إعداد: حيات زنيك
بجبال الأطلس والريف، وفي مناطق معزولة، يعيش الأمازيغ على هامش التاريخ، غرباء في وطنهم، منسيون فيما يسمى المغرب غير النافع، وكأن يدا خفية تفرض على المناطق الأمازيغية من حيث لا تشعر الإقصاء والتهميش والعزلة، وتساهم في طمس البنيات التقليدية التي ترتبط بها الأمازيغية كلغة وثقافة وهوية.
الشبه المدرسة
كانت الرحلة شاقة، لدرجة أننا كنا نضطر في كثير من الأحيان للمبيت بالدواوير النائية، ولعل أهم منظر أثار انتباهنا “الشبه مدارس”، إذ كنا نشاهد في طريقنا قسم أو قسمين بسفح جبل، على منبسط هضبة أو على مقربة من طريق ثانوية…إلخ.
فضول كبير دفعنا لمعرفة طريقة التدريس بالشبه مدارس، فتوقفنا بضواحي خنيفرة قرب قسم بمنحدر، كان عبارة عن حجرة مستطيلة الشكل منتصبة بالخلاء، نصفه خصص للدراسة والنصف الآخر استغله المعلم مسكنا له.
ما إن اقتربنا من مربي الأجيال، حتى تملكه الخجل، لكونه كان يظن أن لا أحد سيرى وضعيته غير الجبال، إذ كان منزويا بركن من القسم، والحزن باد على محياه والحالة توحي بالتذمر وانكسار الخاطر، والقسم عبارة عن خراب، يضم كافة المستويات؛ من الأول ابتدائي إلى السادس منه ومن كل مستوى تلميذ أوتلميذين، والتلاميذ محسوبين على رؤوس الأصابع، تعود بنا حالتهم إلى العصور الجاهلية الأولى.
منفيون مع الأمازيغ
قال المدرس المنفي بالمغرب الغير النافع، “إن التلاميذ يتغيبون؛ خصوصا في فصل الشتاء، بحكم قساوة الطبيعة، والأغلبية تنقطع عن الدراسة بسبب عدم فهم اللغة، فاللغة الأم أمازيغية، لذلك فالتواصل بيني وبينهم منعدم، لاسيما أنني لم أتلق أي تكوين في اللغة الأمازيغية وتقاليد وأعراف المنطقة”.
حيثما حللنا وارتحلنا، نجد تلميذ أو تلميذين بالقسم، فلا تكاد تمر سوى الأشهر الأولى عن الدخول المدرسي حسب تصريحات المعلمين المنفيين، حتى تصبح الشبه مدرسة فارغة، تعشعش فوق جدرانها الطيور، ويردد بساحتها النشيد الوطني صوت الرياح.
فالأطفال الأمازيغ بحكم التهميش، لا يعرفون إسم الوطن، ولا لون العلم، ولم يروا بحياتهم المدينة، ولم يشاهد الكثير منهم التلفزة إلا الفتيات اللواتي اشتغلن خادمات في البيوت، علما أن الثقافة الأمازيغية والموروث الأمازيغي غني بالمعارف التي يجب أن يتعلمها الطفل منذ الصغر، ليتشبع بالمبادئ الأمازيغية الصحيحة.
بين الجمال والقساوة
كانت المناطق التي مررنا بها تميز بين تضاريس متنوعة، شكلت لوحة فنية رائعة، وكنا بين الفينة والأخرى نتوقف لنتأمل جمال الطبيعة هنا وهناك، فتارة تجد الحقول منتشرة في شكل هندسي منتظم وكأنما رسمتها يد فنان، وتارة أخرى تجد الهضاب مكسوة بأشكال الأزهار والورود والأشجار ومختلف النباتات العشبية، وأحيانا يخيل إلينا أننا وسط صحراء جرداء، حيث لا ترى سوى الصخور والأحجار والمسالك الوعرة، وكنا من وقت لآخر نتأمل ما جادت به الأرض المعطاء.
وعلى العموم كانت أغلب الطرق التي قطعناها غير معبدة، والمعبدة منها تآكلت واهترأت، وفي دواوير كثيرة؛ أحدث السكان قناطر مصنوعة من خشب أومن شبابيك حديدية، لفك العزلة المفروضة عليهم، إذ تراهم يقطعون الوادي من ضفة إلى الضفة الأخرى ببطء والخوف يتملكهم؛ مخاطرين بأنفسهم، أو يسلكون مسالك وعرة صعبة الاختراق، إلا للمولوع بعشق المكان الذي يختزل الكثير لدى السكان المحليين، لذلك فضلنا السير ببطء، لضمان سلامتنا ولدراسة الحياة بهذه المناطق بدقة متناهية.
خارج التغطية
وجوه شاحبة، ملابس تعكس حياة الفقر والحاجة، تلك هي الحالة التي كان عليها أغلب ساكنة المناطق الجبلية، يقول معظمهم إن السكان يعتمدون على النشاط الفلاحي 90℅، إلا أن الإنتاج الفلاحي بالمنطقة جد ضعيف، مما يؤثر على السلوك الغذائي والاستهلاكي للسكان، ويعزى التراجع في الإنتاج على حد تعبيرهم، لتوالي سنوات الجفاف، خاصة أن الزراعة تعتمد على التساقطات المطرية وعلى وسائل الإنتاج التقليدية، كما أن تربية المواشي أصبحت تثقل كاهل الفلاح، نظرا لتراجع المراعي وتوالي سنوات الجفاف وعدم العناية البيطرية والعلفية، ومحاصرة سكان الجبال بالمحميات الطبيعية، كما أن مداخيل التعاونيات الفلاحية التي كان للمعهد الملكي يد في إنشاءها تبقى ضعيفة، لغياب الاستغلال الأمثل للمؤهلات الطبيعية، وانعدام الخبرة في مجال التسويق وضعف الإمكانيات المادية… إنهم مجتمع يواجه قساوة التهميش والإقصاء الممنهجين، فلا ماء، لا كهرباء، لا مستشفيات، لا عقد زواج، لا حالة مدنية ولا هوية… مواطنون خارج التغطية.
التفاتة ملكية
بالرغم من مناهضة جهات في مراكز القرار للأمازيغية، جاء قرار صاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله وأيده فوق كل القرارات، وذلك بالإعلان عن إحداث المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، كاعتراف بالحضارة الأمازيغية العريقة وبالأصول المغربية الضاربة جذورها في العمق الأمازيغي.
ومنذ إحداث هذه المؤسسة الملكية، عمل الساهرون على تسييرها على ترسيخ دعائم التراث الأمازيغي الأصيل، من خلال البوادر المحفزة التي يقوم بها لصالح الجمعيات والباحثين والمبدعين والمهتمين بالشأن الأمازيغي، إضافة إلى تكوين الصحافيين الأمازيغ، كما ساهم المعهد بشكل كبير في خلق انفتاح ثقافي، كان له الأثر الإيجابي على المجتمع المغربي، حيث غزت منتوجات الصناعة التقليدية التي تصنع بالمناطق الأمازيغية أوروبا وأمريكا، نظرا لقيمتها وجودتها العالية، كما أصبح للأمازيغية صدى عالمي بفضل اهتمام الباحثين بالمعهد بالفولكلور الأمازيغي، عن طريق جمع وتدوين الأغاني والأشعار والحكايات الشفاهية الأمازيغية، وإشراك الفنانين الأمازيغ في مهرجانات وطنية ودولية، إضافة إلى الإبداع في المسرح والسينما والرسم والكتابات الأدبية والنقدية وغيرها.
إلا أن مجموعة من الإكراهات لا تزال تقف حجر عثرة في طريق النهوض بالأمازيغية، إذ لم تتخذ أية إجراءات ملموسة لإنعاشها بأساليب عصرية، حيث تم استبعاد المناطق الآهلة بالأمازيغ من الركب التنموي، بسبب تهميش السلطة للغة والثقافة الأمازيغيتين، ومحاصرتها إعلاميا، وتضييق الخناق عليها دستوريا ومؤسساتيا.
اكتشاف المزيد من azulpress.ma
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
التعليقات مغلقة.