الهبّة الفلسطينية والشرق الأوسط الجديد

أزول بريس - حسن أزريد //

تعصف الهبّة الفلسطينية التي بدأت من باب العمود بالمسجد الأقصى وحي الشيخ جراح بالقدس في شهر رمضان بكثير من الرؤى التي كان يبدو جلياً لكل نظرة موضوعية تهافتها.

فرضت إسرائيل نظرتها التي وجدت الرعاية من قِبل الرئيس الأمريكي السابق ترمب، بنقل الولايات المتحدة سفارتها إلى القدس، وطرحت “صفقة القرن”، التي اقتضمت أجزاء واسعة من الضفة الغربية، ومنحت إسرائيل سيادتها على المستوطنات بها، وبالنهاية قدمت عرضاً لكيان غير قابل للحياة، وحولت قضية إلى صفقة، وضغطت على الدول العربية من أجل التطبيع في إطار اتفاق أبراهام الذي رعته الولايات المتحدة.

لم يكن هناك وضع أسوأ بالنسبة للفلسطينيين كالذي ساد قبل هبّة القدس، فقد سقط النظام العربي، ولم يعد للفلسطينيين ظهر يحتمون به، وتغيير سلم أولويات الأنظمة العربية، التي هي مهووسة بأمنها الداخلي، وأصبحت تبعاً لذلك تنظر إلى إسرائيل كشريك، أمام تهديدات مشتركة.

وعرفت القيادة الفلسطينية تشرذماً أضر بالقضية الفلسطينية. أما الشعوب العربية، التي تربط انعتاقها بالقضية الفلسطينية، وترى في الأمرين تلازماً، فقد انكفأت على نفسها، بعد انتكاسة الربيع العربي، واستقواء القبضة الأمنية.

ليست هبّة أهل حي الشيخ جراح انتفاضة فقط ضد قرار جائر لإخلائهم من مساكنهم، ولكن هي إعادة القضية الفلسطينية إلى الصدارة، وطرحها في جوهرها، لشعب يرزح تحت الاحتلال والتهجير والبطش، وتصحيح الرؤية المغرضة التي أرادت أن تجعل من قضية عادلة، ذات أبعاد تاريخية وحضارية وإنسانية، مجرد نزاع عقاري.

تعيد الهبّة عقارب الساعة إلى حيث ينبغي. ولم يجرِ ذلك باستقواء من قوة عالمية أو إقليمية، بل من قوة نضال الشعب الفلسطيني واستماتته، في القدس وغزة والضفة. تدق الهبّة الإسفين على نظام عربي منهار، وتعري عجز الأنظمة العربية وتآكل “الجامعة” العربية، وتجعل صفقة القرن متجاوزَة، أو حسب التعبير الذي سبق أن استعمله الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات بالفرنسية عن ميثاق منظمة التحرير الفلسطينية في معهد العالم العربي بباريس Caduque فكذلك “الصفقة” أصبحت في ظل التطورات الأخيرة Caduque عفا عليها الزمان.

تعود القضية الفلسطينية بعد هبة الأقصى إلى واجهة الأحداث، رغم التعتيم الإعلامي الغربي، ورغم البيانات المتذبذبة للدول الغربية، ورغم الموقف الأمريكي المتخاذل في ظل إدارة جديدة، كان يتوقع أن تكون أكثر ميلاً لدواعي الحق والإنصاف من سابقتها.

تعود القضية الفلسطينية مثلما عادت بفضل أطفال الحجارة في 1988، وانتفاضة الشعب الفلسطيني في الوقت الذي حسبت فيه القيادات الأمنية الإسرائيلية أنها انتهت من “صداع” الفلسطينيين بعد إخلاء منظمة التحرير من بيروت، و نأيها عن مجرى الأحداث.

ليست هبّة أهل حي الشيخ جراح انتفاضة فقط ضد قرار جائر لإخلائهم من مساكنهم، ولكن هي إعادة القضية الفلسطينية إلى الصدارة.

حسن أورريد

يظهر جلياً بعد هبّة القدس أن القضية الفلسطينية لا تُختزل في قيادة، ولا في نظام عربي، وأن الذين راهنوا على تآكل القيادة، وتحلل النظام العربي، مخطئون، وأن هناك رقماً في المعادلة لا يمكن تجاهله أو القفز عليه، وهو الشعب الفلسطيني الذي لا يزال ينبض بالحياة.

من العسير التكهن بمآل الأمور، أمام وضع يتسم باختلال صارخ لموازين القوى، بين قوات أمنية وعسكرية مدججة بأعتى الأسلحة، وشعب أعزل، ولكن القوة لم تكن العنصر الحاسم، عبر التاريخ، أمام استماتة الشعوب.

وقد سبق للشعب الفلسطيني أن كسر المعادلة في الانتفاضة، حينما وقف العالم على أطفال يصمدون أمام مدرعات، و يواجهونها بالحجارة.

واليوم يشاهد العالم كيف أن قوات الأمن الإسرائيلية واجهت عزلاً، وانتهكت حرمة المسجد الأقصى، وفتنت المصلين، وقذفتهم بالقذائف المطاطية وبالقنابل المسيلة للدموع، والمياه العادمة في مكان مقدس، وشهر مقدس، بالنسبة للمسلمين.

من شأن التطورات الأخيرة، أن تضع الدول العربية المُطبعة في حرج، إذ تُعري ازدواجية خطابها في التطبيع و”الدفاع” عن الشعب الفلسطيني، وتضعها في تنافر مع شعوبها، وبخاصة بعد انتهاك حرمة المسجد الأقصى في شهر رمضان.

تظهر التطورات الأخيرة، التلازم ما بين بعض الأنظمة العربية وإسرائيل، مثلما أعرب عن ذلك نتنياهو، وما بين الشعوب العربية والقضية الفلسطينية.

الشعوب العربية التي استشعرت الخيبة بعد انتكاسة الربيع العربي، وتغول الأنظمة البوليسية، وركنت إلى الصمت، لسوف تجد ذخيرة في هبة الشعب الفلسطيني. لسوف تبلغ تموجات الهبة أرجاء العالم العربي. لسوف تعطي العنفوان لجذوة الغضب الكامنة. نكوص النظام العربي وتواطؤ نظام مبارك مع إسرائيل، أثناء هجومها على غزة في شتاء 2008- 2009، هو من العوامل الأساسية التي ألهبت الربيع العربي.

إلا أن تطورات الأحداث الأخيرة في القدس، تعطي لهَبة الشعب الفلسطيني بُعداً يتجاوز العالم العربي، إلى العالم الإسلامي، بالنظر إلى طبيعة القدس، أولى القبلتين، وثالث الحرمين.

معالم شرق أوسط جديد ترتسم في الأفق، غير ما رسم له أصحاب الواقعية والبرغماتية.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. الموافقة قرائة المزيد