“شيطان النظرية..الأدب والحس المشترك” ترجمة د.حسن الطالب
الناقد الدكتور سعيد يقطين
كتاب ” شيطان النظرية: الأدب والحس المشترك” للباحث والمنظر الأدبي الفرنسي أنطوان كومبانيون
يحتل كتاب “شيطان النظرية: الأدب والحس المشترك” لأنطوان كومبانيون موقعا هاما في تاريخ الفكر الأدبي المعاصر ليس في فرنسا فقط بل على المستوى العالمي.
يكمن ذلك في كونه جاء في مرحلة مفصلية من تطور النظرية الأدبية، ووصولها إلى لحظة جديدة تستدعي إعادة النظر والقراءة. والكتاب ظهر في أواخر القرن العشرين (1998) أي في الوقت الذي بدأت تتعالى فيه أصوات من مختلف بقاع العالم الأدبي معلنة ضرورة التوقف وطرح السؤال حول واقع النظرية الأدبية ومستقبلها.
وقفت على جزء من هذا النقاش في كتابي “الفكر الأدبي العربي: البنيات والأنساق” (2014). تعددت الآراء وتباينت المواقف، وكان لهذا الكتاب أثره في تقديم صورة أخرى لذلك النقاش. يعود السبب في ذلك في رأيي إلى اعتبارين اثنين:
أولهما أن كوميانيون تلقى تكوينه الأدبي في عز المرحلة البنيوية الفرنسية التي برز فيها أعلام عمالقة ساهموا جميعا في إبدال معرفي جديد، وأنه بدأ الإنتاج ومرحلة ما بعد البنيوية قيد التشكل دون أن تكون قادرة على فرز علم واحد من مستوى البنيويين الكبار.
وثانيا أنه على عكس الكثير من الفرنسيين انفتح بشكل كبير على الثقافة الأنجلو أمريكية ففتح بذلك نافذة جديدة جعلته متميزا في معاينته واقع التحولات بالمقارنة بين ما يجري في فرنسا، ويقع خارجها. ولقد مكنته موسوعيته من الإحاطة والشمول في تناول قضايا النظرية والمنهج وما يتصل بهما نظريا وتطبيقيا، قديما وحديثا.
لقد اجتمع في كوميانيون العالِم الذي يؤمن بالاختصاص، والناقد المنفتح على القضايا النظرية، والمُدرِّس الذي يتصل مع طلبته بمناهجها وتطبيقاتها. فاهتم بتحليل أعمال مفردة لكتاب بارزين، واعتنى بالنظرية الأدبية في التاريخ، كما انشغل بالتحقيق والتأريخ للأدب والنقد والثقافة وبالحداثة وما يناقضها.
وإذا كان الانتقال من البنيوية إلى ما بعدها انتقالا من الاختصاص إلى تعدد الاختصاصات وتداخلها، كانت اجتهادات الباحث وليدة هذه المرحلة المفصلية. ومن هنا تأتي قيمة هذا الكتاب في تاريخ الفكر الأدبي العالمي. إنه قراءة نقدية وإبستيمولوجية للنظرية الأدبية في تشكلها وتطورها، وهي تختلف في شموليتها وإحاطتها بقضايا الأدب عن الكثير من الدراسات التقييمية التي اهتمت بهذه المرحلة.
في كتاب “قضية اختصاص” (2013)، وهو عبارة عن حوارات أجراها معه جان بابتيست أماديو، يبين أنه في مختلف كتاباته كانت بوصلته هي الفيلولوجيا باعتبارها الاختصاص العلمي الذي مكنه من الإحاطة والشمول لأن اللغة هي ركيزة مختلف الإنتاجات النظرية والإبداعية. يطرح الكتاب أسئلة مهمة حول النظرية الأدبية، ويميزها عن نظرية الأدب، وتاريخها، وجغرافيتها، ويناقش انحسار النظرية في فرنسا معلنا تخلفها عما تعرفه بعض الدول، وخاصة أمريكا وبعض البلدان الأوربية بذهابه إلى هيمنة المدرسية في تحليل النصوص وتحولها إلى قواعد للتطبيق لضمان نجاح التلميذ والطالب.
هذه الفكرة طرحها الكثيرون في فرنسا. لكني أرى أن “النظرية الفرنسية” متطورة أبدا، وهي متقدمة في رأيي على ما ذكره متصلا بأقطار أخرى. وآية ذلك أن السرديات ما بعد الكلاسيكية التي تفرضها نفسها اليوم عالميا ما كان لها لتتحقق لولا المدرسة الفرنسية. أما مشكل البعد المدرسي فأرى أنه ليس المشكل الحقيقي. فالنظرية الأدبية إذا لم تنتقل من المناخ الأكاديمي التي تكونت في نطاقه لتصبح جزءا من الثقافة العامة لدى القارئ العادي والتلميذ والطالب تظل نخبوية ولا قيمة لها.
إن المشكل الحقيقي، في رأيي، هو في عدم تغيير المقررات الدراسية واستمرارها مدة طويلة تجعلها متأخرة عن جديد التطورات التي تتحقق نظريا. وهذا هو سبب هيمنة “الحس المشترك”.
توقفت أمام هذه النقطة في تحليل كومبانيون لأني أراها تتصل أكثر بواقع الدراسة الأدبية العربية التي يسود فيها الحس المشترك، ولا يُعطى للنظرية أي اعتبار سواء على مستوى الوعي أو الممارسة. فالناقد العربي يوظف مصطلحات ومفاهيم، أو نتائج اجتهادات تشكلت في إطار نظريات دون أن يتمثلها أو يتعرف على خلفياتها الإبستيمولوجية أو مقاصدها، فيوظفها على أنها مناهج ونظريات بطريقة “مدرسية” لا روح فيها ولا ذاتية.
ومتى برز أن تلك التطبيقات الآلية قد هيمنت لدى الناقد والأكاديمي والطالب، وساد الاجترار والتكرار، اعتبرت “النظريات” التي اشتغل بها هي المسؤولة فيكون الالتفات إلى جديد ما يبزغ من نظريات غربية، وهكذا دواليك.
لقد قام كومبانيون بنزع الهالة شبه الأسطورية عن النظرية، وكل ما يتصل بها، من أجل قراءتها من منظور جديد نقدي وإبستيمولوجي، بهدف جعلها قادرة على استردادها هالتها على النحو الملائم. إننا نراه يقدم تصورا متكاملا يغيب عن معظم المشتغلين بالأدب في ثقافتنا.
ولذلك أعتبر ترجمة هذا الأثر إلى العربية مطلبا ضروريا لتجاوز الرؤيات السلبية حول الاختصاص والنظرية، ومدخلا لفتح نقاش حقيقي حول الأدب والنظرية والمنهج يتجاوز ما اشتغلنا به ردحا طويلا من الدهر دون أن يكون لنا أي موقع أو مشاركة في ما يجري في العالم من حولنا.
تحقق هذا المطلب من خلال إقدام حسن الطالب على ترجمة هذا الكتاب. وحين تسند الأمور إلى أهلها في ثقافتنا لا يمكننا إلا أن نبتهج للنتائج المتوخاة.
فالدكتور حسن الطالب باحث أكاديمي متمكن، وله خبرة طويلة في البحث الجاد، والمواكبة الدائمة والاطلاع الواسع على المستجدات. بالإضافة إلى أنه أستاذ يشتغل بالنظرية والتطبيق، وله تصور متكامل حول ما يمكننا الاضطلاع به لانتقال تدريسنا للأدب ودراسته إلى المستوى العالمي. هذا الجانب المعرفي الذي يتميز به يجعل إقدامه على الترجمة التي اختارها، جزءا من ممارسته، لفتح نافذة حقيقة على الآخر، ينبع من رغبة أكيدة في تطوير وعينا الأدبي. وما اختياره لما يترجم سوى دليل على ذلك.
كما أن الجهد الذي يبذله في الترجمة لا يمكن أن يقوم به إلا من له معرفة بالمجال الذي يترجم منه، وهو به خبير.
أقرأ ترجمات الدكتور حسن الطالب، وأنا مطمئن إلى أنني أمام علم من أعلام المدرسة المغربية في الترجمة التي تتميز عن غيرها بجمعها بين خلتين: المعرفة بالموضوع المترجم وخصوصياته، والقدرة على جعل النص المترجم، وكأنه كتب بالعربية.
تبدو لنا هذه القدرة وتلك المعرفة في المقدمة التي دبجها الدكتور حسن الطالب لكتابه هذا، فإذا بنا أمام عالم له رؤية، وتصور، ودراية وموقف، لا فرق لديه بين التأليف والترجمة. إنهما من معين واحد ينشد الدقة والعلمية، والانفتاح على الآخر، لفتح منافذ ونوافذ جديدة للتفكير وإعمال النظر بهدف تطور الوعي والممارسة العربيين.
هل لي أن أقول إنه كتاب جدير بالقراءة؟ أكثر من ذلك أقول: إنه قمين بجعلنا نقرأ بتمعن، ونناقش بهدوء، ويدفع بنا إلى التفكير بمنأى عن الحس العربي المشترك السائد والمهيمن.
سعيد يقطين
تمارة في 14 غشت 2021
التعليقات مغلقة.