شكلت مدينة تارودانت عبر التاريخ القديم والحديث بموقها المتميز بين الأطلسين الكبير والصغير من الشمال والشرق والجنوب نقطة جدب مهمة لكثير من القوى الكبرى.
أولا باعتبارها كانت وإلى حدود نهاية خمسينات القرن الماضي المعبر الرئيسي لإفريقيا والصحراء. مما أهلها لتكون مركزا سياسيا واقتصاديا وثقافيا لكل الأنظمة السياسية التي مرت بالمنطقة الجنوبية وأحيانا بالمغرب ككل: المرابطين والسعديين والعلويين نمودجا ومن قبلهم الرومان.
وثانيا لوجودها في منطقة خصبة و بين نهرين كبيرين: وادي سوس من ناحية الجنوب والوادي الواعر من الشمال.
كان الأول إلى حدود نهاية سبعينيات القرن الماضي دائم الجريان، نسج حوله الأقدمون الكثير من الأساطير على اعتبار أن وادي سوس كان بمثابة النيل في مصر. إذ كانت جبال الأطلس مصدر غناه المائي ومصبه في المحيط الأطلسي قد ساهم في جعله طريقا مائيا نشيطاً.
يحكى أن القوارب التجارية كانت ترسو عند باب الزرݣان لتتزود بالسلع التجارية والمسافرين في اتجاه الإبحار نحو مدينة سانتا كروز الشاطئية.
في خضم هذه الحركة وهذا التميز الذي حضيت به مدينة تارودانت عبر العصور القديمة وإلى الأمس القريب، فقد كان لابد من بروز اتجاهات ثقافية وحرفية ومهنية وفنية متعددة قديما، استمرت حتى بعد مجيء الإسلام.
ومن أبرز هذه الفنون والحرف “نحت التماثيل المختلفة” التي كانت تلبي الاحتياجات العقائدية والدينية الوثنية لمختلف شرائح سكان المدينة وأحوازها والقادمين إليها أو العابرين منها.
هذه الحرفة أو الصنعة التي حافظت على استمراريتها بمدينة تارودانت بعد صمود دام لقرون هي اليوم تصارع وجودها كواحدة من الصنائع والحرف التي كان لها شأن عظيم يوما ما بالمدينة.
غير أن الأزمنة تغيرت والاحتياجات لها كذلك بمجيء الاسلام ودخول الناس أفواجا لدين التوحيد. الأمر الذي أثر على وظيفة هذه الحرفة لتنزوي إلى الركن بعدما كانت سيدة الصنائع.
وقد أشرت في مقالة سابقة أن وجود مثل هذه الحرف والصنائع الضاربة في التاريخ لدليل على عراقة المدن التي تحتضنها كمدينة تارودانت.
في جولة سياحية بأسواق مدينة تارودانت القديمة ،وفي سوق الخرازة بوسط المدينة الذي تتفرع منه عدة أزقة، يطالعك في الزنقة المؤدية للرحبة القديمة وجه أسمر بشوش لاتفارق الإبتسامة محياه كعادة أهل تارودانت المعروفين بالبشاشة وسرعة البديهة والفكاهة والمزاح لايتقاسمهم في ذلك إلا أهل مراكش بين سائر المدن المغربية.
إنه “العربي الهر” واحد من أمهر النحاتين المتفردين في صناعة النحت على انواع الحجر الذي يستخرجه من أماكن مختلفة بالمنطقة. والذي يعتبر اليوم آخر النحاتين بتارودانت والجنوب المغربي كله ،خاصة إذا علمنا أن حرفة النحت على الحجر لم تعد سائدة إلا ببعض المدن التي تعد على رؤوس الأصابع بالمغرب كله ومنها: الصويرة وآسفي وأكادير على سبيل المثال.
يؤكد لمعلم العربي الهر أنه تعلم هذه الصنعة منذ صغره من معلمين سابقين. وأن هذه الحرفة وإن كانت غير محببة لكثير من السكان باعتبارها تجسد حقبة دينية وثنية سابقة استكرهها الإسلام؛ هي لاتزال حرفة تقاوم الزمن وتصارع من أجل البقاء في أسواق مدينة تارودانت القديمة.
وفي قلب مشغل صغير مستطيل الشكل يجلس الصانع لمعلم العربي الهر في صدر مشغله مواجها للطريق محاطا بمختلف المنحوتات الجميلة من تماثيل و منحوتات للزينة أو التذكارات، لايمانع في أخذ صور لها أو معه وهو منهمك في عمله اليدوي. مما جعل محله مقصدا لمئات الزوار مغاربة وأجانب.
يؤكد لمعلم العربي الهر أن هذه الحرفة لازالت تقاوم من أجل الإستمرارية. ويتأسى لكون شباب اليوم غير مهتم بهذا الموروت وبهذه الصنائع التي تركها الأجداد؛ علما أن نحث التماثيل لايشكل إلا جزءا ضئيلا فيها حيث هناك منحوتات مختلفة تجسد مراحل تاريخية مهمة من حياة المغاربة عامة وسكان المنطقة بالخصوص.
وفي ختام زيارتنا لمحل لمعلم العربي كان ملتمسه أن يهتم المسؤولون بالمدينة بهذه الصنعة المهددة بالانقراض، وأن يساعدوا المشتغلين بها بتنظيم معارض لها للتعريف بها وترويجها محليا ووطنيا ودوليا.
- الاثنين 16 رمضان 1443ه//18ابريل 2022
التعليقات مغلقة.