” ليس ممنوعًا مساءلة الماضي من أجل خلق تصور لمستقبل ممكن”. عبد الله العروي
من أجل فهم أفضل للتطور الاجتماعي والثقافي للسينما المغربية والعلاقة الملتبسة في كثير من الأحيان بين السينما والمجتمع، دعونا أولاً نعقد مقارنة بين التجربة المغربية والتجربة اليابانية. من شمس إلى أخرى: من بلد الشمس المشرقة إلى بلد غروبها.
يجب أن أشير إلى أن هذه المقاربة ليست اعتباطية تمامًا، لأن هناك شيء مشترك بين البلدين في علاقتهما بالسينما: انه مصور الأخوين لوميير الشهير غابرييل فيير. قبل أن يأتي إلى المغرب ويصبح مغربيًا عمليًا (دُفن في الدار البيضاء)، قضى الرجل القادم من ليون فترة طويلة في اليابان، حيث يشار إليه على أنه ”أول مخرج ياباني“.
وتكريماً له، خصص له المخرج الياباني الكبير كيجو يوشيدا (1933-2022)، وهو أحد أساتذة الموجة اليابانية الجديدة، فيلماً وثائقياً بعنوان:” حياة السينما، حياة طوكيو“.
أُنتج هذا الفيلم في عام 1995 بمناسبة الذكرى المئوية للسينما، مستعينًا برسائل ومذكرات من رحلة غابرييل فيير إلى اليابان خلال حقبة ميجي.
إنها اشارة من شأنها أن تلهم صناع الفيلم الوثائقي المغربة للعودة لمسار هذا الرجل وفترة اقامته عند السلطان عبد العزيز (1901 – 1905)… حتى وإن كانت بقية القصة لن تكون متشابهة بين البلدين.
ولسبب وجيه. دعونا نقارن. كانت نقطة البداية واحدة. نحن نعلم أنه في منتصف القرن التاسع عشر، وفي فترة المناورات الإمبريالية الكبرى، أرسل السلطان المستنير، مولاي الحسن، مجمعة من الشباب لدراسة العلوم والحرف التي يمكن أن تدعم رغبته في تحديث البلاد وحمايتها من الأطماع الاستعمارية (كانت الهزيمة في إيسلي قد كشفت أخيرا عن حدود نظام خارج الزمن).
في الوقت نفسه، في اليابان، كان ذلك يتوافق مع عصر الميجي، مع نفس الأهداف عمليا ونفس الطموحات… إلا أنه، ولسوء حظ المغرب، لم يلقَ الشباب الذين تدربوا في أوروبا نفس الترحيب الذي حظي به نظراؤهم اليابانيون في بلادهم. فهناك، قادوا عملية تحديث البلاد (منذ عام 1867 فصاعدا)، أما هنا، فقد تم دفعهم إلى الزوايا النائية، وتم تهميشهم بل والتنكيل بهم أحيانا وهناك من الطرائف أن بعضهم اضطر الى تزيين حدران محلات المجوهرات الخاصة بأهاليهم الأغنياء بالدبلوم الذي رحلوا من أجله.
والأسوأ من ذلك أنهم في حالات أخرى تم إبعادهم بكل بساطة، وتحولوا إلى منبوذين من قبل التيار المحافظ الذي كان يثقل كاهل المجتمع رغم الدوافع الإصلاحية للسلطان الحسن الأول. نتيجة لذلك، عندما وصلت السينما في نفس الوقت تقريبًا في اليابان والمغرب (حوالي 1896/1897)، لم يكن لها نفس المصير ولا نفس التطور. مع النتائج التي يؤكدها واقع اليوم.
لا تزال السينما لدينا تكافح من أجل إرساء مشروعيتها الفنية التي لا يمكن إنكارها على أساس اجتماعي متين. لقد سارع اليابانيون إلى تملك هذا الشكل من أشكال التعبير وسرعان ما ربطوه بالأشكال الفنية التقليدية المستمد من تراثهم ( بعض التعبيرات المسرحية ).
أما في المغرب، الذي استسلم للمناورات الإمبريالية وأصبح تحت الحماية، فقد كانت السينما شأناً فرنسياً بالأساس. ويعود الفضل في ذلك إلى السياسة التي قادها رجل واحد هو ”ليوطي“ الذي شجع على استقرار المنتجين الفرنسيين بالمغرب وبناء أولى دور السينما.
وفي الوقت نفسه، كان التصوير السينمائي يتطور. انتقلنا من” المناظر “البسيطة إلى الأفلام. بدأ صانعو الأفلام في الاهتمام بالمناظر الطبيعية المغربية، ثم بأساطيره وألغازه.
ولفترة طويلة، سيتحدد تاريخ السينما في المغرب على أنه تاريخ التصوير السينمائي الدولي الذي سيستقبله ويستضيفه. ومن التواريخ المهمة في هذا الصدد، كان عام 1919، مع تصوير أول فيلم روائي طويل في المغرب، وهو فيلم” مكتوب“لجوزيف بينشون ودانيال كوينتان، عن سيناريو إدمون دوتيه (المستشرق وعالم الإسلاميات الشهير والضليع في اللغة البربرية).
وهو انتاج ضخم تم تصويره في عدة جهات وخاصة مراكش ومنطقة الرحامنة.. كان هذا تاريخًا محوريًا، ليس فقط لأنه أول فيلم روائي طويل يُنتج في المغرب، ولكن أيضًا لأن مكتوب مهّد الطريق لما سيصبح نوعًا سينمائيًا هو الفيلم الاستعماري /السينما الكولونيالية.
نحن أمام متن حقيقي من الأفلام التي تشكل موضوعًا للدراسة بامتياز. أولاً، بسبب تناسقها. فبين عامي 1919 و1957 كان هناك أكثر من 50 فيلمًا روائيًا طويلًا في هذا السياق. ناهيك عن مئات االروبورطاجات. واشير انه هناك أيضًا سينما كولونيا لية إسبانية كاملة في شمال المغرب وجنوبه لا يمكن إحصاؤها هنا.
هذه السينما لها مخرجوها الكبار، وهي سينما أنتجت بعض الأفلام الهامة لتميزها. أفكر هنا على وجه الخصوص في فيلم” إيطو“لماري إبشتاين وجان بينوا ليفي (1934)، والذي يمكن اعتباره أول فيلم أمازيغي.
ولقد تم تقديمه في حوليات ذلك الوقت على أنه” فيلم فرنسي- بربري“(كذا.) وقد أنتجه جان بينوا ليفي (1888-1959)، وهو مخرج غزير الإنتاج، خاصة الأفلام التعليمية القصيرة.
وقد شارك في إخراج فيلم” إيطو“مع ماري إبشتاين (1899-1995)، وهي ممثلة وكاتبة سيناريو ومخرجة بولندية المولد، وشقيقة صانع الأفلام والشاعر الشهير جان إبشتاين.
اقتُبس الفيلم الذي تبلغ مدته 125 دقيقة من الملاحظات التي دوّنها طبيب فرنسي شارك مع القوات الاستعمارية فيما أطلقوا عليه” التهدئة“، أي الحرب الشرسة ضد المقاومة المسلحة خاصة في الجنوب.
تدور أحداث الفيلم في هذا السياق، حيث يشير جنيريك البداية إلى أن” التهدئة قد انتهت الآن لحسن الحظ“.
يتناول الفيلم قصة طبيب تحركه عواطف إنسانية حيث يسعى الى علاج قبائل “السكان الأصليين”” التي مزقتها الحروب بين الأشقاء. لكن الشخصية المحورية هي المرأة البربرية، إيطو، التي تؤدي دورها سيمون بيرو (1896-1984)، وهي ممثلة مشهورة في المسرح والأوبرا والسينما وهي أيضا بارزة في السهرات والامسيات الباريسية .
تلعب في الفيلم دور ابنة أحد زعماء البربر المتمردين، وتقع في حب ابن زعيم قبيلة أخرى منافسة أقامت تحالفًا مع الفرنسيين.
قراءة جنيريك الفيلم حافل بالمعطيات وبعض المعلومات المثيرة للاهتمام والكاشفة ليس فقط عن مكان التصوير والتمثيل بل على التمثلاث السائدة لدى صانعيه.
نعلم بداية أن الفيلم تم تصويره بالكامل مع” الشلوح“؛ حتى أن ملصق الفيلم يحدد عدد الشلوح بـ 10,000 شخص. صُوّر معظم الفيلم في الأطلس الكبير الشرقي، فيما يمكن اعتباره إقطاعية القائد التهامي الكلاوي الشهير، (“اكلاوو” بلغة ابائنا هنا في سوس) وتحديدًا بين تلوات، التي تعتبر مقر سلطة عائلة الكلاوي، وتليوين.
وقد أُدرج اسم أحد أفراد عائلة الكلاوي في جنيريك الفيلم بصفته” مستشارًا من السكان الأصليين“، وقد استفاد الفيلم من موارد الإنتاج الضخمة، حيث استفاد بالتأكيد من المساعدة المتعددة الأشكال التي قدمها القائد الكلاوي المعروف بعلاقاته مع الأوساط السياسية والفنية الدولية.
حتى أن الأسطورة تقول إنه كان عشيق نجمة الفيلم، سيمون بيرو وربما في هذا تفسير للإمكانيات الضخمة التي وضعت رهن إشارة الفيلم.
جنيريك مفيد أيضا في كيفية تقديم الممثلين، فعلا يحظى الممثلون المحليون بمكانة مرموقة في الفيلم، على الرغم من أن التقديم يفضل الدور على حساب اسم المؤدي: بالنسبة للممثلين الفرنسيين، يرد اسم المؤدي كاملاً متبوعاً بالدور، أما بالنسبة للممثلين الأصليين، فيأتي الدور أولاً (حمو، زعيم حربي/ والد ايطو)، يليه اسم المؤدي مختصراً (مولاي إبراهيم: هكذا فقط). هوية مبتورة تعكس الهوية المبتورة لبلد بأكمله.
ومع ذلك، فإن البناء العام للقصة ليس ميكانيكيا وجامدا حتى وإن ظل يتغذى من الافتراضات الثقافية المسبقة. يقارن مشهد الافتتاح بين صورتين. الصورة الأولى هي فضاء البادية البربرية، وهي مساحات شبه صحراوية وكأنها الغرب الامريكي ببعد تاريخي ترمز إليها القصبات العظيمة، لكنه فضاء يقدم على أنه متجمد في الزمن .
مباشرة تلي، في مونتاج حاد، صور لمدينة أوروبية وشوارع صاخبة ومطاعم مزدحمة… كما لو أنها تعلن عن العمل ”الحضاري“ الجاري الذي سيكون الطبيب شعاره. ثنائية قطبية يختزل فيها الآخر (نحن في هذه الحالة) إلى غرابة مطلقة: يتم تصوير المكان والبشر في أغرب صورهم وأكثرها غرابة (انظر صورة إيطو على ملصق الفيلم).
من هذه الغرابة تنبثق علامات التحديد الثقافي للأخر، مع توظيف بعض هذه العلامات بشكل ايجابي مثل استخدام اللغة الأمازيغية في واحدة من أكثر المعالجات السينمائية أصالة. واحتراما لهذه اللغة المظلومة والصامدة على طول القرون.
بالتأكيد يتم استحضار الفضاء الامازيغي بشكل كبير، أحيانا باحترام وأحيانا باختزال البربرية في الكليشيهات ولكن دون أن تكون كاريكاتورية.
عموما يتميز الفيلم بمقاربته المتعاطفة. كتب أحد النقاد في ذلك الوقت أن” إيطو قبلة للأرض المغربية“. ويمكننا أن نضيف إلى الثقافة الأمازيغية.
اكتشاف المزيد من azulpress.ma
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
التعليقات مغلقة.