الوطن والمواطنة
الوطن والمواطنة كلمتين كثيرآ ما نكررهما ولكن يختلط علينا فهمها بل لا نعرف حتى المعنى الحقيقي لهما وبالذات في بلداننا الشمال أفريقية وذلك لسببين أساسيين هما:
1-التركيبة الإجتماعية لمجتمعاتنا التي ترزح تحت عقل من الماضي (ماضاوي) يتسم بالطابع البدوي والقبلي والعشائري المهيمن على مجتمعاتنا، وحتى وإن كان الكثير منا قد تعلم وتغلب على أمية القرآئة والكتابة التي تهيمن على نسبة عالية من أبناء شعوبنا .حتى وإن كان الكثير منا يعيش في مدن تبدو عصرية ونستخدم فيها كل سبل الحضارة المتوفرة من سيارات وكهرباء وتلفزيونات وكمپيوتورات …الخ هذا العقل الماضاوي الذي سيطر على عقولنا وعقول أجدادنا وأجداد أجدادنا وأصبحنا متكلسين وإستاتيكين في مواجهة الواقع المتغير الديناميكي..
2-ما قام به الإستعمار الحديث من تعميق وتثبيت فكر قومي “عروبي” كاذب متخلف في عقليتنا،هذا الذي أدى إلى تكليس وتحجير عقليتنا،حتى أنه جعلنا نسّبق الإنتماء القومي والديني الكاذب عن إنتمائنا الحقيقي الوطني عندما يستوجب ذكر هويتنا الوطنية.
فالعالم تداخل وتأثر فيما بينه بإثنياته وتركيباته الإجتماعية بثقافاتها المختلفة مشكلا أوطانآ وبتجارب ثقافية وتاريخية مختلفة ولا شك أنه كان هناك تأثير لهذه الجهات الإثنية والثقافية متفاوت بعضها على بعض وهكذا وجد هذا العالم.
غير أن قيام وحدوث عصر النهضة الأورپية وما لحقه من تغيرات غيرت من التركيبات الإجتماعية ليس فقط في أوروپا بل إنعكاس هذا على العالم خارج أوروپا؛وأقصد هنا الإكتشافات ليس فقط الجغرافية بل أيضآ وبأهمية أكثر العلمية وما تم إكتشافه في علوم الرياضيات والڤيزياء والكيمياء والطب وأخيرآ علم الفضاء وعلاقة كوكب الأرض بالكون والفضاء والذي أدى إلى وجود نظرة فلسفية جديدة للكون ونشأته؛ وبالذات بعد الحرب العالمية الثانية وما حدث في النصف الثاني من القرن العشرين …
ولاشك أن الأثر العميق الذي حدث في فرنسا وبالذات في أوروپا نتيجة لما حملته الثورة الفرنسية في بداياتها من المساواة بين الناس والإعتراف بحقوق الإنسان وتعريف الوطن والنداء به وبحقوق المواطنة لكل من ينتمي إليه،كان لهذا الأثر الدور الكبير في ظهور فكرة الوطن والمواطنة في إيطار العقد الإجتماعي (الدستور) وتطوير هذه الفكرة وإعطائها أبعاد تضم المواطنين ككل من إناث وذكور وشيوخ وأطفال وتطورت الفكرة أيضا لتشمل أحقية التعليم والصحة ولا محدودية للحرية أي حرية الفرد التي تحترم الآخر وتقف عند بدء حرية الآخر والإعتراف به وظهور حرية المعتقد كحق شخصي صرف وحرية الإنتماء السياسي…وبروز كلمة المواطنة بمعناها الذي يعني الإنتماء للوطن الذي يعيش فيه الإنسان والحقوق والواجبات التي يمليها مفهوم هذه الكلمة على كل المواطنين والمبنية على القوانين المستوحاة من الدستور (العقد الإجتماعي) وأصل كلمة مواطنة هي كلمة (Civitas) اللاتينية والتي تعني التمدن والتحضر…
غير أن الطمع (الفردي وحتى الجماعي) عند البرجوازية الأوروپية دفع بها إلى إمتلاك ثروات مناطق العالم الأخرى والتي كانت ماتزال تعيش في سبات التخلف الإجتماعي الذي كانت تسيره عقلية إنسان الغابة في الغابات الغنية وفي الثروات المعدنية الباطنية من معادن مختلفة ونفط وغاز سواء في افريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبية. وهكذا بدأء الإستعمار والغزو التجاري ووتحويل هذه المناطق إلى أسواق لتسويق المنتجات الأوروپية،ليس هذا فحسب بل موردا آساسيآ للمواد الخام و الرخيصة في هذه البلدان ليتم تصنيعها يتم تصديرها من جديد سواء لهذه البلدان أو حتى بلدان أخرى أوروپية أوإستبدالها ببضائع أخرى فيما بين البلدان الأوروپية الأخرى…
عمومآ وبالذات بعد بدء التململ وظهور حركات وطنية ضد الوجود الإستعماري الأجنبي والسيطرة التجارية على الأسواق في آسيا وأفريقيا وأمريكا الجنوبية وبالذات خلال القرن التاسع عشر في بلدان آسيا وأفريقيا وأميركا الجنوبية وكذلك ظهور حركات تنويرية تطرح النهوض بهذه المجتمعات وبالذات بعد رجوع الكثير ممن عاشوا في أوروپا لغرض الدراسة والتعليم وإطلاعهم وتأثرهم بالأفكار الثقافية والنظريات السياسية، إلى بلدانهم الأصلية، وكذلك معايشتهم وإحتكاكهم، لسنوات في هذه البلدان لأسلوب وتعرفهم على حقوق المواطنة والتي يعيشها المواطنون في أجواء ديمقراطية في مزاولة الحرية الشخصية
بشكل وبمفهوم حديث…بداؤا بعد رجوعهم في تشكيل تنظيماتهم السياسية والمنادية بالإستقلال والدخول في عجلة الحداثة.
غير أنه وللأسف أيضا بدأت البرجوازية الأوروپية المنتفعة بأطروحات متخلفة تحارب إتجاه الحركات الوطنية النامية وبدأت تَخَلق الإتجاهات التي ستقف عقبة في وجه النهضة الحداثية في هذه البلدان ،فثارة تركز على الموروث والإنتماء الديني وثارة أخرى تركز على الإنتماء القومي الزائف وثارة على الإنتمائين مستغلة العواطف والروابط الإجتماعية المختلفة والمسيطرة على سكان هذه المناطق وبالذات في منطقتي الشرق الأوسط والشمال الأفريقي وبحكم موقع هذه المناطق الجغرافي الملاصق لأوروپا وخاصة بعد إزدياد ظهور النفط والغاز الطبيعي بها والذي أصبِح موردأساسيآ للطاقة في أوروپا.
فركزوا على الجانب الديني “الإسلامي” ظاهريآ ودفعوا بجماعة “الإخوان المسلمين” والتي لا تؤمن بالوطنية والإنتماء الوطني كهوية بل تؤمن فقط بالهوية والإنتماء الإسلامي لكل المسلمين…!!!! وكذلك دفعوا بالتيار القومي العروبي “الكاذب” والذي هو أيضآ تيار كاذب ولا يؤمن بالوطن ولا بحق المواطن بل ينادي بالقومية العروبية؛ وكلا التيارين ينادي بالأمة (هذه الكلمة التي ليس لها تعريف واضح وصريح) سواء الأمة الإسلامية أو الأمة العربية ومحاربة أي إتجاه حداثي علماني يعترف وينادي بالوطن والمواطنة …وغذت هذه التيارات التي أصبحت وبالذات في بلدان الشرق الأوسط والشمال الأفريقي مسيطرة على الفكر السياسي وبالذات بعد إنتهاء الحرب العالمية الثانية هذه الفترة التي ظهرت فيها الإنقلابات العسكرية وسيطرة العساكر ذوي الفكر الأحادي وفرض القوة وإعطاء الأوامر.
وحتى التنظيمات التي إدعت أنها تبنت الفكر الماركسي اللينيني وحاولت الوقوف ضدالإتجاهات القومية نسبيآ وعارضت الإتجاهات الإسلامية بكل ما لديها من قوة نجد أنها وقعت في أخطاء التطبيق؛ فهي بالرغم من إدعائها تبني هذا الفكر غير أنها في تطبيقها وممارستها كتنظيمات كانت تتخد الأسلوب الذي تبنته التنظيمات الإسلامية والقومية العروبية،ليس هذا فحسب بل نجد أن تطبيقهاالنظري كان بعيدآ كل البعد عن المادية الديالكتيكية ولم تتبنى البعد النسبي للفكر الماركسي اللينيني و دخلت في دوامة وإضطراب التبعية الدينية فكانت موسكو مرجع لكثير من الأحزاب الشيوعية وكانوا يتعاملون مع الماركسية الليلينية كما يتعاملون مع “دين” جديد ولم يفهموا أن الماركسية هي فلسفة ونظرية إقتصادية وإجتماعية وتعتمد التحليل الديالكتيكي للتاريخ.وأعتبرت الكثير من هذه الأحزاب أن التطبيق الصحيح للنظرية الماركسية هو التبعية لموسكو عاصمة الإتحاد السوڤياتي، ولم تتفهم هذه الأحزاب البعد الوطني لإوطانهم في الممارسة والنضال الحزبي…بل كان كثيرآ ما ينشب الصراع بينهم وإتهامهم لبعضهم البعض بتبني ما سمي بخط” ستالين” أو خط “تروتسكي” والذي كان يعكس واقعآ حزبيآ يخص الحزب الشيوعي السوڤياتي وغيرهم مثل خط الإتحاد السوڤياتي والخط الماوي الصيني وكان كلا الخطين يبرز خلافات وطنية تخص الإتحاد السوڤياتي والصين ولا تخص قضايا الوطنية والمواطنة لمنطقتي الشرق الأوسط والشمال الأفريقي وسأتعرض لهذا الموضوع في مقال منفصل لاحق..
وما وددت أن أقوله هو أن هذه التنظيمات كلها(الإسلامية والقومية العروبية والماركسية) لم تكن لها رؤيا وطنية تسعى لتعميق النضال الوطني لتكوين الوطن الحديث الذي يتبنى إعطاء حقوق المواطنة لجميع المواطنين وبدون إستثناء من الإناث والذكور، والإعتراف بالفسيفساء الإثنية وثقافاتها المختلفة والمتنوعة وحرية الإنتماء الفكري والسياسي فالإسلاميون والقوميون ينطلقون من نظرية المؤامرة والتآمر ويصنفون كل من لا ينادي بالقومية العروبية وعروبة المنطقة وأن الإسلام هو دينها بالخائن والعميل .وهذا أدى إلى إبتعاد هذه الأحزاب المتنوعة عن القاعدة الشعبية وقلة إنتماء وإقتناع الشعوب بها وأتاح الفرصة أمام الدوائر الإستخباراتية العالمية المجندة لخدمة أجندات لخدمة بلدانها للسيطرة على السوق العالمية وتحقيق مصالحها في تجنيد العملاء لتسهيل سيطرتها سواء أحيانآ بالإنتخابات الزائفة والمغلفة بالديمقراطية الكاذبة وأحيانآ أخرى بالإنقلابات العسكرية وعسكرة هذه البلدان …!!!
وكان أحد الأسباب التي أدت إلى عدم إستيعاب مفهوم الوطن الذي ظهر في أوروپا من الكثير من مثقفي وسياسي الشرق الأوسط والشمال الأفريقي (سواء على الصعيد الفردي أو الحزبي) هو تحجرهم الفكري وبقائهم تحت الستاتيكية الفكرية الموروثة في هذه المجتمعات والنابعة من الأحادية في التفكير .فنجد أن معظمهم كانوا سجناء الفكر الأحادي السائد والذي كان متأسلمآ (نتيجة للتاريخ الإسلامي وليس للإسلام،حيث أن الإسلام دين روحي يحدد العلاقة بين الإنسان والخالق ويطلب من الإنسان تطبيق طقوس دينية معينة بينما التاريخ الإسلامي كان قد تعرض للكثير من التفسيرات التي أملتها ظروف سياسية مختلفة ومعينة إما لإسترضاء الحكام المسلمين أوكسب مواقع في ظروف سياسية معينة لمجموعات ذات أثر لها في السلطة) أو قوميآ عروبيآ والتي تبنت الأحادية الإثنية وأنكرت الفسيفساء الثقافية للمكونات الأصلية الإجتماعية المختلفة ،وكذلك بالنسبة للتنظيمات ذات الطابع الماركسي التي لم تفلح في التخلص من إرث الأحادية الفكرية وتبنوا النظريات التي إعتقدوا أنهم تبنوها بل هم عاملوها كأديان وعبادة.
إن لكل وطن قطعة أرض مربوط بحدودها الجغرافية المحددة وله ثقافة وعادات وتقاليد نابعة من تجارب تاريخية تشربها وتعرض لها في تاريخ أرضه منذ بداية نشوئه ومرورآ بتجاربه السياسية المختلفة، ولا تشكل فترة تاريخية معينة وبالذات الواردة الصبغة والطابع الذي يجب على الوطن إتخادها كهوية وإنتماء.
هذا الوطن يجب الذي يعترف بكل مواطنيه وبحقوقهم التاريخية والثقافية وحرية الشخص الكامل كان أنثى أو ذكر وبدون التمييز الإثني أو لون البشرة أو العبادة ويكون الإنتماء أو الهوية للوطن فقط وبدون لإنغلاق على ثقافة معينة أو تمييز أو أولوية لدين على الآخر أو عرق على الآخر ولا شك بدون أولوية للغة على أخرى .
الثقافات تتداخل فيما بينها وليس هناك ثقافة لم تأخد ولم تعطي من وإلى الثقافات الأخرى التي إحتكت بها سواء جغرافيآ أو تاريخيآ.فلننظر إلى ما تركه الإغريق والرومان الأوروپيين والصينيين والهنود الآسيويون والمسلمين من كل الأصقاع من ثقافات وأثرهم في الحضارة الإنسانية جمعاء …أثرت الثقافات الإنسانية المختلفة بفلسفاتها وأدابها ولغاتها المختلفة الحضارة الإنسانية لتخلق ما وصلت إليه الإنسانية اليوم من واقع وطني جديد جعل العالم ليس أكثر من قرية صغيرة وفي هذه القرية تتواجد الأوطان بكل خصوصياتها الثقافية التي تحتفظ بالمواطنة وما للمواطن من حق وما عليه من واجبات.
محمد شنيب
طرابلس 25.01.20
التعليقات مغلقة.