تارودانت بعيون أدبائها، رسالة الأديب منير المنيري نموذجاً…

متابعة سعيد الهياق

” المكتبة مستشفى النفوس. إذا أرت أن تُسعِد إنساناً فقدم له كتاباً ” مثل ألماني

أعادت مكتبة سرتي الدفء إلى الفضاءات الثقافية في عز انكماش ثقافي مريب بالمدينة تداخلت فيه العوامل المناخية بالإضافة إلى الاحتقان المجتمعي نتيجة تردي الأوضاع الاجتماعية بسبب ارتفاع موجة الأسعار. وكلها عوامل قلصت إلى حد ما من حركية وسيرورة المشهد الثقافي على الصعيد الوطني.
وفي هذا الإطار المتأجج ومن أجل إعادة الروح إلى المسرح الثقافي نظمت مكتبة سرتي مساء يوم السبت 18 فبراير 2023 ندوة فكرية تحت شعار ” تارودانت بعيون أدبائها”

وشارك في الندوة كل من الأديب أحمد بزيد الكستاني، الشاعر مولاي الحسن الحسيني، والقاص والناقد منير المنيري؛ وأشرف على تسييرها الأديب شكيب أريج.
وبعد تلاوة عطرة للأستاذ عبد الصمد فكير، رحب الأستاذ خالد سرتي بالحضور الذي تحمل عبء الأجواء المناخية الباردة لحضور الندوة الفكرية، كما تقدم بالشكر للسادة الأدباء على تلبية نداء الثقافة تجمعنا.
وأكد على رمزية شعار الندوة ” تارودانت بعيون أدبائها” من أجل إعادة الاعتبار إلى الموروث الثقافي اللامادي وأيضاً من أجل سبر أغوار تارودانت الحضارة عبر مجهر التاريخ والأدب والشعر عبر الأجيال.
وبدوره تقدم الأديب شكيب أريج مسير الندوة للأستاذ خالد سرتي بوافر الشكر والتقدير لإعادة الاعتبار لثقافة المكتبة كونها من أهم روافد الثقافة والفكر عبر العصور. وهي بذلك تعيد للمكتبة ذلك مشروعيتها الثقافية في ظل زمن العتمة والتفاهة.


كما قدم ورقة تعريفية موجزة عن المتدخلين مع تقدير خاص لشيخ أدباء تارودانت الأديب أحمد بزيد الكستاني الذي قاوم أزمته الصحية رغم الظروف المناخية والأجواء الباردة وأصر على المشاركة في الندوة كشاهد عيان على المسار الثقافي بالمدينة وكواحد من أبرز الأدباء الذين قدموا بتارودانت زخم من المؤلفات المتنوعة في التاريخ والأدب والشعر باللغة العربية والامازيغية.
وفي مايلي كلمة * الأديب منير المنيري على أن يتم نشر كلمات باقي المتدخلين:
” هذه المدينة، الحاضرة، العامرة، المتألهة فوق صروح التاريخ، الغافية على بلاد السوس.
وهذا عاشق دنف تساقطت روحه مزقا في سبيل حبها.
كانت رودانة ساقية ماء، ودوحة ظل، وشجرة زيتون، ومرمنة، وطلع نخل باسق، وساحات علم وزوايا حضرة، وكشف، ومساجد يذكر فيها اسم الله وأسواقا يقام فيها عدله.
وكانت خريدة غانية، تتيه حسنا وبهاء ربانيا، وتكاد في كل الأمكنة والأزمنة تشغل فؤاد من زارها أو فارقها، تُسمع صوتها الرخيم له وهي تطبق جفونها حياء وتواضعا فلا تزيده إلا غراما، ولا يزيدها إلا اهتماما.
وتنامى العشق ورس في نقوس القريبين والبعيدين. فسكنوها وسكنتهم، وألفت بين قلوبهم كأنهم محب واحد وكأنها المحبوبة الوحيدة. جعلتهم أسعد الناس وأهنأَهم وأمددتهم بوحي من الله بأموال وبنين ومباهج تسر الناظرين.


فكيف انقلبت الموازين وأصبح مجد ماضيها وشيا تتقاسمه ذاكرة محبيها وتشهد عليه حروف مشقها العديدون وألفوا بينها في كتب ستظل مخلدة ذلك المجدَ وتلك العمارةَ التي طُمست بفعل جهل الجاهل وحقد الحاقد وتسلط المتسلط وغَفْلَةَ الغافل، سياسيا ومثقفا ومسؤولا وراعيا ورعية لم تَغِر على مدينتها بقدر غيرتها على محارمها ؟
رودانة الصغيرة رقعة الشاسعة تاريخا وحضارة، كبيرة هي ابن سليمان وإبراهيم الرودانيين، والطيب بن محمد التملي، والتودماوي، وصالح بن واندالوس، وبمدافعها وقصبتها وأسوارها، ومسجدها الأعظم ومعهدها، وقصر دار البارود، وكم هي صغيرة مدن بكامل معاملها وأزيز سيارتها؟
إن هذا العاشق الموثوقَ قلبه بأغلظ حبال الحب والوله لهذه المدينة، الموسوسَ بخيوط الوصل التي جادت بهما عليه منذ النشأة واليفع والتدريس، ليلمح أن محبوبة الأمس غير محبوبة الآن فقد نفذت إلى جسمها أمراض ألمت بها وأوهنتها وطبعتها بالخمول والخمود، وجعلتها غير قادرة عن الدفاع عم تبقى من ثرواتها وأراضيها وخضرتها، ضد من يتحينون الفرص ويحصدون الأصوات ويهتبلون الأوقات صيفا وشتاء، بحثا عن الحظوة وملذات النفوس والجسوم.
فماذا عساه أن يفعل وهو الذي يهوى التسكع ليلا ويكاد يتقن على مضض مسك الطبشورة أمام صبية يأخذون من عقله ويأخذ من شقوتهم وسفالتهم. إنه ليجد نفسه محتارا تخونه الوسائل رغم نبل الغايات، ولو كان يملك كرامات سعيد بن زيد أو جرج العابد لرفع يديه إلى السماء وطلب من الوهاب القديم القدير أن يعيد عليه المحبوبة كما عرفها في تسعينات القرن الماضي، حينما كان متعلما في ورشة الخياطة عند المعلم إبراهيم الكرني الملقب بالمعلم بهبا، حيث كانت دكاكين قيساريتها كأنها قلب رجل واحد، بتزاور تجارها، ولطفهم وشفقتهم على الرائح والغادي والزائر والمقيم. فمن عادة كل محل دكان حينها تحضير كؤوس الشاي ضحى وعصرا، وتسويت قلل الماء أمام المحلات صيفا، وانتظار الشريف، وهو شيخ بشوش تجاوز الستين بكثير، لتبخير المكان مرددا لازمته الشهيرة وهو يطوف أركان المكان وزواياه بكل حرية وكبرياء: اللهم صل وسلم على المصطفى، حبيبنا محمد عليه السلام.
إنه كان أكثر من طقس بخور وتطيب، كان حقيقة طقس طرد أرواح الأبالسة وطقس توحيد وصلاة على النبي، وأخيرا طقس مزاح عندما يأخذ الشريف أجرته ويدعو لصاحب المحل بأدعية يقتضيها سياق الأجرة ومريدي المحل وأشياء أخرى. كانت المدينة توفر لهذا المحب الصبي أقصى درجات الإمتاع في وقت كانت أساليب الرفاه حكرا على الموسرين، حيث حلقاتُ الفرجة في ساحة جنان الجامع ومن بعده درب الحشيش، حلقات يتنقل بينها مستمتعا ومستفيدا بين أبطال الزمان وأرباب المكان، يذكر منهم ديحمان، الكهل الأسمر الذي لا يشيخ، المغامر المغني، النافثُ النار من فيه، وبيلوان المسرحاتي، والبهجة الحكواتي القصاص، وكثيرا من مروضي الثعابين، وبائعي الأعشاب الطبية التي لها القدرة على علاج ما عجز عنه الأطباء والصيدليات من برص وحصر وعجز وإطالة مدد الانتعاش. إن هؤلاء إضافة إلى شخصيات أخرى مثل الشبكة وباقشيش وسلامو ولاعبي كرة القدم في بطولات الأحياء، أمثال العزاوي، والبال، والأسطورة الجبلي الذي جعل من الملاعب مسارح وجعل من كرة القدم كرة جمع شمل وفكاهة، ليستحقون أوسمة من حب ونقشا على جدران الأحياء التي ارتبطت بها أسماؤهم، أكثر من شخصيات توفرت لها كل السبل لإنقاذ المحبوبة التي ذبلت إبان معاشرتهم لها، وشحبت وغذت في مفترق التاريخ، وفي زمن الطائرات المسيرة والفيسبوك تبحث عمن يلمع صورتها. وهي التي كانت إلى عقد قريب غاية في التأنق والجمال والأنفة والسخاء.
رودانة أو تارودانت أو فالا أو لك أن تقول فقط مدينة على ضفاف واد السوس، إنها حكاية عشق مهما جفونا وجفت. وذات يوم آت لابد أن تعود إلى سالف عهدها من المجد في صور أخرى تحاكي بالإيجاب لا بالسلب ما وصلت إليه المدن العالمية من تنظيم يحترم خصوصية التاريخ والجغرافية. إنني لا أحلم بعودة المياه إلى سواقيها فالسواقي قد كسرت واغتيلت، ولا الياقوت إلى أسوارها، ولا الذهب الإبريز لمدافنها، ولا مدافعها ولا المنازل الطينية المتراصة قديما في أحيائها.
ولكن أحلم أن تكون مدينة اللانهائية، في كل عصر تستبدل سحنتها مع الاحتفاظ بجوهرها المختبئ في زيها وتراثها المكتوب وطبخها ورموزها وأساطيرها.
إنني أريدها مدينة مغناج متمردة تأبى تسليم نفسَها إلا لمن يعرف قدرها ويحصن جسدها من الشيخوخة الناتجة عن الإهمال؛ كما أريدها أن تعترف بالفضل لكل من أحبها سرا ولم يهم بها جهرا، أولئك الذين لم يملكوا إلا أن يسيلوا مداد محابرهم ومآقي عيونهم عليها.
فهذه المدينة يا إخوان منذ أمد بعيد أسالت مداد مبدعين كان لهم الفضل في بعض من إشعاع المدينة الحضاري في العصر الحديث، وخصوصا في أواخر التسعينات ومطلع القرن الواحد والعشرين إلى حدود اللحظة، بعضهم اهتم بالقصيد فأصدر الدواوين وبرع وبعضهم بالمسرح والتمثيل فبصم وأمتع، وطائفة أخرى بالسماع والإنشاد، إلى جانب فلتات تشكيلية وأومضت بين السنوات حتى تمكنت من إقامة معارض محلية وجهوية ووطنية تعريفا بالمدينة وموروثها الحضاري. وتظل بين كل هذه الأنماط التعبيرية الكتابية والتصويرية التجارب السردية بوثقة انصهرت فيها رؤى شفافة للمدينة تمثلت نصوصا عكست صورة المدينة والأحق نظرة المبدعين لهذه المدينة.
إن هذه التجاربَ امتزج فيها الواقع بالتخييل، والكائن بالممكن وربما بالمستحيل، وشملت جل مناحي الحياة في تارودانت، بدءا بالشأن التربوي وما اعتراه من خرم وانتهاء بالمجال السياسي وما يعيشه من فوضى وعبث، كتب إبراهيم بوزاليم، التلميذ بالمعهد والمعلم في إحدى القرى على حد علمي، كتب عن الحرمان والاستغلال الجنسي في تارودانت، غامر وكتب، ونشر بمجهود فردي مستترا، كي يشيع أفكاره ويفضح العابثين، في زمن كانت فيه الرقابة سيفا يقطع أعناق الفاضحين، ولكن رودانة تجاهلت الأمر وسترت المجرمين، ألف روايتين الأولى رماد سوس والثانية مستنقعات سوس، هناك من وصم أحداثه بالمتخيلة وبالخزعبلات وبردة فعله على فشله وهناك من استند إلى أفعال رأس من رؤوس التربية والتعليم في ذلك الوقت. فصدق بوزاليم فيما قاله وما سكت عنه، وغير بعيد عن رحاب المعهد كتب الروائي والأستاذ ذي الجنسية الأردنية، سليمان القوابعة رواية شجرة الأركان سنة 1978 والتي فازت بجائزة الرواية العربية في ذات السنة، فقد جعل متن الحكي يدور في مدينة تارودانت بشخصياته، كالأب الحاج علال وزوجته مباركة وابنتهم رشيدة التي كانت متمردة على المجتمع الذكوري والتي استعار لها الكاتب شجرة الأركان الصلبة الصبورة ضد عوامل التعرية والفناء. وأيضاً كتب الأستاذ رحمان عباس العراقي الجنسية عدة نصوص سردية، والذي ظل وفيا لسنوات تدريسه بالمعهد، يقول في بداية قصته أسوار المنشورة ضمن مجموعته القصصية أوراق من يوميات حوذي والتي يروي فيها مجيئه لتارودانت بعدما فر من نظام صدام حسين، واصفا ما كانت عليه المدينة من أحوال اقتصادية واجتماعية:
” أكثر المدن التي مررت بها أو عشت فيها ظلت تسكنني. تارودانت واحدة من هذه المدن. أحاول أن أتقرب إلى روح هذه المدينة، من خلال قصة أو خاطرة أو أي شيء يجعلنا في تواصل روحي”.
هناك كتاب آخرون وثقوا قصصا للمدينة، نذكر منهم الكاتب والسيناريست علي الداه الذي اختص بأدب الهامش مركزا على أفضية وشخصيات رودانية خالصة في روايته “طابا نوار”، والأستاذ شكيب أريج في مجموعته مدينة تأكل أولادها، والتي رصد فيها العديد من الاختلالات في المدينة بطريقة سردية تعتمد التقطيع والتجزي، وفي مقدمتها ما يتخبط فيها مستشفى المختار السوسي من سوء الخدمات حينها ورداءتها، مما خلف تدمرا في صفوف الساكنة. كما أنه قدم لنا صورا مجتزأة عن فن الحلقة، وعن البطالة والحب المحظور في المدينة ودور السلطات في القمع وإجهاض لحظات السعادة، التي يحاول البعض اقتناصها وسط البؤس المنتشر. والمبدعة وداد معمار صاحبة رواية نساء بين متاهات السحر والمجهول التي انتقدت فيها تعاطي نساء المدينة للسحر والشعوذة كما دعت إلى التحرر من السلطة الذكورية للمجتمع، ورغم ما قد يقال عن أفكارها إلا أنها الرواية يحسب لها توثيق كثير من عادات النساء في اللباس والتزيين والمناسبات. والأستاذة زبيدة هرماس في مجموعتها القصصية ” كنز في تارودانت” التي نجحت فيها من تقريب القراء وخصوصا النشء من تراثهم، إذ برعت فيوصف أجواء المدينة وعاداتها وعمرانها وغناها، برصف كلمات وتراكيب يسيرة على القراء بمختلف طبقاتهم، كما وفقت في تعميم مؤلفها بثمن رمزي داخل المدينة.
ولا يفوتني في حديثي هذا الموجز عن المتن السردي في تارودانت الإشارة إلى تجربة الأستاذ الأديب محمد كروم الغنية، فمن خلال مؤلفاته القصصية التي تجاوزت أربعة أعمال، استطاع نسج حكايات اقتبسها من معيشه اليومي في المدينة ومن تلامذته أو زملاء عمله. كما أمتعنا مؤخرا بنشر يومياته على الفيسبوك التي سماها ” تارودانت كما عشتها” وقد بلغت المخطوطة التي أخبرني بها وأطلعني عليها ثلاثمائة صفحة من القطع الصغيرة. وقد تبنيت نشرها في إطار جمعيتنا مبدعي ابن سليمان الروداني إلا أن ظروفا وعقولا حالت دون ذلك. ولكن حلم ورغبة نشرها ما زال يراودني لاستفادة محبوبتي رودانة منها، وعرفانا لهذا الرجل الذي أعطى للمدينة الكثير رغم اختلافنا معه في أصول وفروع ومذاهب وفنون.
إن علينا أن نؤمن أن المدينة هي ما يتبقى بعدنا، كما تبقت بعد الكثيرين، ولذلك وجب إكرامها كإكرام الرجل أهله وعشيرته المقربين.
وأختم بما ختمت به رسالتي الأخيرة إلى محمد كروم والتي ضمها كتاب رسائل من زمن كورونا: ” إن لمدينتنا علينا حقا ولكن أكثر الناس لا يعقلون ولا يفقهون ولا يعون وللوطن كارهون، همهم الوحيد تسمين الأرصدة البنكية، واقتناء الأمتعة، والإكثار من النسوان والغلمان، والتفاخر بالرحلات والفيلات، وفي المجامع أخيرا يتبجحون بأنهم من خدام الدولة العلية، وأصحاب مواقف سنية. فاللهم دمر شملهم وأذهب ذكرهم واجعل حدهم محدودا، وسعيهم مكدودا، وحينهم مجلوبا، وعذابهم مصبوبا، في الدنيا والآخرة، إنك بكل شيء بصير وعلى فضحهم قدير. اللهم متعنا بالقليل مما أعطيتنا واحفظ علينا صحتنا وأهلنا، ولا تجعلنا من الذين يركضون ركض البهائم، المحبين للغنائم، الآكلين أموال الشعب واليتامى، والفقراء والآيامى. اللهم لا تحرمنا من لذة العلوم والفنون والشعر الموزون والنظر في وجهك يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
والحمد لله رب العالمين.”


* منير المنيري أستاذ التعليم الثانوي، خريج جامعة القرويين، ولد ونشأ وترعرع بتارودانت، له عدة مشاركات أدبية وإصدارين هما:
– رسائل من زمان كورونا
– أنيس النظار.


اكتشاف المزيد من azulpress.ma

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

التعليقات مغلقة.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. الموافقة قرائة المزيد

اكتشاف المزيد من azulpress.ma

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading