها بالبقاء في منزلها وحرصها على مساعدة الآخرين… طيلة الفترة السابقة كان السكان في مدينة فيرنزا يستعدّون لمجاهبة عدوّ شرس، وفرّوا المعدّات الطبيّة وتعاونوا لنجدة الأسر الفقيرة بمدّهم بالمستلزمات الغذائيّة…
كانت “فيرنزا” كخليّة نحل نشيطة وكان النّاس يتسابقون في تقديم المساعدات لغيرهم. ومنضبطين للتعليمات الطبيّة الصارمة.
بينما كانت سيراكوزا تحرق جثث الموتى أو تُلْقي بها في حفر بعيدة غائرة كما تُلقى جثثُ كلابٍ جرباءَ…
كنت مرعوبا على مصير إيمي بعد الحظر الصحّي الذي عاشته المدينة والعزل التامّ عن بقيّة المدن، كدت أجنّ وقد انقطعت عنّي أخبارها تماما… ولم أجد سبيلا للتواصل معها والاطمئنان عليها…
كانت تصلني أنباء كلّ يوم عن أعداد مهولة لضحايا الفيروس اللعين. غدت الأرقام مرعبة… بتّ متأكّدا أنّني لن أرى إيمي مجدّدا.
لم أستطع أن أصبر أكثر، رغم محاولات والديّ لثني عن عزمي، فقد قصدت المدينة الثكلى، مصحوبا بفريق طبّي…
كاد قلبي ينفطر و”إيمي” تحتضر أمامي وأنا أقف عاجزا لا أقوى على إنقاذها…
لم أجد سوى الانكباب ليلا نهارا في مخبر والدي وقد استعنت بخبراته الطويلة في مجال البحوث العلميّة البيولوجيّة والجرثوميّة لعلّني أجد دواء مناسبا لها.
كانت سعادتي لا توصف وأنا أراها تفتح عينيها شيئا فشيئا وتتماثل للشفاء تدريجيّا بفضل مناعتها القويّة وتمسّكها بالحياة من أجلي…
تأمّلت عينيها الصافيتين الهادئتين، هدوء الطبيعة بعد صخب.
فكّرت في أنّ كلّ ذلك أصبح ماضيا ثقيلا أمّا الآن فأنا لا أفكّر إلاّ في الحياة وفي شفتيها الورديتين. وتُهنا في قبلة طويلة… لم يقطعها سوى هتافات الحاضرين و “فاليريا” تلقي بباقة الورود التي التقطتها إيمي بكلّ براعة.
التعليقات مغلقة.