بخصوص إيض يناير..

  • بقلم عبد الرحمان بلعياشي//

ارتبطت تسمية “إيض يناير” بطفولتي  بأسيف نتزگي نوزاليم على أقدام الأطلس الكبير الشامخ في جزئه الشمال الغربي بين ورزازات ومراكش. هذه الطفولة التي تحتفظ بكل ذكرياتها الجميلة وغير الجميلة. وعندنا نستحضرها في هذه السن، اكيد أن طعمها لذيذ ورائحتها عطرة، تعطي معنى خاص للحظة، إذ عادة ما نحاول أن نراها بأعين الطفولة البريئة وننتقي منها ما هو جميل وما كان يخلق سعادتنا آنذاك في محيط ربما الجو العام المحافظ  السائد فيها لم يكن  يساعد دائماً على ذلك، وكانت كل اللحظات الجميلة التي نسترقها تعبير عن تحدي وانتصار، فرحته لا تضاهيها أية فرحة.

لم تكن سني تساعدني على استيعاب جميع الممارسات أو قراءتها، ولم أكن أهتم بعد بذلك، ولم يخطر ببالي أبدا أنها غاية في الأهمية إلا عندما كبرت وبلغت من النضج مبلغا وخبرت بمغزاها  ورمزيتها، بفضل قراءاتي المتنوعة وتجاربي المختلفة من خلال المخالطة بالآخر والاطلاع على ممارساته الثقافية. فتولد لدي وعي ليس فقط بما كانت تعنيه ولا تزال وما كانت تحقق بالنسبة لممارسيها في تلك الأوقات، بل أيضا بأهمية الحفاظ عليها و صيانتها والعمل على الترويج لها لذى الجيل الجديد من الشباب، باعتبارها موروث تتشكل منه شخصيتنا ورصيد ثمين يعبر عن تجذرنا في الأرض وانسجامنا مع محيطنا البشري والطبيعي.

ارتبط إيض يناير بطفولتي إذن بكل حمولاتها وكنت أنتظر، كباقي أقراني وجميع ساكنة بلدتي والبلدات المجاورة،  حلوله بشوق لا نظير له، إذ يعتبر متنفسا وفرصة للهو واللعب والمرح والاحتفاء والاحتفال. كنت أتحسس حلوله من داخل تگمي/ الدار. لم أكن بعد أعرف بوجود التقاويم أيا كان نوعها. ولكن كان موعدا سنويا أنتظره كباقي أقراني بشوق كبير، لهذا كنا نترقب حلوله لما يحمله من لحظات سعادة ويخلقه من فسحة مرح. كنا ننتظره أيضا لأننا نتوق أن نتذوق من الأطباق الشهية كانت أمي وأخواتي ونساء البلدة تحضرنها خصيصا لهذه المناسبة.

وخوفا من أن تخونني ذاكرتي اضطررت إلى تنشيطها وإنعاشها وذلك بإجراء جلسة تذكر مع أمي وأخواتي وبناتهن، وكانت فرصة  لنستحضر جميعا تلك الأجواء الجميلة التي كان إيض يناير يخلقها لدى الجميع، صغارا وشبابا وشيبا. وما أراح بالي وأثلج صدري  أكثر هو بالخصوص ذلك الحماس الذي تسعى به أمي وأخواتي وبناتهن الذي تحكين به ما كن يقمن به بكل تلقائية وعفوية، ما ينم عن نوستالجيا لتلك الحقبة الجميلة.

بل وكان البعض يصحح للبعض الآخر ويذكره بجزئية أو معلومة أو حركة نسيها. وكانت النتيجة أن انتعشت ذاكرتنا وتأجج وهيجها بفعل ذلك الاندفاع والرغبة العارمة في استعادة طقوس إيض يناير التي كانت ساكنة البلدة والبلدات المجاورة تربطه بالسنة الفلاحية، وتعتبره بداية الموسم وكلها أمل في أن تكون سنة خيرات ومحاصيل وفيرة.

وأثناء هذه الجلسة العائلية المصغرة وقفنا عند مراحل الإحتفال بإيض يناير والأدوار والطقوس المتبعة في ذلك. تبدأ الفتيات بعملية تنظيف كبيرة لمرافق الدار الأكثر استعمالا، من تمصراي، أي غرف الجلوس اليومي والضيوف، وإحونا، أي غرف نوم الآباء والأبناء والتخزين، وغرف تخزين الحبوب بكل أنواعها ومواد غذائية أخرى من سكر وشاي وزين وسمن وعسل وغيرها، وغرف تكديس وتخزين مواد التدفئة من حطب وشوك لاستعمالها في ليالي البرد الطويلة، وفضاءات وضع وتخزين علف الأغنام والأبقار من كلإ وحشيش يابس وتبن ونباتات شتى يتم تجميعها وحملها على ظهور النساء، من الجبال المحيطة بالبلدة، وأمكنة أخرى توضع بها أدوات البناء والحرث والري والحصاد، وتوضع رهن إشارة كل سكان البلدة.

وينظفن أيضا أسمال، أي المطبخ التقليدي الأمازيغي وممرات الدار وباحاته وعتباتها، ويشتركن في  تشطيب وتقنية  أزقة الدوار وباحة المسجد في جو من البشاشة والسعادة. الحكمة في ذلك حسب الرواية الشفوية هو أن تدخل السنة الجديدة نظيفة نقية، وتترك وراءها أوساخ السنة المشرفة على الإنتهاء.

ومن بين الممنوعات التي لا يأتي على ذكرها أحد هي: إمگر أو المنجل، بل يجب إخفاؤه، وكذلك الشأن بالنسبة  للشرط أو أصغن، أي الحبال المستعملة في تثبيت البضائع والأمتعة على ظهر البغال والحمير أو حتى عل ظهر النساء، والتنقل بها من موضع إلى آخر في الحقول أو في الجبال، هذه الحبال تتحول في مخيلة الساكنة إلى تعابين سامة ومخيفة. كما لا يستحب ذكر تركمين تقبار، أي اللفت اليابس أو طهيه لأنه يتحول بعد ذلك إلى الفئران والجرذان مشمئزة وضارة، كما لا يجب ذكر تينيلتيت، أو العدس، كونه يرمز إلى حشرة إگوردان أو البراغيث، ربما للتشابه  بين شكليهما.

وتقوم النساء بتحضير الأكلة المحلية الخاصة بقدوم إيض يناير حيث يضعن في تاگدورت، وهي إناء طيني كبير،  لحم الدجاج البلدي المحلي أو لحم القديد وحبوب القمح والذرة منفصلة أو متبثة في عرناسها والفول اليابس وقطعة خشب وعظم ثمرة.

ويترك هذا الإناء الطيني الكبير على نار الفحم الهادئة الليل كله، وفي الصباح يتناوله أهل الدار ويتم اقتسامه مع الجيران والطالب أو الفقيه الذي يصلي بساكنة الدوار ويعلم أبناؤهم القراءة والكتابة ويحفظهم القرآن.

ويعتقد أن من عثر على القطعة الخشبية فسيصبح راعي الغنم، أما من وقعت يده وهو يأكل تاروايت أو تاگلا، يعني العصيدة، فسيعطى مفاتيح خزائن البيت اوالدوار كله. وبعد تاگلا يتم تحضير سكسو أو بداز، الأول باستعمال حبوب الشعير المحلي والثاني دقيق الذرة المحلية أيضا، ويسقى بمرق الجزر والقرع فقط أو بإحبان، أي المواد المستعملة في تحضير تاگلا.

وقبيل غروب شمس إيض يناير، يتم إضرام النار  من قبل النساء في الغالب في إخلالن وأشفود أي الشوك الذي ينتشر في الجبال المتاخمة للدواوير، وترى شرارتها  تتلألأ فيضيؤها ليعطيها رونقا خاصا تعلن عن احتفالية يقبل عليها الجميع بالبهجة والسرور.

وتدخل نساء الدواوير المتقابلة في سجال غنائي شعري يرددن فيه بعض العبارات فيها من التهكم ما يثير السخرية في جو من الدعابة والمرح، إذ أن هذه الدواوير تجمعها أواصر القرابة والدم والصداقة. تقول النساء اللواتي يسبقن في إشعال النار للنساء الأخريات وبصوت جد مرتفع حتى يسمعنهن في الضفة الأخرى من الوادي: فغ فغ آتمغارت نگر أسگاس، كشم كشم آتدا إروان، وهو فأل أو أمنية بأن تذهب سنة دون فائدة كبيرة وتحل محلها سنة كلها سخاء وعطاء وكرم وجود.  وكذلك أغنية مطلعها: نفكاياونت إگوردان ناغ د إركان ناغ، تعبيرا منهم عن تخلصهن من البراغيث ووسخه ووسخ السنة التي أوشكت على الانصرام.

بالموازاة يتم إشعال النار على عتبات البيوت وتقوم البهائم بالوثب عليها عند دخولها إلى مكانها ويسمى أدار، أي الاصطبل. وأثناء هذا تقف الفتيات في العتبات ماسكات أواني طينية أو خزفية صغيرة بعد أن حضرن فيها الحناء ويضعنه على ظهور الدواب عند الدخول.

وفي نفس الإتجاه يتم وضع أودي، او الزبدة البلدية في إناء معدني ويوضع مقدار منه في معلقة وتبيت تحت النجوم، وفي الصباح يكون قد تماسك ونبحث فيه عن إنزض، أي شعرة سميكة، إن كان للغنم فصاحبه سيرعى الغنم، أما إن كان شعرة البقر،  فعليه اقتناؤه وتربيته.

ويصاحب هذا احتفالية الأطفال  بطريقتهم وتراهم  يرتجلون كرنفالا ويجوبون أزقة الدوار ويطرقون أبواب البيوت للحصول على دريهمات أو ما تجود به النساء عليهم من سكر وحبوب شاي وبعض الفواكه الجافة وفي أحسن الحالات بديك بلدي سمين لإقامة وليمة جماعية بعد ذلك. وكأن كل هذه الطقوس وضعت لتعزيز وتقوية الأواصر بين الساكنة وتثمين الأنشطة القروية والتشجيع على الاعتناء بها والاستثمار فيها لما تجلبه من النفع على صاحبه.

مناسبة هذا الكلام هو ما نراه من مظاهر الاحتفال التي عمت جميع ربوع المملكة بمناسبة السنة الأمازيغية الجديدة  2975. أسگاس أمباركي فلاتون.

كل عام وأنتم بخير.


اكتشاف المزيد من azulpress.ma

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

التعليقات مغلقة.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. الموافقة قرائة المزيد

اكتشاف المزيد من azulpress.ma

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading