تموت لغة الأمازيغ لتعيش الحركة الأمازيغية

في دوائر النقاش بين نشطاء الحركة الأمازيغية، لا يمسك المتناقشون عن الجهر باحتمال اندثار اللغة الأمازيغية قبل متم هذا القرن؛ وهم بذلك إنما يؤكدون ما جاء في أطلس لغات العالم المهددة بالاندثار. فهذا البرنامج الرقمي التفاعلي الذي أعده خيرة اللسانيين في العالم تحت إشراف منظمة اليونيسكو، يقدم بيانات عن نحو 2500 لغة مهددة من أصل قرابة 6000 لغة متحدث بها عبر العالم؛ ويمكن لأي كان الوقوف، من خلال البحث في الأطلس، على مجموع اللغات التي اندثرت في الخمسين سنة الأخيرة، والإطلاع على مستوى خطر الاندثار الذي يهدد لغات أخرى من بينها الأمازيغية. ورغم ذلك قد يستفز العنوان أعلاه الكثير من نشطاء الحركة الأمازيغية، وقد يعتبره بعض الجذريين من مناضليها خطابا تشاؤميا لا يليق باللحظة السياسية التي يمر منها الملف الأمازيغي؛ لحظة الجدل حول مشاريع القوانين التنظيمية المنصوص عليها في المادة الخامسة من الوثيقة الدستورية.
إن صياغة العنوان على هذا النحو، أردنا به لفت الإنتباه إلى أمرين بدلالات عميقة؛ أولهما: جدلية الموت والحياة في العلاقة بين اللغة الأمازيغية والحركة المناضلة من أجلها؛ ثانيهما: فوبيا الخوف من موت الأمازيغية كتبرير وجودي للحركة الأمازيغية في نسختها الحالية. فاندثار الأمازيغية لا يعني بالضرورة نهاية الحركة الأمازيغية، كما أن النشاط المستمر للحركة ليس ترياقا يحول دون اندثار اللغة.
وقبل التطرق لبعض عناصر الفهم التي من شأنها توضيح العلاقة المشار إليها أعلاه، لا بد من التذكير بأن الجيل المؤسس للحركة نهاية ستينيات القرن الماضي، وظف الخوف من موت اللغة ليؤسس العقيدة النضالية للحركة بشكل عقلاني وفي صلبها قضايا اللغة وربط الخطاب بالممارسة؛ لذلك كان السلوك اللغوي والممارسة الميدانية الملتزمين بمبدأ اللغة الأمازيغية أولا ثم اللغة الأمازيغية ثانيا، هما مفتاحا الإنتماء إلى الحركة الأمازيغية في نسختها القديمة. أما في النسخة الجديدة من الحركة، فنحن أمام عقيدة نضالية متحولة métamorphosée- – أصبحت معها قضايا اللغة والثقافة ثانوية جدا؛ وحلت محلها في سلم ترتيب الأولويات كل من ، قضايا الهوية والحريات الفردية والجماعية، ورهانات تموقع وولوج النخبة الأمازيغية مصعد الترقي الإجتماعي، إضافة إلى شعارات التقسيم العادل للثروة والسلطة. لذلك لم يعد الخوف الإيجابي والمنتج لسبل الحماية من المخاطر هو المحرك، بل فوبيا الخوف هي المتحكمة باعتبارها حالة نفسية تشل المنطق وتسيطر على العقل.
الخطيئة الأصلية. 
حينما نتأمل واقع حال الأمازيغية والأمازيغ ونستقرء التاريخ، بعيده وقريبه، لنعرف ما جرى كي نفهم ما يجري، ندرك بأن ثمة خطيئة أصلية أفضت إلى ما عليه الأمازيغ اليوم في علاقتهم بلغتهم. “اللغة عملة” كما ذهب إلى ذلك المفكر المغربي عبد الله العروي في كتابه “من ديوان السياسة”؛ وحتما لن يجد الدارسون شعبا يمكن أن يؤكد ذلك مثل الأمازيغ. من يتكلم منهم بالأمازيغية كمن يملك نقود سوس، ومن يتكلم العربية المغربية كمن يملك الدراهم، ومن يتكلم الفرنسية أو الإسبانية كمن يملك الأورو، ومن يتكلم الإنجليزية كمن يملك الدولار. واضح إذا ما كان وسيبقى عليه السلوك والإختيارات اللغوية. النخبة الأمازيغية اختارت دائما، إلا في حالات نادرة، لغات الأقوام المهيمنة. فالفيلسوف والكاتب “القديس أوغيسطين” لم يكتب بالأمازيغية لغة قومه الأمازيغ؛ كما أن الملك المثقف “يوبا الثاني” أبدع باللغة اللاتينية لغة المهيمن والهيمنة في ذلك الزمان؛ وسيرا على سيرة السلف، كتب الروائي كاتب ياسين بالفرنسية التي اعتبرها غنيمة حرب – Butin de guerre -وسار على نهجه آخرون كالعميد أحمد بوكوس؛ كما كتب وأبدع العلامة المختار السوسي باللغة العربية، وسارت على خطاه كل فسيفساء النخبة الأمازيغية بالمغرب حاليا. ثلة قليلة من المبدعين اختارت نقود سوس، وفي طليعتهم الروائي محمد أكوناض، هم يرفضون فكرة الخطيئة الأصلية والذنب الجماعي، مسلحين بالإيمان بأن الأمر مرتبط بالوعي الزائف لدى السواد الأعظم من النخبة الأمازيغية وليس قضاء وقدر.
حركة أمازيغية بدون لغة أمازيغية
حينما يتعلق الأمر بتوظيف اللغة الأمازيغية والتمكين لها في الواقع وليس في الشعارات، تقوم مكونات الحركة الأمازيغية بفصل الذات عن الموضوع؛ فهي تتناول الظلم الممارس في حق اللغة والثقافة الأمازيغيتين بغير قليل من الحماس وبكثير من النضالية التي تصل حد الهوس، لكنها تتلكأ في تمزيغ الذات – فردية كانت أو جماعية – ولا تسعى إلى توظيف الأمازيغية والإستثمار فيها وترسيمها في الأسر والفضاءات الجمعوية والإجتماعية. إن أزمة الأمازيغية والحركة الأمازيغية تكمن بالأساس في عجز الذوات المناضلة في الانغماس في موضوع النضال ألا وهو الأمازيغية أساسا؛ هناك حاجز متين بين طرفي الذات والموضوع، يحول دون أن تتملك الذات المناضلة موضوعها وأن تتخلص من سكيزوفرينيتها وعماها ومن احتضان الموضوع والانغماس فيه.
إن من نتائج الإنحراف عن العقيدة النضالية الأمازيغية كما أسس لها الجيل المؤسس، اعتبار اللغة الأمازيغية موضوعا للنضال فقط وليس مسكنا للوجود؛ فبدون التملك اللغوي للوجود يصير عمل الذوات الأمازيغية المناضلة أقرب إلى الكوميديا في أحسن الأحوال وإلى الإرتزاق باسم الأمازيغية في أسوئها. من نتائج ذاك الإنحراف أيضا، وجود جمعية أمازيغية واحدة تشتغل على موضوع الأمازيغية باللغة الأمازيغية ومن أجل التمكين لها، من أصل أزيد من ألف جمعية تهتم بالشأن الأمازيغي؛ لسنا بصدد تبخيس أعمال الجمعيات والمناضلين، لكن الأرقام تتحدث عن نفسها والواقع يؤكدها. فعلى سبيل المثال لا الحصر، يفيد التقرير السنوي لمؤسسة عبد العزيز آل سعود، عن وضعية النشر والكتاب بالمغرب، بأن المنشورات الأمازيغية تعرف نموا بطيئا، إذ لم يصدر منها خلال الفترة 2016/2017 سوى 66 كتاب بنسبة 25،2 بالمائة من مجموع 2937 كتاب نشر بالمغرب. وتهيمن على هذه الإصدارات تلك المكتوبة بأمازيغية الجنوب “تاشلحيت” ب 41 عنوان، كما أن نصف ما نشر بالمغرب من إصدارات أمازيغية مصدره جمعية “رابطة تيرا”، التي تجاوزت المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية الذي لم يغنى المكتبة الأمازيغية سوى ب 18 عنوان فقط.
“آيت فايسبوك” وإعادة إنتاج المأساة
يتميز التواجد الأمازيغي على شبكات التواصل الإجتماعي بالوفرة وانعدام التجانس، كما أن هذا الحضور بارز بشكل كبير على فايسبوك أكثر منه على تويتر والشبكات الأخرى. “آيت فايسبوك” هو الإسم المتعارف عليه للجماعات التواصلية الأمازيغية المتعددة على شبكة “مارك زوكربيرغ”؛ وحسب الباحثين المشتغلين على موضوع التواجد الرقمي للأمازيغية، هناك بالإضافة إلى آلاف الحسابات بنفحة أمازيغية، أزيد من 630 مجموعة أمازيغية على فايسبوك تتباين من حيث الموضوع والشكل ولغة التواصل.
غير أن مأساة الأمازيغية في العالم الواقع امتدت وانتشرت في العالم الإفتراضي؛ فالتواصل الرقمي باللغة الأمازيغية ضعيف جدا ولا إقبال جدي عليه في أوساط “آيت فايسبوك”، مقارنة مع إقبالهم على إنتاج الخطاب الرقمي حول الأمازيغية باللغة العربية أساسا وبالفرنسية بشكل ثانوي. كما أن مساهمات المحسوبين على الحركة الأمازيغية على تلك الشبكات، لم تدفع في اتجاه توسيع فضاءات الكتابة بالأمازيغية، بل على العكس من ذلك أصبحت تهديدا حقيقيا لإحدى آخر الوظائف المتبقات للغة الأمازيغية، ونعني وظيفة التواصل والإتصال. تقاليد الكتابة المرعية مغربيا على شبكات التواصل الإجتماعي، دفعت غالبية “آيت فايسبوك” إلى التخلي عن اللغة الأمازيغية كوسيلة للتعبير عن مشاعرهم وأحاسيسهم ومشكلاتهم وتحقيق الفهم المشترك بينهم؛ فإطلالة على ما تنشره قيادات الحركة ونشطائها كاف للوقوف على حجم المأساة. حينما يمرض ناشط أمازيغي مثلا غالبا ما يعبرعن ذلك بالعربية الفصحى على حائط حسابه ( نموذج : أصبت بوعكة صحية هذا الصباح، أدعو لي بالشفاء.تانميرت)، أما تعليقات أصدقائه من الحركة فتراعي نفس التقليد اللغوي؛ وغالبا ما يتنافس المتفاعلون في إبداع أروع التعليقات باللغة العربية الفصحى أو بالفرنسية. مع هكذا مأساة، لم يعد التحدي هو التحول من اللغة الشفاهية إلى الأمازيغية المكتوبة بل الحفاظ على الأمازيغية كلغة للتواصل والإتصال في بعده الإنساني.
متاهة الدستور المغربي والدرس السينغالي
سبق وأن وضحنا في مقال سابق بأن المتاهة الدستورية التي دخلتها الأمازيغية ونخبتها، متاهة بلا مخارج – labyrinthe sans issues -؛ النخبة الأمازيغية في حالة شرود وترفض الاقتناع بأن ترسيم الأمازيغية حالة ثقافية مجتمعية وليست سطورا في نص قانوني مهما كان سموه. يستحيل أن نبني صرح الأمازيغية بالقوانين والمراسيم فقط، الأمر يحتاج بالأساس إلى ديناميات مجتمعية للبناء والتحصين عبر الممارسة والتملك والتمكين.
اللغات الوطنية للشعوب، حينما تكون نخبها ذات مصداقية، يمكنها أن تهزم لغات الهيمنة الرسمية وتضع المشرعين الدستوريين والأنظمة السياسية أمام الأمر الواقع. الدرس السينغالي يؤكد ذلك؛ ففي بلد حكمه بعد الإستقلال الرئيس الشاعر سانغور، تمردت في السنوات الأخيرة فئات واسعة من الشعب على اللغة الفرنسية الرسمية، وفرضت هيمنة لغة “الولوف” على السوق اللغوية؛ علما بأن “الولوف” ليست سوى واحدة من ستة لغات وطنية منصوص عليها في الدستور. التمرد لم يكن عبر العنف أو الإحتجاجات، بل عبر ديناميات مجتمعية ساهم فيها رجال الأعمال والأساتذة والصحفيون والأميون وغيرهم. انقلاب فئات واسعة من الشعب السنغالي على اللغة الرسمية للبلاد، استنفر المنظمة العالمية للفرنكفونية، خشية ان تنتقل العدوى إلى دول أخرى مثل ساحل العاج؛ لذلك ضخت ملايين اليوروهات في مشاريع مختلفة لمواجهة اجتياح لغة “الولوف”، الذي علقت عليه الأوساط الصحفية الفرنسية بالتسونامي اللغوي الذي ضرب بلاد “أب الفرنكفونية”، وهو اللقب العزيز على قلب أول رئيس للسنيغال المستقل.
لا أمازيغ بدون اللغة الأمازيغية
يبدو أن أغلب نشطاء الحركة الأمازيغية لم يعد لهم هدف إلا الهزيمة في معاركهم من أجل لغتهم ونهضتها، بل لدى بعض منظري الحركة كل الشجاعة في التنظير لدولة أمازيغية لا أدوار فيها للغة الأمازيغية خارج الوظيفة الهوياتية. وهذا التيار الهوياتي هو المهيمن اليوم، فالنضال بالنسبة إلى هؤلاء لا يحتاج إلا إلى علم أمازيغي في الجيب وتوقيع بيانات وعرائض المطالبة بتمزيغ الدولة بالمفهوم الترابي وليس اللغوي!
في عمله الموسوعي “البربر ذاكرة وهوية”، أشار المؤرخ وعالم الإناسة الفرنسي “غابرييل كامب” إلى أن اللغة الأمازيغية تعتبر اليوم الخاصية الأكثر أصالة والأشد تمييزا للمجموعات الأمازيغية المتناثرة في الربع الشمالي الغربي من القارة الإفريقية. ونحن نقول اعتمادا على مفهوم المخالفة، بأنه بزوال تلك الخاصية المميزة يزول الإحساس بالإنتماء إلى مجموعات الأمازيغ، ويذوب الأفراد والجماعات في القوالب الهوياتية واللغوية والثقافية للأقوام الوافدة عليهم؛ فلا أمازيغ بدون اللغة الأمازيغية.
إننا ونحن نطرح هذه العناصر للنقاش، لا ندعي الإحاطة بكل تفاصيل المأساة الأمازيغية المركبة، حيث تتداخل الأبعاد التاريخية والثقافية والأبعاد السياسية والاجتماعية وغيرها؛ لكن حاولنا من خلال ما تقدمنا به الإشارة إلى جانب تلك الأبعاد، إلى بعد أساسي نعتبره البعد المفتاح، ألا وهو البعد النفسي. الأمازيغ، ونخبهم بالخصوص، في حاجة إلى سفر ذاتي حتى يتخلصوا مما هم فيه من توظيف انتهازي للغتهم في أحسن الأحوال واحتقارها في أسوئها.
وفي انتظار ذاك السفر، تموت لغة الأمازيغ ويستمر ضجيج الحركة الأمازيغية في نسختها الجديدة.


اكتشاف المزيد من azulpress.ma

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

التعليقات مغلقة.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. الموافقة قرائة المزيد

اكتشاف المزيد من azulpress.ma

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading