د.عبدالله الحلوي
الغرض من هذا المقال هو أن أبين لك، عزيزي القارئ، أن ترجمة النصوص السياسية لا تكون بريئة دائما. ولأقنعك بهذه الفكرة سأعطيك مثالا واضحا، وهو ترجمة أحد المترجمين المغاربة لمقال عنوانه Morocco is running out of Time كتبه روبرت لوني في السنة الماضية في مجلة “فورين پوليسي” الأمريكية الشهيرة. اخترت هذا النص بالضبط لأنه يتحدث عن مواضيع بالغة الحساسية في مغرب اليوم مثل موضوع “الملكية المغربية” وعلاقتها بحزب “العدالة والتنمية” وموضوع “التهديد الإرهابي للمغرب”.
النص المترجم
في السنة الماضية، نشرت بعض المواقع الإلكترونية ترجمة لمقال روبرت لوني المنشور في المجلة الأمريكية (فورين پوليسي) بتاريخ 9 يوليو 2015 عنوانه Morocco is running out of Time والترجمة التي أقصد هنا هي تلك التي أنجزها أنجزها أحد المترجمين المغاربة والتي عنونها “الوقت بدأ ينفد أمام المغرب”. جملة ما أريد أن أبينه في هذا التحليل اللساني أن الترجمة المذكورة نقلت معاني نص روبرت لوني بشكل شوه المقاربة التنموية التي يريدها روبرت لوني للمغرب، مما لا يسمح للقارئ المغربي بفهم إحدى وجهات النظر الأمريكية المهمة حول المغرب التي قد نتفق معها وقد نختلف.
وجملة ما يريد أن يبينه روبرت لوني في مقاله أن المغرب بات اليوم مهددا بخطر “الدولة الإسلامية” (لا يضع الكاتب مزدوجتين حول هذه التسمية، لكن المترجم يضعهما حولها في النص المترجم كله)، وأن السبيل الوحيد إلى تجنب هذا الخطر هو الإسراع بإصلاح اقتصادي وسياسي جذري، وأن الطريقة الوحيدة لتحقيق هذا الإصلاح هو تخلي الملك عن سلطاته للحكومة/للبيجيدي (النص يماهي بشكل مطلق بين البيجيدي والحكومة).
يتكون النص المنقول من 13 فقرة والنص المنقول إليه من 14 فقرة باعتبار أن المترجم اختار أن يقسم الفقرة الأولى لفقرتين، ربما لأن الجزء الأول من الفقرة في الأصل تطرح سؤالا ( “فلماذا إذن بدأ يستهدف المملكة المغربية التي تتمتع باستقرار نسبي؟”) رأى المترجم أن بقية النص جواب عنه.
“بنية التشويه الترجمي” في ترجمة نص لوني
أقصد ب”التشويه الترجمي” ما يدخل على الترجمة من أشكال عدم الدقة في نقل مقاصد النص الأصلي. وتكون عدم الدقة “محفزة” إذا كانت مدفوعة بميولات المترجم الفكرية أو السياسية أو كليهما. سأبين في تحليلي أن ترجمة نص روبرت لوني دخل عليها تشويه ترجمي محفز. كما سأبين أن في الترجمة التي أحللها هنا نوعين من التشويه الترجمي: أولهما “محفز” بعدم مشاركة المترجم للكاتب في فهمه لبعض الوقائع، وثانيهما “محفز” ب عدم فهم المترجم لبعض التصورات الإقتصادية والتنموية التي يتبناها الكاتب.
التشويه الترجمي الناتج عما يختلف الكاتب والمترجم في فهمه
ينقل المترجم كلام الكاتب: hardly a week passes without Moroccan security services announcing the arrest of members of an alleged Islamic State sleeper cell. بالقول: “لا يكاد يمر أسبوع دون أن تعلن الأجهزة الأمنية المغربية اعتقال عناصر من خلايا مفترضة لتنظيم «الدولة الإسلامية». فبينما يستعمل الكاتب الفعل الإنجليزي allege الذي يعني “ادعى” الذي يفيد بأن الدولة تؤكد على وجود هذه المجموعات بدون دليل، يستعمل المترجم الفعل المحايد “افترض” الذي قد لا يدل على “ادعاء” الدولة وقد لا يستلزم إمكانية كذبها في هذا الإدعاء. أضف إلى هذا أن الكاتب يستعمل كلمة sleeper ليصف الجماعات المتحدث عنها، في حين لا يستعمل المترجم ما يفيد معناها في العربية (“النائمة”). هذا يعني أن الكاتب يفترض أن الدولة المغربية “تدعي وجود خلايا إرهابية نائمة في المغرب” وهو يتحفظ من هذا الإدعاء، أما النص المترجم فلا يشترك مع الكاتب في هذا الموقف المتحفظ.
ينقل المترجم كلام الكاتب Its economy had been hard-hit by the international economic crisis of 2008-09, with falling remittances and high unemployment among workers returning from overseas. بالقول: “لقد تضرر اقتصاده بشكل ملحوظ بسبب الأزمة الاقتصادية العالمية لسنة 2008 ــ 2009، خصوصا مع تنامي البطالة في صفوف العمال المهاجرين في الخارج وانخفاض تحويلاتهم.” فالكاتب يفترض أن المهاجرين المغاربة قد عادوا إلى المغرب وزادت عودتهم من معدلات البطالة في البلد. لا حظ بأن الكاتب لا يضع فاصلة بين workers والجملة الموصولة المتعلة بها returning from overseas فالقاعدة في الإنجليزية أن عدم استعمال الفاصلة مع الجملة الموصولة يفيد معنى التخصيص: فالكاتب “يخص” العمال العائدين من المهجر بصفة high unemployment وبما أن هذه الهجرة المعكوسة غير موثقة بشكل جيد، فإن هذا الكلام قد يحمل على أن روبرت غير عارف بالوضعية السوسيو اقتصادية المغربية كما يحاول أن يوهم قارءه .. لكن النص المترجم “يصحح” هذا المعطى في النص الأصلي وينسب البطالة إلى العمال في هجرتهم لا عند عودتهم.
ينقل المترجم كلام الكاتب Toward this end, it is critical that the king lend his authority to the PJD to quickly overcome the opposition of vested interests. بالقول “ولهذه الغاية، فمن الأهمية بمكان أن يتخلى الملك عن سلطته لصالح حزب العدالة والتنمية من أجل القضاء، في أسرع وقت، على تضارب المصالح الخاصة”. فبينما يفترض الكاتب أن الحكومة تقاومها مصالح شخصية متخفية مستعملا عبارة the opposition of vested interests التي تفيد معنى “المقاومة” أو “الممانعة” فإن المترجم يتحدث عن “تضارب المصالح الخاصة” كأنما المقصود هو المقصود هو أن للملك والحكومة مصالح خاصة متضاربة يبنغي وضه حد لها. وهذا بعيد جدا عن المعنى الذي يقصد إليه الكاتب.
ينقل المترجم كلام الكاتب What actions the returnees take and the likelihood of their success could depend on the level of popular discontent that awaits them. بالقول: “إن الذي سيحدد الأشكال التي ستتخذها تحركات العائدين، واحتمال نجاحها، هو مستوى السخط الشعبي الذي ينتظرهم في المغرب.” يستعمل الكاتب الفعل الإنجليزي await الذي يعني في هذا السياق “تربص” أو “انتظر من أجل الإنقضاض على” wait to ambush فما يقصده الكاتب هو أن العائدين من سوريا والعراق ينتظرهم سخط شعبي قد يكون قليلا أو كثيرا، وأن شكل تحركاتهم في المغرب يتوقف على طبيعة هذا السخط ومقداره. أما النص المترجم فيدخل بعض اللبس على هذا المعنى مما قد يجعله يفيد أن المحاربين العائدين من سوريا والعراق سيجدون “سخطا شعبيا” قد يستغلونه .. ويزيد السياق في احتمال تفضيل قارئ الترجمة لهذا المعنى حتى ولو أنه ليس هو المعنى المقصود.
التشويه الترجمي الناتج عما لم يفهمه المترجم من التصورات الإقتصادية والتنموية عند الكاتب
ينقل المترجم كلام الكاتب On the other hand, with an innovative, growth-oriented approach to development that combines the best of western and Islamic economic principles and a spiritual but anti-theocratic style of Islam that discourages extremism, Morocco could weather the storm — and even transform itself into an economic model for countries seeking to defuse the Islamic State threat. بقوله:”يستطيع المغرب أن يصمد في وجه العاصفة، وربما يصبح نموذجا اقتصاديا للدول التي تسعى إلى نزع فتيل التهديد الذي باتت تشكله «الدولة الإسلامية»، إذا نجح في نهج مقاربة فعالة تركز على تنمية تجمع بين أفضل المبادئ الاقتصادية الغربية والإسلامية، وأسلوب روحي إسلامي غير ثيوقراطي يستطيع أن يكافح التطرف.” يقترح الكاتب على المغرب اعتماد مقاربة تنموية تجمع ثلاث صفات وهي: “تجديدية” innovative “موجهة تنمويا” growth-oriented و”جامعة لفضائل المبادئ الغربية والإسلامية كليهما” مع تجنب “التيوقراطية”. ينقل المترجم العبارة الدالة على صفة “التجديد” (التي تستعمل في القطاعين المقاولاتي والتيكنولوجي خاصة) ب”فعالة” efficient مما يرجح أن المترجم ليس على دراية بمعاني المفاهيم المتصلة بالثقافة الإبتكارية. ويترجم عبارة “الموجهة تنمويا” بعبارة “تركز على تنمية ” مغفلا أن الأمر لا يتعلق ب”التركيز على التنمية” بقدر ما يتعلق بمقاربة اقتصادية موجهة بخلق فرص التنمية وليست منشغلة بإصلاحات مؤسساتية إجرائية صورية. ترجمة هذا الجزء بالدقة المطلوبة يطرح أسئلة حول ما إذا كان الكاتب على اطلاع للسياسات الموجهة تنمويا والتي انخرط فيه المغرب (والملك بشكل خاص) في السنوات الأخيرة مثل سياسة “الإقلاع الصناعي”.
نفس التشويه الترجمي يقع فيه المترجم في ترجمة قول الكاتب It can only do so, however, if the government is allowed to apply a pragmatic, consistent, and goal-oriented approach to development. عندما يترجمه ب “ولن يتأتى ذلك إلا إذا تم السماح للحكومة بنهج مقاربة براغماتية متناسقة تهدف الى تحقيق التنمية” .. لذلك فلن أكرر نفس الكلام.
ينقل المترجم قول الكاتب This slowdown occurred despite a relatively liberal free market approach to economic activity that attracted $3.4 billion in direct foreign investment. بالقول “حصل على الرغم من اتباع النهج الليبرالي نسبيا في ميدان الاقتصاد، والذي جلب 3.4 مليار دولار في الاستثمارات الأجنبية المباشرة.” واضح أن الكاتب يقصد أن الحكومة نهجت سياسة ليبرالية نسبيا في تحريرها للسوق وهو يشجع على مزيد من التحرير لهذه السوق باعتماد مزيد من الإصلاحات الجوهرية، لكن حذف المترجم لعبارة free market من ترجمته يغطي على كون الحكومة الحالية نهجت سياسة “السوق الحرة”، مما قد يشكك في انجامها مع خطابها الإنتخابي المنتقد لليبرالية المحررة للسوق.
ينقل المترجم كلام الكاتب always looking for better ways to improve the economy, but with minor reforms that can easily be reversed if proven ineffective. بالقول: ” ولكن باصلاحات طفيفة يمكن بسهولة أن تؤتي عكس مفعولها إذا ما أثبتت انها عديمة الفعالية.” واضح أن الترجمة في هذه الحالة غير ذات معنى أصلا قد تجعل قارئها مرتبكا أمام ما يقصده الكاتب الأصلي. فالمعنى المقصود هو أن الحكومة لا تخاطر بالإصلاحات الجوهرية وتلجأ إلى إصلاحات طفيفة حتى يسهل عليها أن تبطل مفعول هذه الإصلاحات إذا أثبتت عدم فعاليتها.
خلاصة
ترجمة النصوص السياسية لا تكون بريئة دائما. والترجمة التي حلّلناها في هذا المقال ليست مثالا عن “الترجمة غير الدقيقة فقط” بل هي أيضا مثال عما يمكن أن ينتج عن هذه الترجمات غير الدقيقة من خبط في فهمنا لفهم الأغيار لنا.
التعليقات مغلقة.